سبحان من يعلم المفسد من المصلح !

مما لا جدال فيه أن غول الفساد الكاسر يعيث، منذ الانتكاسة الأولى للدولة الموريتانية الحديثة،في كامل جسم المجتمع؛ وأن خطر هذا الغول قد تفاقم تفاقما مريعا، خلال العشرين سنة الأخيرة من عمر الدولة؛ وأن المفسدين في الأرض من أبناء جلدتنا وأتباع ملتنا قد اغتالوا آمال الأجيال المتعاقبة في تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافئ الفرص والحياة الحرة الكريمة واللحاق بركب الشعوب الحرة المزدهرة.

ومما لا مراء فيه أيضا أن الآمال الوطنية العريضة معقودة منذ ربع قرن على عهد إصلاح حقيقي، يضع حدا للفساد فيجتثه من جذوره، ولتدهور الأخلاق والقيم فيعيد ترميمها؛ وأن عهد ما بعد 6 أغسطس 2008 قد أجج تلك الآمال من جديد في شرائح عريضة من المجتمع، ومن ثم منحت ثقتها للبرنامج الانتخابي للرئيس محمد ولد عبد العزيز.

ومما لا شك فيه، أن الإجراءات المتبعة حتى الآن في محاربة الفساد، قد أثارت الكثير من الجدل في مختلف الأوساط، بسب ما عبر عنه البعض بشبهات الانتقائية وتصفية الحسابات؛ فعلى الرغم من أن موجات التجريد من المناصب التي حملتها بيانات مجلس الوزراء في الآونة الأخيرة، قد جرفت عددا كبيرا ممن عرف عنهم دعمهم غير المحدود للرئيس محمد ولد عبد العزيز، مع ازدلاف لافت للنظر أحيانا لدى البعض منهم، فإن استهداف هؤلاء قد فسر بالانتقائية، حيث أن عددا غير قليل ممن يتولون مسئوليات جساما في مفاصل الدولة،هم- في الحد الأدنى- على شاكلة من تم تجريدهم؛ كما أن استهداف ثلاثة من أبرز رجال الأعمال في البلد مؤخرا، يعرف على نطاق واسع أنهم من خلصاء أحد الرؤساء السابقين، وينتمون إلى مدينة واحدة وعشيرة واحدة، قد تم تأويله على نطاق واسع بتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين.

ليس من شأننا اتخاذ موقف من الحجاج الدائر بين نظام يحث الخطى لتدارك ما يرى أنه وضع فاسد غير قابل للاستمرار، وبين معارضة تشكك في مصداقية الإجراءات المتخذة في هذا الصدد، فذلك شأن الساسة والمتنافسين على السلطة من أنصار كل فريق؛ كما ليس من شأننا استباق الكلمة الفصل للقضاء في إدانة أو تبرئة أي كان، فذلك شأن الادعاء وهيئة الدفاع والصحافة والمحللين.

ما يهمنا في هذا المقام، هو أن رمزا من رموز البذل والعطاء، وفارسا من فرسان النجدة والمروءة، قد شاءت المقادير أن يكون بين رجال الأعمال الثلاثة المعتقلين اليوم، على خلفية القضية المثيرة للجدل، ومن حقه علينا أن نبرز بعض قسمات وجهه المضيء، ونعرف بجانب من أياديه البيضاء التي ألفتها المآذن والمنابر والمعاهد والعلماء والمشايخ وحفظة القرآن والأئمة والمؤذنون وطلبة المحاظر وعمار المساجد، كما ألفها الفقراء والأرامل واليتامى والمحاويج من كل الفئات والشرائح الاجتماعية، إنه الشيخ عبد محم، الراعي الأبوي لكل هؤلاء، منذ أكثر من ثلث قرن.

