الصحافة بين الحرية والمسؤولية

علّمنا التاريخ أن تصوير الفواجع والخسارات بوصفها انتصارات هو أمر ممكن؛ و أن ذلك لا يدوم ؛ وأن التصفيق لأنفسنا ليس ردّا كافيا على ما تعرضنا له؛ ولا يساعدنا إطلاقا على فهمه، وأنه كلما كانت قناعة النفس أصيلة نظر الناس إلى الجانب العملي في وظيفة السلعة، فالسيارة عند البعض منزلة شخصية، وعند البعض الآخر حذاء يستخدم لقطع المسافات والتنقل من مكان إلى آخر، وأن الصحافة ينبغي أن تكون شعبية في المقام الاول غير تابعة للسلطة، معبرة عن الشعب مراقبة لعمل السلطة ، ومن واجبها أن تكون صحافة حرة تمارس مهامها بعيدا عن الضغط أو التأثير حتى يتسنى لها نيل ثقة الشعب ويعتبرها مرآة حقيقية لإرادته ، وأن تستشعر المسؤولية وتراعي المصلحة العامة عند اطلاعها بعملها فلا تميل إلى الإثارة ولا تستهدف الإتجار ولا تنحرف عن الصالح العام .

ولعل من المفارقات الأكثر إثارة للعجب أن بلدنا وهو الذي لم يعرف الصحافة بمعناها الجماهيري بعد ؛ قد مر بتجربة أحاطت بكل النظريات التي وضعها خبراء المجال ــ منذ اختراع جوتنبرج للمطبعة التي كان لها الفضل في ظهور الصحف ؛ وبعد ذلك بخمسة قرون اتاحة البنتاجون الإنترنت للإستخدام المدني بعد أن ظل عقودا حكرا على الإستخدامات العسكرية الأمريكية ليفتح الباب أمام المواقع الألكترونية لتنافس الصحف الورقية ــ فقد شهدت العلاقة بين الصحافة والسلطة في بلادنا فترات اشتد الصراع في بعضها حتى بلغ منتهاه فصودرت الصحف وطال الحظر العديد منها ، وسجن الصحفيون ، وعرفت بلادنا كذلك فترة مهادنة بين الخصمين تم اللجوء عند نشوب الخلاف إلى جهة ثالثة لم تكن سوى القضاء وإن وصف بمحاباته الدائمة للسلطة التنفيذية ، كما عرفت العلاقة في بلدنا كذلك فترة تفهمت فيها السلطة رسالة الصحافة واطلعت على أهمية دورها ، ووضعت معايير لتحقيق نجاحها في أداء مهمتها ، ولعل السمة الغالبة أن الجسم الأعظم من الصحفيين تماهى مع الأنظمة واقترب منها أكثر مما ينبغي له ، وارتاح على مقاعدها ، ولذّ له أن يسير في ركب المصفقين لها ، وتماثل مع صفاتها.. وإذا كان رجع صدى صحافتنا لازال باهتا إذا لم أقل غائبا فإن الصورة التي عكسها الإعلام الإقليمي “العربي” عن صورة بلادنا ظلت دائما مغشوشة أو موجهة في أغلب الأحيان ، وكمثال على ذلك أذكر أنه بعد أحد الإنقلابات المتعددة التي كانت بلادنا مسرحا لها في السنوات الأخيرةعمدت الصحف العربية إلى توجيه الذهن العربي الشقيق ، ففي صيف 2005 جمعني نقاش مع أحد الاصدقاء المصريين كان معجبا إلى حد بعيد بتكرار الإنقلابات عندنا لأنها بالنسبة له تعبر عن الرفض الشعبي المطلق للخنوع والإنبطاح أمام جبروت الحكام الدكتاتوريين ، وقد استوقفني حديثه عن أننا شعب معجزة وشعب مختلف ووطن مختلف . فقلت في نفسي كمن لايريد أن يكشف عورته ومساوئه أمام الآخرين الغرباء .قلت: مختلفون عمن بالضبط ! وعن ماذ ! كل الشعوب تحب أوطانها وكل الشعوب تحارب في سبيلها إذا اقتضى الأمر ، الشهداء يسقطون من أجل قضاياهم العادلة في كل مكان ، السجون والمعتقلات مكتظة بمناضلي العالم الثالث والعالم العربي في طليعتها ونحن جزء من ذلك الكل ، لقد عانينا وقدمنا تضحيات بلاحد ومستعدون لتقديم المزيد إن دعت الضرورة ، لكننا لسنا أفضل ولا أسوء من الآخرين باستثناء صحافتنا فهي دون نظيراتها، بلادنا جميلة وكذلك بلدان الآخرين ، علاقة الناس بأوطانهم هي التي تصنع الفروق فإذا كانت علاقة نهب ورشوة وفساد تأثرت بذلك صورة الوطن .
وضعنا مأساوي لكن المأساة مشوبة دائما بالملهاة عندنا ، الماكينة الإعلامية تطمس معنى المأساة وتصورها لنا وكأنها انتصارات، هذا مالم يكن متاحا في المآسي العتيقة عند كبار الكتاب والروائيين ، حين يقول هملت :” ثمة شيئ عفن في الدنمارك” فإنه لم يعد كونه ناقلا للحقيقة ، ألم يقل زعيم التطبيع الراحل أنور السادات إنه سيصفق لمن يستطيع أن يحقق أفضل مما حقق هو بمبادرته التاريخية ! وهلل وطبل الإعلام المصري لمقولته ، ولم تخطىء رصاصة خالد الإسلام بولي المسكين حتى يرينا إن كان سيصفق لإنجازات المقاومة بتحريرها للجنوب البناني وفك أسر المئات من المقاومين العرب من السجون الإسرائيلية ، لكن الإعلام المصري بقي ولم يصفق للمقاومة بل حمّلها مسؤولية جلب الخراب والدمار للبنان ! ومن أين للتعيس أوديب ببلاغة تنقذه من مآسيه بهذه البساطة ! ليس في لغة أوديب حرف الضاد ، أوديب لم يستطع أن يحول الكارثة إلى كرنفال أو عيد عكس صحافتنا “المبدعة”! عندما أراد شكسبير أن يكتب التراجيديا على حقيقتها كتب التراجيديا على حقيقتها، وعندما أراد أن يكتب الكوميديا كتب كتابة مختلفة عن هملت ولير .. في لغتنا نحن المنفردين بنعمة الضاد أصبح مألوفا أن نقرأ المأساة والملهاة في الصفحة ذاتها ، في الواقعة ذاتها ، في الخطبة ذاتها ، في الهزيمة والنصر ، في العرس والجنازة ، في ملامح وجهنا الواحد كل صباح.

الإستبداد عند مديري النشر ورؤساء التحرير هو الإستبداد نفسه عند السياسيين من الجانبين ، جانب النظام وجانب المعارضة ، القيادات لدى الطرفين تتقاسم الصفات ذاتها : الخلود في الموقع ، الضيق بالنقد ، تحريم المسائلة أيا كان مصدرها ، التيقن المطلق من أنهم دائما على حق ، مبدعون ، علماء ، ظرفاء ، مناسبون وجديرون كما هم وحيث هم !

في المجال الصحفي كما في المجالات الأخرى تجد من يتقن عمله ويؤديه مقتنعا به جهدا وشرفا وجدوى ، هنا من يعترض على واقع الصحافة والصحفيين لكنه يضع بإخلاص كل إمكاناته تحت تصرف المجتمع ليصنع ماهو أقل سوءا من السيئ المعاش ، ولكنك إلى جانب مثل هذا المناضل الصحفي الحقيقي تجد من يتنطنط بين المواقف والإيديولوجيات كالشمبانزي ليصل إلى الفرع العالي من شجر “الغابة” لكنه شمبانزي يتقن اختيار العطور الفرنسية وتحديد العمولة التي لايرضى بأقل منها ، يحب أولاده حبا حقيقيا وأمه وأباه(ربما) وزجته، ولا أحد غيرهم !..إنه شمبانزي يؤيد ثم يعارض ! ثم يؤيد لكنه يريد أن يبدو معارضا! ثم ينشق عن مؤسسته ويشكل صحيفة أو مبادرة أو حزبا ينضاف إلى الزحمة التي لامبرر لها، ويبدأ في إلقاء مواعظه البليغة على الناس حول روعة الوحدة وأهميتها وضرورتها . قديرضى وقد يحرد ، قد يتذلل أمام هذا ويستأسد أمام ذاك ؛ لكنه في الحالات كلها موهوب جدا وبارع جدا في تقديم خدمات جليلة لنفسه!.الحياة تستعصي على التبسيط كماترون !

وإذا كان دور الصحافة الوطنية قد تزايد بشكل واسع خاصة بعد الطفرة التي شهدتها الساحة في مجال الصحافة واعتمادها الضخم على شبكات المعلومات العالمية خاصة الإنترنت ، والتوسع في استخدام الإتصالات المستعينة بالحاسبات الإلكترونية مما زاد من قدرتها في التاثير على الأفكار والآراء والقيم الشيئ الذي طرح مزيدا من التحديات خاصة على مستوى حرية الإعلام وتشريعاته ، فقد كان للتطور الهائل والمتلاحق في مجال التكنولوجيا الإتصالية والتطور الديمقراطي الذي شهده بلدنا والإتجاه نحو القبول بمزيد من التعددية والتنوع في وسائل الإعلام تاثيرات مختلفة أكثرها إيجابي وبعضها سلبي.

وتشير هذه التطورات والتأثيرات إلى أهمية الفهم الواعي لضمان حرية الإعلام في المجتمع من حيث حق الوصول إلى المعلومة والحصول عليها وتداولها وتبادلها والحق في نشرها دون رقابة سابقة أو لاحقة ، وتضييق نطاق المحظورات إلى أدنى درجة ممكنة في إطار بعض التحفظات الأخلاقية والعسكرية ومايتصل بأمن البلاد “بمفهومه المحدد” ، وكفالة أفضل الظروف الملائمة لحماية الصحفيين من كافة الضغوط الداخلية والخارجية التي قد يتعرضون لها أثناء ممارستهم لمهنتهم إلى جانب ضرورة سن تشريعات وقوانين إعلامية تصف الحال وتأثيره الإيجابي والسلبي على الممارسة الصحفية في إطار مسؤولية الإعلام ، والوعي بخطورة دوره وسمو رسالته فلا حرية بلا مسؤولية، ولامسؤولية بلا حرية.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى