درس في الاحتفاء بأبطال الحرية .. وتحية للشيخ غلام
أتصور أن لنفوس هذه الجماهير مفتاحا ” سحريا ” قل من يستطيع الوصول إليه .. شط بعدا حتى لا يكاد يتطاول إليه أولوا العزم ، ودنا قربا حتى ثوى بقلب فرد ، توارى كما يتوارى الكنز الثمين ، واحتجب كما يحتجب السر الدفين
…تغلغل حيث لم يبلغ شراب……………ولا حزن ولم يبلغ سرور
ثم هو أوضح من الشمس زايلها الغيم في كبد السماء ، ومن القمر ليلة البدر في صحراء ” المنكب البرزخي ” ! .
هو مفتاح مقدس من استطاع الوصول إليه حل من الشعوب في ” سويداوات ” قلوبها ، وملك من حبها وإعجابها ما يرفعه إلى مستوى المثل العليا ؛ ومن ثم ترى الشعوب تندفع إليه تبجيلا وتكريما في مشهد تنافسي ينبئ عن تماهيه لديها بذاتها ” العليا ” ، إذ هو بالنسبة إليها مثال حي لما تطمح إليه ، وترجمة أمينة لما تؤمن به من القيم ، ولن يحل منها فرد بتلك المنزلة ما لم يستبح الكنز المنيع (أو المفتاح ) الذي تهوي إليه أفئدة الجماهير
“…ومن يستبح كنزا من المجد يعظم ”
والذين يستبيحون ذالك الكنز هم من يصبحون قادة الأمة التاريخيين وأبطال الشعوب الملهمين ، الذين تبقى أسماؤهم ومواقفهم عناوين لأمجاد الأمة الخالدة وجزءا من تاريخها المشرق وهويتها الحضارية ، وتلك مسئولية تخرجهم عن ذواتهم ” الخاصة ” ليصبحوا ملكا للأمة جمعاء .
“مفتاح ” فلسطين
ولا شك في أن فلسطين اليوم تمثل مفتاحا لضمير الإنسانية جمعاء فضلا عن ضمائر الشعوب العربية ، والإسلامية ، ومن ثم رأينا كيف استطاع المشاركون في أسطول الحرية – وهم بضع مئات من أحرار الإنسانية ركبت عرض البحر لتساعد في رفع الحصار الظالم عن الشعب الفلسطيني في غزة الحبيبة فحركت أركان الدنيا الأربعة وأعادت مأساة غزة إلى بؤرة اهتمام العالم ، بعد أن بعثت إلى الدنيا برسائل يفور منها الحماس اختارت أن ترسمها ب ” لوحات الدم ” وفن الصمود ” – رأينا كيف استطاعت هذه الثلة من أبطال العالم أن تتربع في قلوب الملايين ممن يؤمنون بشيء اسمه القيم والمثل العليا .
وفي الجانب المقابل من الصورة تعرى اليهود الأنجاس أمام أنظار العالم أجمع من كل ثياب الخلق ، ومعاني الفضيلة ..
وعاد ” الجيش ” المسالم كل إلى بلده – إلا من اختارهم الله في الشهداء – وقد آتت جهودهم أكثر مما عقد عليها من الأمل ، فرحين بما أصابهم من أذى على أيدي الصهاينة الجبناء ..
آبوا – ولله الحمد – ولكن بألق جديد ، آبوا أبطالا ينطحون بعنفوانهم السماء ، ويستقبلون استقبال الفاتحين ، بعدما مثلوا شعوبهم أمام العالم في ملحمة إنسانية خالدة .
درس من الكويت
وقد تفاوتت الدول في احتفائها بمواطنيها العائدين من أسر اليهود ، وحرصت بعضها على أن تستقبلهم استقبالا يقطع الشك باليقين في تبنيها الكامل لما بذلوه من جهد المشاركة في أسطول الحرية ، فالتحم الموقف الرسمي والشعبي في الاحتفاء ، في مشهد قليل الحدوث في عالمنا العربي ( مع الأسف الشديد .)
وكنت شاهدا على جانب من هذا الاحتفاء بإحدى الدول العربية المسلمة التي شاركت مشاركة نوعية في أسطول الحرية ، هي دولة الكويت الشقيقة ، التي اشترى أفرادها المشاركون في أسطول الحرية سفينة – قامت بجمع التبرعات لشرائها امرأة- سموها تيمنا ” بدر ” ، وكان المشاركون من الكويتيين 16 عشر فردا ضمنهم خمس نساء ، والبقية رجال ، بينهم النائب البرلماني ، والمحامي والتاجر ، والطالب …
اهتمام منقطع المثال ..واستقبال يليق بالأبطال
جاءت مشاركة الوفد الكويتي مبادرة ذاتية من أعضائه دون تبن رسمي من أي جهة أو مؤسسة ، وإن أخذت الجهات الرسمية علما بمشاركة الوفد في أسطول الحرية ورحبت بذالك وظلت تتابعه باهتمام .
