من أعلام شنقيط : الشيخ محمد المامي

وقلتم لا جهاد بلا إمام وألف ثعلب يقودها أسد نبايعه فهلا تنصبونا خير من ألف أسد إن لم تقد الحمد لله الذي تكفل بحفظ هذا الدين من عبث العابثين، وقيض له علماء مخلصين لا تأخذهم في الله لومة لائم، ينفون عنه كل تحريف، ويقومونه للناس في صورته الحقيقية، فيبينونه ولا يكتمونه كما أمرهم الله تعالى بذلك.

إذا كان هؤلاء العلماء على مر التاريخ في كل قطر، وفي موريتانيا خصوصا أكثر من أن يحصوا، فإن هناك نماذج منهم – وقليل ما هم- حفظ لهم التاريخ مكانهم اللائق بهم، أولئك هم العلماء الذين استطاعوا أن ينزلوا إلى واقع مجتمعاتهم، وبذلك استطاعوا إقامة الحجة والشهادة على هذه المجتمعات من جهة، ومن جهة أخرى استطاعوا إنقاذها بأن هدوها إلى الصراط المستقيم، وبينوا لها الحق من الباطل.

وقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

وألف ثعلب يقودها أسد خير من ألف أسد إن لم تقد

الحمد لله الذي تكفل بحفظ هذا الدين من عبث العابثين، وقيض له علماء مخلصين لا تأخذهم في الله لومة لائم، ينفون عنه كل تحريف، ويقومونه للناس في صورته الحقيقية، فيبينونه ولا يكتمونه كما أمرهم الله تعالى بذلك.

إذا كان هؤلاء العلماء على مر التاريخ في كل قطر، وفي موريتانيا خصوصا أكثر من أن يحصوا، فإن هناك نماذج منهم – وقليل ما هم- حفظ لهم التاريخ مكانهم اللائق بهم، أولئك هم العلماء الذين استطاعوا أن ينزلوا إلى واقع مجتمعاتهم، وبذلك استطاعوا إقامة الحجة والشهادة على هذه المجتمعات من جهة، ومن جهة أخرى استطاعوا إنقاذها بأن هدوها إلى الصراط المستقيم، وبينوا لها الحق من الباطل.

أجل… إن نزولهم إلى واقع المجتمعات خولهم الوصول إلى هذه المرتبة العليا، إذ استطاعوا أن يسدوا فراغا كبيرا طالما ظل يمثل تحديا خطيرا بالنسبة للمسلمين في كل زمان ومكان.

يمثل هذا الفراغ في أننا نجد علماء عرفوا الإسلام على المستوى النظري، وطبقوه في “خويصة” نفوسهم، ولكنهم يجهلون الواقع بأبعاده المعقدة غالبا، وبذلك يعيشون خارج معركة الحياة تقريبا، وبالمقابل نجد من يعرف ملابسات الواقع ولكنه لا يعرف الإسلام المعرفة الكافية لتطبيقه على هذا الواقع، وهكذا – على مر التاريخ – ظلت قضايا مطروحة على المسلمين عموما وعلى هذين الصنفين خصوصا، وهي قضايا ظلت دائما محورا لتغيير مجرى التاريخ، وميدانا لتكوين “عقليات” معينة، من تلك القضايا كالاجتهاد والتجديد، والجهاد، ونظام الحكم، وطبيعة العدالة… وبقدر ما طرحت هذه القضايا الكبرى بقدر ما ظل تصور هذين الصنفين حولها متوازيا، بل ومتناقضا في الغالب.

ومن فترة لأخرى وحتى وقتنا الحاضر لا نعدم أفذاذا حالوا سد هذا الفراغ الخطير الذي استغل من جهات حضارية معروفة للتشكيك في الإسلام والمسلمين، هؤلاء الأفذاذ وجدوا في بعض البلاد والعصور الإسلامية، ولكنهم في الغالب لم يفهمهم المجتمع، وخصوصا أقرانهم وشركاؤهم في العلم من الصنفين، وبذلك غمطوا حقهم فلم يقدروا حق قدرهم، سواء على مستوى عصرهم –كما أسلفنا- وسواء على مستوى البحث وكتابة التراث.

إن من بين هؤلاء الأفذاذ العلامة الشيخ محمد المامي – رحمه الله تعالى رحمة واسعة – وهو موضوع هذه الكلمة إلا أن كتابة سريعة وقليلة من هذا النوع – وفي هذا الإطار- عن عالم مثله هو ، قد تعطي صورة مشوهة غير دقيقة وغير لائقة، إذ قد يعجز صاحبها عن مجرد طرح “الاشكاليات” الهامة في تراثه، فهي وإن كان صاحبها يغترف من بحر متلاطم الأمواج، إلا أنه يقف حائرا من أي نقطة يبدأ وعلى أية ناحية يركز؟ هل يقدمه:

أديبا، لغويا، فقيها، مفتيا، أصوليا مجتهدا، منطقيا متكلما، سياسيا محنكا يحاول إقامة الدولة الإسلامية، اجتماعيا يحلل أوضاع المجتمع ويهتم بها مقدما لها الحلول.

في الحقيقة: تكاثرت الظباء على خداش فما يدري لايتها يصيد ولشد ما تمتلكنا الدهشة عندما نجد أن هذا العالم البارز لم يقدم حتى الآن على أي مستوى، فشمل هذا الإهمال، بل التفريط: تحقيق مؤلفاته الجمة، وتحليل أفكاره الطريفة في الغالب، وجمعها و”هيكلتها” في نسق علمي مقبول، فهو لم يكتشف حتى الآن، وبذلك لم يعط المكانة اللائقة به في مجال البحث، وهنا نهيب بالباحثين أن يهتموا بهذا العملاق الجدير بذلك وقد يستغرب البعض هذه النبرة الخطابية التمجيدية، إلا أن الجواب على ذلك هو الرجوع إلى تراث الشيخ محمد المامي نفسه.

إننا قد نصدم القارئ بأننا لا نعدو –في هذه الكلمة الموجزة- أن نقدم هذا العلامة تقديما سريعا مركزين على التعريف به وعلى بعض الجوانب المهمة – في نظرنا- من فكره، جاعلين اعتمادنا في التعريف على:”مفاد الطول والقصر” ، شرح نظم الشيخ محمد المامي للمختصر، لمؤلفه محمد الخضر، كما سيلاحظ القارئ ، ثم نعتمد في الجانب الآخر على بعض مؤلفاته، مثل: كتاب البادية المسمى صوف الكلاب ، الرد على الشاب الأرازي والقصيدة المسماة الدلفينية. التعريف به: هو أبو عبد الله / محمد المامي بن محمد البخاري، بن حبيب الله بن المختار الملقب: (بارك الله فيه) واسم أمه مريم بنت محمود بن عبد الله بن بارك الله فيه.

ومحمد المامي كما هو واضح تتركب من لفظتين، يمكن أن تكون الأولى مضافة للثانية، كما يمكن أن تكون الثانية نعتا للأولى ، و”المامي” لفظ عجمي بمعنى الوالي مبني على كسر مضخم (ميمين) وقد دأب هو على التعريف بنفسه، فكان يذكر اسمه الكامل ومذهبه في العقيدة والفقه، ومنطقته بالمفهوم الواسع (المغرب العربي) أما قبيلته وبيئته، ففي بداية نظمه لمختصر خليل:

محمد الذي له المامي علم ابن البخاري بين ضال وسلم

الأشعري المالكي المذهب المغربي البركي النسب

وفي مقدمة نظمه لأهل بدر:

قال محمد الفقير لله اللاهي سمى والي “بوصياب” المامي ابن البخاري بن حبيب الله صاحب الاستهداف بالأنظام ولد في مطلع القرب الثالث عشر (1206هـ وتوفي سنة 1282هـ ودفن في جبل بتيرس يقال له (أيك).

وعن شمائله العامة وسيرته الطيبة نكتفي بما قال محمد الخضر: أخبرني الثقاة بأنه أعقل زمانه، وأنه جميل الصورة، زاهد لاسيما فيما بأيدي الملوك، كريم الخلق، مدار للناس، منصف، ذو مروءة، نحار ينحر كل ليلة جمعة كثير ضيف ومواساة ، مشهور كشف وكرامات، على يديه كثيرا ما يكثر موجود ويعذب ملح، ويتتمر نحو دباغ .

أما آباؤه فهم بيت علم ذكورا وإناثا ، فخال والدته شهير بالعلم والورع، اسمه سيدي عبد الله بن الفاضل بن بارك الله فيه، وقد أثنى الشيخ الأمير غاية في الجامع الأزهر على سيدي عبد الله هذا، وعلى أجوبته بأسجاع مرصعة بلغتني في أوراق ، وهو أي سيدي عبد الله من الذين جاءوا إلى الأزهر، وأقام بمصر لفترة، وحاول رحمه الله أن يكون زواج والد الشيخ محمد المامي من والدته سنيا فمنع الدف، يقول الشيخ محمد المامي نفسه.

والفحل عبد الله نجل الفاضل خالي حامي الدف ذو الفضائل

فلم يكن دف عند اجتماعهما فقد حماه خالها هي.

علمه: نبدأ بأشياخه الذين أخذ عنهم العلم، فما هو معروف عند ذوي العلامة أنه لم يأخذ العلم من أفواه الرجال، كما هي العادة ن فلم يتصدر عن علماء معروفين بل وصل إلى مكانته العلمية العالية بمجهوده الخاص، ويدل على ذلك تشكك محمد الخضر الذي لم يذكر له شيخا، إلا قوله:

لله در كتاب أخيه مجذوب الله سيدي عبد العزيز، ويقال أنه هو شيخ الناظم ، وهي مسالة نادرة ، وقد وجد بعض الأفراد الذين يقال أنهم عصاميون في هذا المجال ، مثل محمد فال بن متالي الذي يقول:

وجاز أخذ الفقه والتصوف من دون الأشياخ وعنهم إذ اقتفى وقد يكون هذا من الأسباب التي أدت إلى التجاوب بين هذين العالمين بصفة خاصة دون غيرهما.

أما تدريسه، فقد كانت مدرسته عامرة بالطلاب الذين أخذوا عنه مختلف المواد العلمية، وكان ينتهج نهجا تربويا في معاملتهم حيث يداعب تلامذته ويتوسل بهم وبهممهم وكدهم وأفعالهم، وبآبائهم ، فلا شك في الأهمية التربوية في هذه النواحي التي كان يركز عليها، وكان يحرص أن يستفيد منه جميع الطلبة بمختلف مستوياتهم حتى الذين لا يقرءون ولا يكتبون استفادوا منه، فكان يقول: “ما تكون الفكرونة خيرا منا.

أما معرفته فقد أدهشت معاصريه وغيرهم، ونطلع على علمه من خلال مؤلفاته الجمة التي ستذهل القارئ كثرتها وطرافة مواضيعها، لذلك لا نستغرب أن يقول بعض أهل عصره أنه موقف عقل ، وأنه فائق في كل علوم الشرع وخصوصا الشرعية الثلاثة ، وقد شملت هذه المؤلفات كل المواضيع العلمية إذ أنه ما من فن إلا وله فيه تصانيف ، وحكى لي من أثق فيه أنه قال له:

“ألفت في القرآن مائة مؤلف ولم يسألني أحد عن مسألة منها قط” … وقال لآخر ألفت في كل فن مائة، ولآخر لم أألف في الفقه لأنه فني وإنما وضعت فيه اربعمائة فقط وبينما هو يملي على ابنين له اسماء تاليفه يكتبانها كل بيده ورقة وقلم إذ قال :

وقررت في نفسي تفسير القران الكريم مائة سفر ثم قال بعض التلاميذ : كتب منه ستة على البسملة ومن طريف مؤلفاته نظمه لواضعي الفنون الاول من ألف في كذا وكذا .. انظر تاليفا على واضع كل فن… بعد هذا لا نستغرب قول محمد الخضر :

