العمل الإسلامي والسياسة.. الخروج من المأزق
لا نهضة لمجتمعاتنا دون مشروع حضاري طموح وجذاب وُملهم.. أحسب أن مسلّمة كهذه تدفعنا إلى الاعتراف بحتمية الاشتغال الفكري والبحثي في مسائل التحضر بأبعادها ومقوماتها وإشكالياتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومثل هذا الاشتغال لا يعد ضرباً من التفنن الفكري أو التلذذ البحثي لطائفة العاكفين عليه من المفكرين والمثقفين، بل هي قضية مصيرية: “نكون” أو “لا نكون”، ليس ثمة بديل ثالث.
وهذا يعني أن المجتمعات التي لا ُتفلح في بلورة مشروعها الحضاري ُمطالبة بأن تقبل بالتطبيع مع التخلف الحضاري، باتفاقية تتجدد تلقائياً في حالة موافقة الطرفين أو موت المجتمعات أو مرضها المزمن!
الاهتمام بـ “المسألة الحضارية” ينبع من قناعتنا المترسخة بأنها السبيل الأرشد لرقي الأمم ونهضتها، ومن أنها زاوية فريدة تتيح لعقلنا الفردي والجمعي أن يفكر ويدير ويقوّم ويطوّر ويستشرف الآفاق بمقاييس حضارية وبمنظور شمولي يجنّبنا الانبثاقات التجزيئية السطحية والرؤى التفكيكية الضيقة، ليتجاوز بنا نحو الأصوب الأعمق إزاء القضايا والأحداث الكبار التي تشكّل منعطفات خطيرة على المستوى الحضاري. والحق أن المسألة الحضارية وإن نالت شيئاً من الاهتمام في الآونة الأخيرة على مستوى دوائر نخبوية، إلا أنها لا تزال تقع “خارج نطاق الوعي” في دوائر إصلاحية كثيرة.
معضلة “العمل الإسلامي” مع البعد السياسي
”
المعضلة السياسية كبيرة ومؤثرة بلا شك، وأي تهميش لها أو إقصاء لها عن دوائر التحليل يدل على تسطيح أو هروب غير مبرر من مواجهة الإشكاليات التي تعطّل الحركة التنموية في عالمنا العربي والإسلامي
”
ربما يتساءل البعض: ما علاقة المسألة الحضارية بالبعد السياسي وإشكالياته؟ وهنا نبادر بالقول بأن المسألة الحضارية وما تنطوي عليه من بناء المشروع الحضاري مرتبطة بشكل رئيس بالبعد السياسي، ولا يمكن تصور أي حراك حضاري فاعل دون أذرع سياسية قوية بل وإرادة سياسية نافذة، فالسياسي هو من يمتلك تحريك “الرافعة” الكبيرة التي يمكن أن تصعد بالمجتمع في طبقات التحضر عبر عملية تحشيد وتوجيه للموارد والطاقات والعمل على حماية المنجز من التهديدات الداخلية والخارجية، بما يضمن إحداث التراكمية المطلوبة في البعد الفكري والاقتصادي والتنموي بما يحرك التروس النهضوية ويشرعن لها وفق أطر قانونية مقبولة.
المعضلة السياسية كبيرة ومؤثرة بلا شك، وأي تهميش لها أو إقصاء لها عن دوائر التحليل يدل على تسطيح أو هروب غير مبرر من مواجهة الإشكاليات التي تعطّل الحركة التنموية في عالمنا العربي والإسلامي، ولكن السؤال الذي يجب أن ُيطرح: ما الغاية الكلية التي ُيتوخى تحقيقها من جراء الاشتغال بالمسألة السياسية؟ وكيف يتم التعاطي مع تلك المسألة؟
ولقد سبق لنا –في مقال سابق- تحليل بعض أبعاد إشكاليات الماهية والهوية لما يسمى بـ “العمل الإسلامي” في ضوء ركائز الفعالية الحضارية، ونواصل التحليل لبعض جوانب تعاطي “العمل الإسلامي” مع السياسة.