حتى إذا حصل الاعتداء على الأسطول كان اهتمام الكويت كبيرا بالموضوع وعبرت عن استنكارها للاعتداء على الأسطول الإنساني وشددت على ضرورة سلامة مواطنيها ، وأرسلت رسائل عديدة وفي كل اتجاه من خلال برلمانها ومجلس وزرائها الذي أعلن أنه في حالة انعقاد دائم منذ حادثة الاعتداء لمتابعة تطورات أزمة أسطول الحرية …
فلما انكشفت الغمة بترحيل الوفد الكويتي إلى الأردن بعث إليهم أمير دولة الكويت طائرة خاصة مجهزة بالاحتياجات الطبية أقلتهم من المملكة الأردنية إلى الكويت ، يرافقهم السفير الكويتي في الأردن ، لتستقبلهم الكويت استقبال الفاتحين حيث كان في انتظارهم بالمطار الأميري رئيس مجلس الأمة ورئيس مجلس الوزراء ووزير شؤون الديوان الأميري بالإنابة ونائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية وزير الدولة لشؤون التنمية وزير الدولة لشؤون الإسكان ، والوزراء ، والشيوخ ، ونائب رئيس مجلس الأمة ، وأعضاء مجلس الأمة وذوو المشاركين بأسطول الحرية وجمهور عريض من المحتفين بالأبطال .
وعقد مجلس الوزراء فورا وقبل مغادرة المطار اجتماعا استثنائيا حول الموضوع في رسالة رمزية شديدة التعبير .
تنافس في الإشادة
وتبارى أعضاء مجلس الأمة الكويتي في الإشادة بالعائدين من أسطول الحرية ، فقال أحدهم :
” إننا نفخر بهؤلاء الأبطال الذين تحدوا العدو الصهيوني وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وسنعاود الكرة لحين فك الحصار عن غزة” .
وقال نائب آخر ” هذا يوم وطني في استقبال أبطال الكويت …وخاطب اليهود : سنلاحقكم قانونيا ونعريكم .”
وقال آخر ” تشرفت بأن أكون أحد مستقبلي قافلة الحرية ، وتقدمت باقتراح بإطلاق أسماء كل من شارك بقافلة الحرية على شوارع الكويت ، وهذا أقل ما يمكن أن نقدمه لأحرار الكويت ”
مرحبا بالملوك
ولم يتوقف التكريم عند هذا الحد بل إن الفعاليات الشعبية شكلت لجنة لتكريم العائدين من الأسطول أطلقت عليها ” اللجنة الشعبية للتضامن مع أبناء الكويت العائدين من أسطول الحرية ” ، وقد نظمت هذه اللجنة حفلا تكريميا مهيبا تحت رعاية رئيس البرلمان الكويتي (مجلس الأمة ) حضره حشد كبير من المواطنين والمقيمين –وكنت من هؤلاء – .
افتتح الحفل بالآيات (38 ، 39 ، 40 من سورة الحج ) وهي قوله سبحانه ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) .
وقد سرى تأثير هذه الآيات ليجعل المناسبة أكبر من حجمها الظاهر (أو هكذا أحسست ) في البدء ثم تأكد لدي من كلمات بعض المشاركين (في القافلة ) !
تلا هذه القراءة المؤثرة عزف للنشيد الوطني الكويتي ، وتوالت فقرات الحفل الممتع والمؤثر الذي تضمن خطبا عديدة كانت من بينها كلمات للمشاركين في الأسطول من الرجال والنساء ألهبت حماس الجمهور فتعالت صور التعبير عن الإجلال والإكبار ، تصفيقا حينا ، وزغردة حينا ، وتكبيرا حينا آخر ، وكانت هناك أسماء لذكرها وقع خاص ، يجعل المتحدث أمام عاصفة من التصفيق تطول أكثر من المعتاد ، أبرزها الأسماء التي تحيل على الدور التركي في الموضوع ، ليختتم الحفل بتكريم جميع المشاركين في الوفد بيد رئيس مجلس الأمة وبعض قيادات المؤسسات الشعبية في الكويت .
وقد اختار منظموا الحفل أن يكون شعار الحفل ” مرحبا بالأبطال ” مرحبا بالملوك ” .
ليس قصدنا أن نعطي تقريرا صحفيا عن مجريات تكريم الوفد الكويتي … ، وإنما القصد أن نشير إلى المنحى الذي سلكه إخواننا الكويتيون في تعاطيهم مع الموضوع حيث رأوه حدثا وطنيا وإنجازا قوميا على الجميع أن يحتفي به ، ومن حق الجميع أن يفخر به .
وفي ثنايا ما سردت دروس لا تستعصي على الاستخلاص ولكن لن أطيل بها على القارئ وهو الفطن اللبيب ، لأتفرغ للحديث عن مفخرة بلادي في هذه الرحلة ” الأسطورية ” الخالدة .
تحية للشيخ غلام
وأما أنت يا شيخي محمد غلام فما ذا أستطيع أن أقول لك ، وهل بقي في الكلمات ذماء من شموخ أو صبابة من ألق يجعلها جديرة بأن تحمل رسائلي إليك ، فلئن لم يكن بها ذالك فإن في النفس لشلالا متدفقا من الحب والتقدير والإجلال ، أنت أعرف الناس بأنه ليس وليد اليوم ، ولكنك اليوم لم تعد كما كنت بالأمس بأي حال .
كنت – بالتأكيد – رمزا وقائدا وشيخا ملهما للكثيرين – وأنا منهم بكل فخر- ممن يرون فيك مثلا عاليا من أمثلة الشهامة والنبل والاستقامة – ولا نزكي على الله أحدا – ولكنك اليوم لم تعد لهؤلاء فحسب ، وإنما أنت اليوم منارة مجد للجمهورية الإسلامية الموريتانية يجب أن يحتفي بها جميع الموريتانيين كما لهم جميعا أن يفخروا بها ، كما يفخرون – تماما – بمنارة شنقيط ، وما ترمز إليه ، وجهاد الشيخ ماء العينين ، وبطولة سيدي ولد ملاي الزين ، وغيرها من صور الشموخ في تاريخ هذا الشعب البلد العظيم .
فلتهنأ يا غلام بما نلت من شرف أنت به جدير ، ورحم الله أبا الطيب حين وضع القاعدة الشهيرة – التي طالما درستها لطلابك – في بيته السيار :
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم )
شكر مستحق
واسمح لي هنا أن أوجه رسائل شكر وتقدير لكل أولئك الذين أبدوا مباركتهم لمسعاك النبيل ، ووقفوا وقفة تضامن مع أسطول الحرية الذي كنت أحد سفرآئه العظام ، وخاصة من شارك منهم في الاستقبال المهيب الذي اعترف من خلاله الشعب الموريتاني باهتدائك ” إلى مفتاح ” قلوب الجماهير ..فلكل أولئك من الثناء والشكر ما يوازي تعلقهم بمعالي الأمور ، وعشقهم للمثل العليا
وعلى رأس من أزجي لهم تلك التحية رئيس البلاد السيد محمد ولد عبد العزيز الذي وقف وقفة عظيمة تترجم عن ضمير الأمة الموريتانية ، فله من الشكر والتقدير بقدر ما مثلته وقفته من انسجام مع خط الأمة وقرار الشعب .
والشكر – من بعد – لقادة المجتمع من العلماء والمفكرين ورؤساء الأحزاب السياسية وعموم المواطنين الذين عبروا عن تعلقهم بما ترمز إليه رحلتك العظيمة .
إنجاز للأمة
ولا أستطيع أن أختم هذا المقال قبل التنبيه على ملاحظة هامة وهي أن هذا الإنجاز الذي قام به الأمين العام للرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ هو إنجاز للأمة الموريتانية بل للأمة العربية والإسلامية جمعاء ، لا يجوز أن يخضع للحسابات السياسية الضيقة ، فيحاول بعض الناس ” تحجيمه ” أو يمارس آخرون ” احتكاره “.
صحيح أن محمد غلام علم من أعلام مدرسة فكرية معينة واتجاه سياسي معروف ولكن هذا العمل إنجاز إنساني يمثل الجميع ، ويجب أن يبقى للجميع ، وهذا ما فهمت بالضبط من حضور الأستاذ غلام لمسيرة أحزاب الأغلبية التي لم يشارك فيها حزبه السياسي ، في رسالة – منه – تضمنت من النضج ما يليق بمثل موقفه العظيم وإن كنا نأمل أن يتم تدارك ” ضياع ” هذه الرسالة الثمينة في المستقبل !
sidymhd@hotmail.com