ما علمنا في الأمة أكثر من الناظم تصانيف ولو سراج الدين ابن الملقن , أو السيوطي فيما أرى فهو أعجوبة دهره وبذلك يخرج الشيخ محمد المامي عن نطاق قطره ليرقى إلى مصاف الأعلام الذين اشتهروا بالعلم والتأليف على مستوى العالم الإسلامي . ومن محاسبة المنهجية أنه يذكر تآليفه دائما في بعضها مثل : “جفنة الدولاب” , و”السلطانية” و”مقدمة لعلم التربيع” ففي كل واحد من هذه المؤلفات يذكر بعض مؤلفاته ولنأخذ مؤلفاته في الأصول مثالا لغزارة علمه وإطلاعه فقد ذكر انه ألف فيها مائة تأليف وتأليفا ’ يقول في السلطانية : آخر ما ألفت في الأصول وليس من ذلك نظم الورق متمم المائة للوصول لأنه لصبية التملق وقال في تأليفه المسمى ( عجالة الأراري ) صنفنا في الأصول مائة جمعنا فيها ما ورد القطر الشنظوري من كتبها , للمستصفي , ولم يعد نظم الورقات لقوله في خطبه :

ومخطيء مثلي لايلام لأنني في الفن إذ غلام

ولأنها جمع قلة ولصغر سني إذ من هنا نعرف انه استوعب جميع الكتب الأصولية التي وصلت قطرة , ثم إنه كان مهتما بجمعها وتحصيلها إلى درجة أنه زار ضريح الكنتي متوسلا به إلى الله للحصول على كتب الأصول فحصل على مائة وعشرين منها وتدبرها وحفظ ما فيا ويبدوا لي والله أعلم أن هذه الكتب حصل على بعض أسمائها وعلى بعضها مباشرة وسبب هذا الشك ما قاله محمد الخضر.

أخبر بخمسة عشر كتابا دخلت أرضه فيها ما في المائة والعشرين لتكون مصداقا لما حفظ ثم إنه برع في علم الجدال : يقول في صوف الكلاب ـ عن مؤلفاته في هذا الميدان ـ إن ثلاثين من المائة وأنفسها الميزابية في علم الجدل وأثناء زيارته للكنتي وبعد حصوله على كتب الأصول نظم الميزابية وما أجودها وقال في الرد على الاراري : مقتضيات التقدم المرجحات : باب من الأصول ألفنا فيه تأليفا له اثنتا عشرة مقدمة وخاتمتان إحداهم : صرف الاستخشان عن وجوه الاستحسان وفيها تراجم تسمى بأفيال النحاس كأنها برطيل احمد بن طيلون الذي دونه أفيال نحاس بلعت صاحب احمد هذا وقد شاع مصطلح في المحاضر الموريتانية وهو المتمات وتعني التبحر في الأصول والمنطق والبيان والعلوم غير المعهودة وكان هو يعتني بها ويقول : مخالطة المتمات تنفي الجهل كما تنفي الفقر مخالطة الروم.

أما الفقه فقد ذكر انه هو فنه الأصلي وأنه وضع فيه أربعمائة مؤلف ويكفي في تفوقه فيه أن عالما فقيها مثل محنض باب ابن عبيد يحضه على التأليف فيه وأن يتداركه من الضياع فألف كتاب البادية الذي قال فيه : ومما حملني على هذا الموضوع قول محنض باب لي لما تدبر نظمي لخليل أدرك الفقه فإنه خرج من الأيدي أما أسلوب مؤلفاته فقد ألف بالنظم والنثر أما النظم فقد كان ينظم باللهجة المحلية (الحسانية) وباللغة العربية الفصحى وأخيرا عدل إلى التأليف بالنثر فما من فن إلا وله فيه تصانيف نظما ونثرا فصيحا ومحليا وأنظامه العلمية باللهجة المحلية غزيرة جدا ومتنوعة المواضيع وما ذلك إلا مظهر من مظاهر تكيفه مع المجتمع ونزوله إلى واقع الناس ليخاطبهم بما يفهمون ليستطيع إفادتهم وإرشادهم وهذه الأشعار العامية جديرة بالدراسة والتحليل إذ تحتوي على كثير من التاريخ والعقيدة والفقه وغيرها وفيها الكثير من المفاتيح لبعض القضايا التاريخية والعلمية.

وقبل البدء في أنظامه الفصحى فإننا نعرج على شعره قليلا فهو شاعر مجيد طويل النفس فأشعاره كثيرة عربية وبربرية ولا تقع تحت حصر إلا انه كان يقتصر على بعض المواضيع الخاصة مثل الاستسقاء والابتهالات والمراثي ومدح الرسول (ص) وعن ذلك يحدثنا محمد الخضر قائلا: بارع في الشعر بنوعيه ولم أرى أكثر منه استسقاء وكان كثير الرثاء لأهل العلم والسيادة وكان يمدحه صلى الله عليه وسلم كل عام بقصيدة يسميها حمراء العرقوب وأشعاره في علم الحقيقة لا تحصر كتآليفه فيها وانشد محمد فال بن متال يوما أبياته التي أولها:

طال ليلي من بعد طول نهاري ولغوبي فلم يقر قراري

مستعذبا لها وقال لا حشو فيها ولا تتميم وهذا لا يسلم منه غالبا.

أما طرافة أشعاره ومؤلفاته فهي واضحة ومعروفة فهو كثير الإغرابات في كل علم لكن لا يطلع عليها إلا المقتدرون المنتبهون وكان محمد فال بن متالي يستجيدها بالغة ما بلغت وكان محمد الخضر يستشهد لغرابة أفكاره وغموض أسلوبه أحيانا بقول الشاعر : ما كل قولي مشروح لكم فخذوا حتى يصير إلى القوم الذين غذوا ما تعلمون وما لم تعلموا فدعوا بما غذيت به والذهن مجتمع وتتجلى هذه الغرابة- في نظرنا – في كثير من المظاهر لا يستطيع تفسيرها إلا من رجع لهذا التراث وغربله بصفة متأنية، ولكننا نعطي نماذج بسيطة من هذه المظاهر:

أولاها: طرافة تسميته لمؤلفاته: (الدلفينية – الميزابية- صوف الكلاب- جفنة الدولاب- الشيخ الأقرن – الشيخ الأجم- الجرارة الصفراء – الزعفرانية – وكثير كثير غير ذلك.

ثانيها: التطرق إلى مواضيع غير معروفة على مستوى منطقته، مثل علم الهيئة والتاريخ والمنطق والأصول إلى غير ذلك.

ثالثها: تعريب الأمثال والقصص الشعبية والعكس، واستغلالها في توضيح بعض المفاهيم مما يجعل فهم قوله صعبا بالنسبة لمن يدرك مدلول تلك القصص ومختلف العلوم، وكأنها عادية وذلك في أسلوب مبتدع طريف إلى غير ذلك من المظاهر التي تتجلى فيها البراعة والإبداع والقدرة على تطويع المفاهيم كوسائل للإيضاح.

أما مؤلفاته بالأنظام، فقد احتل النظم مساحة كبيرة من تأليفه وهذا النظم على نوعين:

– أراجيز على غرار أنظم ابن مالك والسيوطي وأمثالهما.

– قصائد مطولة في البحور الخليلية، نظم بها بعض الكتب وبعض العلوم وطرح فيها بعض المسائل المهمة، وقد اشتغل بالأنظام إلى درجة أنه اشتهر بها، إذ يقول عن نفسه :

صاحب الاستهداف بالأنظام. فكان يستحسن النظم شانه في ذلك شأن العصور التي سبقته، وشأن عصره، فكان النظم ظاهرة شائعة بين جميع المؤلفين في عصور الانحطاط، فشاعت الأنظام بالآلاف مثل: ألفية ابن مالك وألفية السيوطي، وألفية فلان وفلان، ونالت موريتانيا قسطها الأوفر من هذه الأنظام، وحسب اطلاعنا المحدود فإن الشيخ محمد المامي هو أكثر الموريتانيين أنظاما، وكان يستحسن الأنظام، من ذلك قوله في نظمه لخليل: والنظم قد يوجد منه منسجم وبالمشكك الذي منه انسجم وغيره فبالتواطؤ وسم وكله أحظى من النثر علم وكقوله في نظم دلائل الخيرات: والنثر حفظه من القلائل والنظم قهرا داخل الألباب لاسيما إن كان كالدلائل بغير إذن لانفتاح الباب وقال في نظم ورقات الحرمين: إذ كل در فالنظام زائد في حسنه والقدر قدر واحد أما أسلوبه في هذه الأنظام فيمتاز بالانسجام والسلامة، قال محمد الخضر عنه: “والانسجام هو الغالب على أنظام الناظم عند من وضع له مغزاها وذاق حلاوة وصل ليلاها ، وقال مولود بن أحمد الجواد الملقب بـ”أصمعي اللغة” أنه أسلس من غزل أبي تمام ، ثم إن الباحث في الحياة العلمية لهذا لعلامة يندهش لهذا العدد الضخم من الأنظام الذي لم نجده عند الأفذاذ الناظمين للعلوم، ولنستمع إليه هو يحدثنا عن بعض أنظامه، فيقول:

“أعلم أنه لما سخر الله لي بمنه وكرمه نظم خليل بذلك التاريخ تمت ألوف خواتم النظم: كنظم ابن القاصح في نحو ألفين – ونظم القواعد الجامعة للونشريسي – والمنهج في نحو ألفين- ونظم دلائل الخيرات في نحو ألف – ونظم أهل بدر من استيعاب ابن عبد البر- و(؟) الصحابة في نحو ألف- والخراج الأول المحاذي للعاصمية في نحو ألفين – واللازوردية في اختصار الماوردي في نحو مئتي بيت مع شرحها . وحكى ابن متالي أن الناظم سئل أنظمت خليلا كله؟ فقال:

نظمت بعد انتهائه ألف بيت متصلة به ، فإذا عرفنا أن نظم خليل يبلغ عشرة آلاف بيت مضافة إلى هذه الآلاف الأخرى وغيرها من الأنظام الكثيرة عرفنا طول باع العلامة في النظم.

وكان يفتخر بهذه الأنظام ويقول أنه طوق بها بلاده مجدا كما أنه لم يسلم رحمه الله تعالى من إنكار تفوق المشارقة على المغاربة المعروف عند علماء المغرب العربي، فذكر أن مصر عجزت عن نظم دفترها خليل الذي ألف فيها فاستطاع هو نظمه، وذكر أنها تعجز عن ذلك كما تعجز عنه تونس، يقول في السلطانية: طوقتكم بهن مجد الدهر فدونكم إبل نظم لا تلد ولم يكن مصيركم والتونسي ورأيكم إلقاؤها في البحر تحمل أثقالكم إلى بلد بالغه إلا بشق الأنفس وكان يتحدى منتقديه فيطلب منهم البديل الأفضل ما داموا ينتقدون أنظامه: ومن يعب كتابه فليكتب المثل الأعلى بماء الذهب مدلول “من عاب كتابه فليكتب تحتها”، أي من عاب نظمنا فلينظم المختصر كنظمنا له، ولعله بلغ أهل مصر تعجيزه لهم، عن نظم كتابهم في الشعر، عربي وحساني .

وبعد هذا كله ورغم أن الأنظام واقع علمي مفضل، فإن الشيخ محمد المامي استطاع أن يتجاوز هذا الواقع بنظرة نقدية تربوية غريبة على عصره، بل سابقة لأوانها، إذ تنبه إلى الأهمية التربوية للنثر فقال:

“ثم ظهر لي أن العلوم لا يجدي فيها النظم شيئا لبطء سيرة بحرفة الوزن والروي، فاهتممت بما ينفعني من أودية النثر كالثلميات ، في أحكام البادية، وقدمتها على سائر المنثورات، وبعد فراغي من منثورة الملل والنحل التي تضمنت أديان الكفر وأديان المعتزلة وشرائع الأنبياء الأول، والمذاهب الأربعين المندرسة والمذاهب الأربعة المجددة، نظرت في علوم الأسرار بعد أني سبقت فيها ، بعد هذا كله لا نستغرب تفصيل محمد الخصر له في كثرة التآليف على السيوطي وأمثاله ، إلا أننا نأسف كامل الأسف لضياع هذه المؤلفات، إذ أن تأليفه لا يحفظ عشر عشير معشارها بتكرير إضافة ولا غاية، فاستطلع ، وذلك لثلاث :

– لجهل البداة وجفائهم، كما في الحديث وغيره.

– ولعموم داء الحسد كما قال: عمكم الحسد حتى قد حشر يا ثالث القرون من بعد عشر وقال في قواعده: وحسد في ذا الزمان ظهرا قد كاد يخفي شمسه والقمرا وللزهد اليوم في العلم .

زر الذهاب إلى الأعلى