عرفنا الشيخ عبد محم في سبعينيات القرن الماضي، وهو في مقدمة كوكبة قليلة العدد كثيرة العمل من رجال الخير والبذل والإنفاق في سبيل الله، يوم كانت عاصمة الجمهورية الإسلامية في أمس الحاجة إلى المرافق الوقفية الضرورية من مساجد ودور إيواء لطلبة المحاظر، فأنشأ وشيد وجهز، مع رفاقه من الرعيل الأول أمثال المرحوم الشريف حاجي سيدينا والمرحوم مولاي احمد ولد الغرابي والشيخ محمد عبد الله ولد الخرشي وغيرهم، العديد من المساجد مع التكفل بأئمتها ومؤذنيها، وعشرات المحاظر مع التكفل بطلبتها ومشايخها.

عرفناه في مبادراته الموفقة التي حطت عن كاهل المجتمع المسلم جملة من فروض الكفاية لا قوام له بدونها، فأخرجت لجنة المساجد والمحاظر من الظلمات إلى النور، وأنشأت الجمعية الثقافية الإسلامية وانتشلتها من حصار الحاجة إلى الوسائل، وأقامت الأوقاف الإسلامية، لتنفق من ريعها المبارك على جملة فروض الكفاية تلك.

عرفناه في الثمانينيات، وهو يكرس جهده وماله وجاهه ووقته للدعوة والدعاة، ويجهز البعثات تلو البعثات، تجوب طول البلاد وعرضها، تدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وقد تكفل بأزوادها ووسائل تنقلها، وكثيرا ما ترك مشاغله الجمة وخرج بنفسه معها، وعندئذ فهو سائقها، وهو خادمها، وهو خازنها، وهو مضيفها، وهو قبل كل ذلك قائدها.

عرفناه وهو ينشئ تحت الخيام في باحة الجامع العتيق بقلب العاصمة، مع رفاق الدرب من الرعيل الأول من فرسان البذل والعطاء، معهد ابن عباس للدراسات الإسلامية، ويستجلب له خيرة الكفاءات العلمية المتوفرة، ليستقبل كل عام فوجا من حفظة القرآن الكريم، قبل أن يصبح مجمع ابن عباس معلما بارزا من معالم نواكشوط، ويصبح مأوى مجانيا لعدد كبير من المنظمات الإسلامية العاملة في الميدان، ومجمعا مجانيا لمكاتب الحج والعمرة، وقد خرج المئات من حملة المتريز في القرآن والحديث والفقه والأصول، أخذوا طريقهم إلى ميدان المناصب والوظائف والنشاطات الحيوية في المجتمع.

عرفناه وهو يلتفت مع رفاقه لفتة كريمة إلى مئات من خريجي المحاظر، تأكل البطالة زهرة شبابهم وتتهددهم بالسقوط في درك الضياع والانحراف، فينشئ لهم مركزا لتعليم المهن الشريفة الرائجة في سوق العمل، قبل أن يتحول إلى معهد متكامل للتدريب المهني، هو معهد “اقرأ” الذي يمثل اليوم أحد معالم مدينة نواكشوط البارزة.

عرفناه في الملمات، عندما كانت الأيدي الآثمة لأمن ومخابرات النظم الطاغية تمتد إلى الأبرياء من الصالحين، فتزج بهم في السجون والمعتقلات، وتلفق لهم التهم الباطلة، وتشردهم كل مشرد، فكان يدا رحيمة تمسح دموع الأمهات، وبارقة أمل في الفرج تواسي الأسر والبيوت المنكوبة، وخلفا أمينا لمن نزلوا الزنازين ظلما، أو اجتازوا الحدود كرها، في بيوتهم وأموالهم وأعراضهم.

عرفناه يشق طريق المتاجرة مع الله مبكرا، وينفق من وقته وجهده في بذل الأموال وتوزيعها في السراء والضراء، على الفقراء والمعوزين وذوي الحاجات، أكثر مما ينفق في جمعها والتكاثر منها.

تلك بعض قسمات الوجه الصبوح الذي عرفنا من خلاله الشيخ عبد محم، ونريد لمن لا يعرف أن يعرف.

hmoulayely@yahoo.fr

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى