المعارضة الموريتانية تلوح بمقاطعة الانتخابات
ما يجري من حراك سياسي على الساحة الموريتانية وصل حد “الأزمة السياسية”، وبلغت فيه لغة الشتائم المتبادلة بن القوى السياسية “حدا لا يطاق”، ما يعني أن القوى الموريتانية كسرت قاعدة “المتحول” السياسي، وأجبرت المشهدية الحالية على “التحجر” وسط متابعة دقيقة من الشارع الموريتاني لمآلات الجولة الجديدة من الصراع بين قطبي الجنرال عزيز والمعارضة .
تمكنت المعارضة الموريتانية خلال الفترة الوجيزة الماضية من تفعيل خطابها متجاوزة الدعوة للحوار إلى إعلان النية الصريحة بالإطاحة بالنظام، وهو ما قوبل بتجاهل شخصي من الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وباستهزاء تام من قبل قادة أغلبيته الرئاسية .
فيما بدا المجتمع الدولي وكأن الأمر لا يعنيه، وأظهر ب “شكل فج” أن معاناة المعارضة الموريتانية أمر داخلي محض أو هي “معارضة مدللة”، بحسب تعبير دبلوماسي أوروبي بنواكشوط في جلسة خاصة .
بل أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية ضباطاً وخبراء من جيشها لتدريب القوات الموريتانية في جنوب البلاد (ولاية الترارزة)، فيما يباشر ضباط وخبراء فرنسيون تدريب القوات الموريتانية في المنطقة الشمالية التي تضم ولايات (أدرار تيرس زمور تكانت) . وهي المنطقة العسكرية الأكثر حساسية في البلاد، والخط المتقدم لمواجهة نشاطات “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” . وتشير المعلومات إلى أن الجيش الموريتاني بدأ بالفعل يمسك هذه المنطقة الوعرة بقبضة من حديد لأول مرة منذ ثلاثين سنة .
هذا في وقت انشغل الرأي العام الموريتاني بتداعيات الأحكام الصادرة على السجناء السلفيين، إذ أصدرت سلطات نواكشوط ما اعتبر أقسى أحكام تصدر عن القضاء الموريتاني في حق سجناء تيار السلفية في البلاد، وهي الأحكام التي تراوحت بين الإعدام في حق ثلاثة شبان منتمين لتنظيم القاعدة متهمين بمقتل 4 سياح فرنسيين شرق موريتانيا في 24/12/2007 في أول سابقة من نوعها ضد رعايا أجانب، والسجن والأعمال الشاقة ومصادرة الممتلكات في حق أغلبية الذين تمت محاكمتهم، فيما أبلغ 54 سجيناً ممن يعرفون ب “التائبين” أن ملفات محاكمتهم لم تكتمل .
هذه الأحداث أعطت الانطباع بأن الجنرال ماض في الحرب الإقليمية ضد القاعدة في الساحل العربي الإفريقي بدعم غربي واضح، وهو ما يعني أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز بات ضمن الرهان الإقليمي للقوى الكبرى، الشيء الذي يؤهله لحصد التمويل والدعم لاقتصاد البلاد .
وهكذا يبدو أن المجتمع الدولي (بمفهومه الأمريكي)، وتحت إكراهات الواقع في منطقة الساحل، قبل التغاضي عن طموحات الجنرال و”استقلالية” قراره السيادي بعد أن أصبح يتمتع بعلاقات ممتازة مع محور الممانعة (الأسد، نجاد، تشافيز، القذافي، البشير، أردوغان . . .)، بعد خطوته الشجاعة بقطع العلاقات مع “الكيان” الصهيوني .
وكل هذا لا يصب في مصلحة المعارضة الموريتانية التقليدية، التي راهنت كثيراً على عزلة دولية للجنرال، فإذا بها تبدو وكأنها متفاجئة بشكل كبير من تمكن ولد عبد العزيز من تحقيق هذا “النجاح الدبلوماسي” الذي جمع من خلاله دعم محوري الممانعة والاعتدال.
لقد بينت كواليس الأسبوع الجاري في موريتانيا أن الجميع انغمس في أجواء الانتخابات المرتقبة . وهذه هي “الخلاصة” الحقيقية لخلفية الحراك الجاري حالياً .
وإذا كانت الأسابيع والأيام الماضية قد كشفت بما لا يدع مجالا للشك أن “الخارج” حسم أمره لصالح دعم الجنرال، فإن “الداخل” بحسب مؤشرات ميدانية بات في قبضة الأغلبية الرئاسية مع انتهاء حملة انتساب “حزب الاتحاد من أجل الجمهورية” الحاكم . و”المفعول السحري” على المواطنين الموريتانيين الذي تركته المشاريع التنموية المعلن عنها أساسا في قطاعات المياه والكهرباء والإسكان والنقل والزراعة والبنية التحتية .
كل ذلك لا يترك بصيص أمل في “معركة متوازنة” بين النظام والمعارضة التي عملت بكل قوة مؤخرا على تحريك الملف الاجتماعي بكل تداعياته الانفجارية . . (إضرابات نقابات التعليم والصحة، ثورة الحمالين، ملف النفايات السامة، إثارة موضوع أزمات الصيف . .) .
وتكشف المعلومات التي توفرت ل “الخليج” هذا الأسبوع أن الأغلبية الرئاسية المساندة للجنرال عزيز تتجه لتحقيق فوز ساحق في الانتخابات النيابية القادمة، ومن شأن هذا الفوز أن يضع حدا لتواجد معتبر للمعارضة في المجالس الانتخابية البرلمانية والبلدية . حيث تتمتع المعارضة الآن بكبريات بلديات البلاد، فضلاً عن رئاسة البرلمان .
واطلعت “الخليج” هذا الأسبوع على تصور أعدته جهة سياسية مطلعة حول الخريطة الانتخابية الجديدة المتوقعة، وبين التصور المبني على لائحة الانتساب للحزب الحاكم، وكذلك ترحال الشخصيات الاجتماعية والنيابية من المعارضة إلى الموالاة، أن الحزب الحاكم والأغلبية الرئاسية بإمكانهما تحقيق فوز في النيابيات يصل إلى قرابة 75 نائباً من أصل 95 مقعداً هي عدد مقاعد “الجمعية الوطنية” .
ويعني هذا أن أحزاب المعارضة “الراديكالية” و”المعتدلة” ستتقاتل مجتمعة على 25 مقعداً نيابياً فقط، أما البلديات فيتوقع أن تحقق فيها الأغلبية الرئاسية فوزاً موازياً لما تحققه في النيابيات رغم قانون النسبية الذي يفتح المجال أمام المستشارين البلديين لاختيار العمد بغض النظر عن اللائحة الأولى انتخابياً .
لكن هذه الصورة معكوسة لدى أنصار المعارضة الذين يتوقعون “سقوطا مدويا” للحزب الحاكم في الانتخابات المقبلة ويراهنون على استياء أوساط اجتماعية معينة من المحاصصة التي يتبعها ولد عبد العزيز في حكومته وكذلك شعور أطر بارزين في الحزب الحاكم بتعرضهم للتهميش والظلم في عملية الانتساب الأخيرة التي دفعت بمنافسيهم المحليين إلى واجهة المسؤوليات الحزبية . كما حدث في مقاطعات “آمرج” و”واد الناقة” وعشرات المقاطعات والبلدات الأخرى . والتي أصبح لا هم لممثليها سوى التنقل مع شكاويهم بين الحزب الحاكم والرئاسة .
ويرى المحلل السياسي، رياض أحمد الهادي، أن معطيات عديدة بدأت تطفو على السطح السياسي تدفع إلى التكهن بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة (الانتخابات العادية السنة القادمة)، منها التذمر الذي ما فتئ ولد عبد العزيز يعبّر عنه من أداء فريقه البرلماني المتثاقل والعاجز عن الدفاع بفعالية عن النظام، كما يبرره أيضاً السعي إلى قطع الطريق أمام الفريق البرلماني للمعارضة المستعد لخوض مواجهة شرسة، والرغبة الجامحة لدى رئيس الجمهورية في التخلص من خصم لدود بات يؤرقه بشكل جدي هو رئيس الجمعية الوطنية، مسعود ولد بلخير.
المطلوب من النظام
لكن الدخول في أية انتخابات برلمانية تضمن الفوز الساحق لحزب السلطة، يضيف ولد الهادي، يتطلب من النظام تأمين:
تهدئة الجبهة الاجتماعية المتوترة بدءاً بالصراع مع العمال وانتهاء بالاحتجاجات الطلابية، وتركيز انتباه الرأي العام إلى ما يعتبره سلسلة انجازات وسلسلة وعود قابلة للتحقيق على المدى القريب .
تحسين الظروف المعيشية للمواطنين بشكل ملموس فليس من الحصافة أن يقدم النظام على انتخابات في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد .
احتواء الخلافات ذات الطابع القبلي التي غذتها عمليات الانتساب الأخيرة للحزب الحاكم .
فيما يضيف المحلل السياسي محمد ولد أحبلاله القول ل “الخليج” إن تحقيق الجنرال ولد عبد العزيز لفوز كاسح في البرلمان سيكون “آخر رسالة” بقوته الشعبية، لكن ذلك يتطلب العمل من وجهة نظره على “لم شمل الحزب الحاكم وإرضاء قادة القواعد المتذمرة”، و”توفير تمويل سخي للأغلبية الرئاسية في الانتخابات القادمة، إذ يعد المال السياسي لاعباً رئيسياً في الانتخابات النيابية بالذات”، و”اتباع سياسة إعلامية تحد من طغيان خطاب المعارضة التقليدية على المشهد السياسي في البلاد” .
وينوه إلى أن معركة الانتخابات النيابية المقبلة قد تكون أعوص معركة انتخابية نيابية في البلاد بالنظر إلى أن قوة أي حزب سياسي باتت تحسب بعدد المقاعد النيابية التي يحصدها في الانتخابات .
ويشار إلى أن أكثر من نصف الأحزاب السياسية الموريتانية الحالية (76 حزباً في البلاد) تأسست بعد النيابيات الماضية، وأغلب هذه الأحزاب سيواجه تحديا حقيقيا لإثبات أحقيته السياسية بدخول البرلمان . وبدلا من ذلك الخروج من صفة “حزب الشنطة” . وهي الصفة التي حرمت قرابة خمسين حزبا سياسيا من الحصول على أي مكسب مادي أو معنوي معتبر طيلة الفترة الماضية .
مقاطعة الانتخابات
غير أن الجديد الذي قد يعصف بالكثير من المعطيات والتحضيرات الحالية هو ما كشفه المصطفى ولد بدر الدين، أحد أبرز زعماء ومنظري المعارضة الموريتانية في تصريح ل “الخليج” يوم السبت الماضي حيث لوح إلى احتمال مقاطعة المعارضة للانتخابات، وقال ولد بدر الدين بالحرف “إن النظام ما لم يعمل على حل المشكلات القائمة حاليا باللجوء للحوار وإشراك المعارضة في التحضير للانتخابات القادمة، فإن احتمال مقاطعة المعارضة لتلك الانتخابات يبقى وارداً” .
ولا يعني تصريح من شخصية معارضة بهذا الوزن سوى أن المعارضة الموريتانية قد تلجأ ل “الورقة الأخيرة” الخطيرة وهي دفع ولد عبد العزيز إلى منافسة نفسه في النيابيات القادمة، ما يعني فقدان البلاد بريق “التعددية” والعودة إلى الحقبة الباردة ل “الأحادية المطلقة” .
سيناريوهات “يونيو”
لم يرتبط شهر بأذهان الموريتانيين المعاصرين كارتباط شهر أغسطس/ آب الذي أسس لمرحلة جديدة في تاريخ البلاد بعد انقلابي 3 أغسطس و6 أغسطس 2005 و2008 .
لكن شهر يونيو (حزيران) لا يبدو “متأخراً” كثيراً عن “أغسطس”، إذ في يونيو 2003 جرت أكبر محاولة انقلابية دموية في تاريخ البلاد، أسست للحقبة “الأغسطوسية” الراهنة .
وسيكون ل “يونيو” الجاري أهمية خاصة، في بلورة التشكيلة السياسية والحكومية التي ستقود البلاد للسنوات الأربع القادمة .
ففي العشرين من يونيو (حزيران) الجاري، ستلتئم طاولة المانحين الخاصة بموريتانيا في بروكسل، ويسعى ولد عبد العزيز للحصول على تمويلات نوعية للاقتصاد الموريتاني . تترجم مكانة النظام الإقليمية التي يروج لها، الأمر الذي سيسمح له بإكمال ولاية رئاسية “مريحة” مالياً .
كما علمت “الخليج” من قيادة الحزب الحاكم أنه حدد يوم 25 يونيو (حزيران) الجاري موعدا لمؤتمره الوطني الأول، حيث سينتخب الحزب قيادته الجديدة، وبذلك تكتمل هياكله .
ويرى محللون موريتانيون أن الحدثين المهمين المرتقبين سيضعان البلاد أمام مرحلة جديدة، لعل الأهم فيها هو “البت بشكل نهائي” في مصير حكومة رئيس الوزراء مولاي ولد محمد الأغظف .
فهل سيتمسك ولد عبد العزيز برئيس وزرائه التكنوقراطي الوفي، والذي يحلو لأنصاره القول إنه لم يسجل عليه أي خطأ لا في السياسة ولا في التسيير، رغم أنه أدار العمل الحكومي في واحدة من أصعب مراحل البلاد سياسياً واقتصادياً وأمنياً، أم أن الرئيس ولد عبد العزيز سيدشن مرحلة جديدة بحكومة سياسية تعبر عن الائتلاف الحزبي الحاكم، وتستجيب لرغبة قوى اجتماعية وسياسية متعددة ترى أن الحكومة الحالية استقالت من العمل السياسي وفشل أكثر من ثلثيها في تقديم أداء مقنع .
يتوقع، إذن، أن يؤسس شهر يونيو (حزيران) الحالي لنقلة “واضحة” في مستقبل العملية السياسية في موريتانيا، حتى وإن كانت أوراق الجنرال عزيز تضفي دائماً مسحة غموض على ذلك المشهد.
المصدر : أقلام حرة نقلا عن الخليج