يتعاطى “العمل الإسلامي” –وفق نسقه العام- مع المسألة السياسية بأسلوب مباشر، ولكن باتجاهين مختلفين: فإما مواجهة مباشرة ، أو انسحابية مباشرة:
1- المواجهة المباشرة لـ “العمل الإسلامي” تكون عبر حمله لـ “الفكرة الإسلامية” واعتبارها الملهمة في كل شيء والحاكمة على كل شيء والمعلية لحملتها على من سواهم، وتتضح الإشكالية أكثر حين نتذكر أن “العمل الإسلامي” يجهد لأن يشغّل “المطلق” أو “الثابت” في الفكرة الإسلامية بغية تحقيق نوع من الانتصار السياسي الفكري على “الخصوم” عبر الانتقاص من “إسلاميتهم” واتهامهم بعدم الانصياع للمطلق أو الثابت، وذاك أمر يولد بدوره إشكاليات لا نهاية لها، فهو يعني وصول النزعة “التزكوية الإسلامية” إلى الأطر السياسية، وجعلها هي المحك الوحيد للعملية السياسية والتحشيد والاستقطاب والاختيار والتعيين وتوارث السلطة والنفوذ، كما أن ذلك يعني الإيغال في حركة “تسييس الإسلام”، وإذا أدخلنا في التحليل إشكالية التعاطي مع الأطر السياسية الخارجية بما في ذلك الحركة الإمبريالية العالمية بأذرعها الاقتصادية والإعلامية والعسكرية فإن ذلك يجرنا إلى أدبيات وإشكاليات “الإسلام السياسي” سواء كان ذلك داخل الأطر العربية والإسلامية أو داخل الأطر الأجنبية وبالذات الغربية منها.
”
غالباً ما يتخيل الفكر الغربي “الإسلام السياسي” على أنه “ملاوات” ملتحون يطلعون من كل صوب لغزو كل بابل حديثة ويقيمون عالماً لا عقلانياً عنيفاً وسلفياً” بما يشيع الخوف من “التهديد الإسلامي” في أوساط الفكر الغربي
”
وثمة إجماع أو شبه إجماع في تلك الأطر مجتمعة على أن “الإسلاميين” يريدون توظيف الإسلام لاختطاف السلطة، وتشير أدبيات الفكر العربي إلى النزعة التصادمية بين “الإسلاميين” أنفسهم في الساحة السياسية، مما يكرس فكرة الاختطاف البرغماتي للسلطة، وغالباً ما يتخيل الفكر الغربي “الإسلام السياسي” على أنه “ملاوات” ملتحون يطلعون من كل صوب ومن المساجد والقرى، لغزو كل بابل حديثة ويقيمون عالماً لا عقلانياً عنيفاً وسلفياً” بما يشيع الخوف من “التهديد الإسلامي” في أوساط الفكر الغربي.
والحقيقة أن الإشكاليات في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة وأنا لا أريد أن ينجرف تحليلي إلى تفاصيل دقيقة لا أتمكن من لملمتها في سياق مختصر كهذا، ما يجعلني أكتفي بهذا القدر خاصة أن الهدف كان مجرد البرهنة على وجود الإشكاليات وليس استعراضها فضلاً عن الزعم بمعالجتها.
2- الانسحابية المباشرة عبر الانعزال التام “الظاهري” عن العمل السياسي، وعدم التعاطي معه بأي شكل كان، ويمثل ذلك أطياف في “العمل الإسلامي” كحركة التبليغ وبعض أصناف السلفيين، والبعض يظن أن الإشكاليات المترتبة على “الإسلام السياسي” تختفي بمجرد اختفاء الطيف الإسلامي من المشهد السياسي في حركة انسحابية شمولية، إلا أن الواقع –كما أراه- أعقد من ذلك بكثير، فالمسألة ليست مجرد ظهور أو اختفاء، وإنما كيفية الظهور والتفاعل، لاسيما أن التحليل المعمق يقودنا إلى الخلوص إلى أن تلك الحركات في الحقيقة تمارس عملاً سياسياً بأشكال ترى أنها تحقق لها مكاسب بطريقة أفضل، ومن ذلك أن بعض الفصائل السلفية تعمل على الانعزال “الظاهري” عن الفضاء السياسي إلا أنها تمنح “سلطة مطلقة” للأنظمة الحاكمة وتشرعن جميع أعمالها في مقابل حصولها على “نفوذ ديني” تستبد به، وتستأثر به فتمنع بقية الأطياف الإسلامية من مجرد الاقتراب من تخومها السلطوية مع تمتعها بامتيازات اقتصادية وقانونية وإدارية ونحو ذلك، مما يؤكد على أنها حركة سياسية مبطّنة، وذاك أمر يبرهن على تواجد الإشكالية السياسية مع “العمل الإسلامي” حين تعاطيه “المباشر” مع السياسة أو انسحابه “الظاهري” منها.
إذن ثمة إشكاليات متعددة –وقد ألمحنا إلى طرف منها آنفاً– ينبغي معالجتها والبحث عن نافذة للخروج من المأزق، حيث إنها شرط أساس لدفع التروس النهضوية في عالمنا العربي والإسلامي.
خطاب المدرسة الحضارية بداية الحل
كل ما سبق يشدد على أهمية معالجة إشكاليات “العمل الإسلامي” في إطار شمولي ناضج، وأنا أعتقد أن ذلك يتطلب عملية تفريغ “العمل الإسلامي” من بريق السلطة السياسية والابتعاد كلية عن أي حراك يقوده إلى معارك سياسية، والدخول إلى الفضاء السياسي عبر البوابة التنموية وليس البوابة الفكرية “الأيديولوجية” و”الحركية”، ويستلزم ذلك تفعيل المرجعية الإسلامية بطريقة معرفية –إبستمولوجية- كلية شمولية في ضوء خطاب المدرسة الحضارية.
وخطاب “المدرسة الحضارية” ينبع من منطلقات ومفردات المشروع الحضاري العربي الإسلامي، ويتفهم مرحلية تحقيقه واشتراطات ومقومات الاستجابة لتحدياته الثقافية والتشريعية والسياسية والعلمية والتقنية والمدنية، ما يجعله خطاباً متلبساً بالنزعة “المقاصدية” في التفكير والتحليل والبلورة لمشاريعه وهندسة المجتمعات، كما أنه يتصف بنزعة “تصالحية” مع كافة الأطراف الفاعلة في المشهد التنموي والخارطة الإصلاحية وعلى رأسهم الحكومات والأنظمة الرسمية، ولهذا الخطاب رموز وطروحات بدأت في الانتشار مؤخراً لاسيما لدى فئات من الشباب المثقف ومثقفي رجال الأعمال في العالم العربي.
”
خطاب “المدرسة الحضارية” ينبع من منطلقات ومفردات المشروع الحضاري العربي الإسلامي، ويتفهم مرحلية تحقيقه واشتراطات ومقومات الاستجابة لتحدياته الثقافية والتشريعية والسياسية والعلمية والتقنية والمدنية
”
ومن سمات ذلك الخطاب أيضاً العمق الفلسفي في طروحاته ومعالجاته للقضايا والإشكاليات المعاصرة. و”العمل الإسلامي” سيكون أكثر فعالية حضارية إن أعاد النظر في الإشكاليات التي يعاني منها، مع محاولات جادة منه لـ “إعادة التشغيل” وفق متطلبات التحضر التي تقتضي -ضمن أشياء أخرى– الإيمان بأنه مطالب بإنتاج عقيدة الحركة النهضوية للمجتمع، والمعاونة على إطلاق الطاقات الخلاّقة الكامنة في البناء والنقد والتبصير والتعبئة الحضارية.
ولعلي أقر بشكل صريح بأن مثل هذا الطرح ليس نهائياً وليس مكتملاً، كما أنه لم يتعاط مع جملة من الإشكاليات العملية في المشهد العربي، ولكنه لامس المشكلة من منظور تنموي، كما أنه ميال إلى تغليب طموحات المجتمعات والوفاء باحتياجاتها؛ بعيداً عن الشعاراتية والنفخ في قرب مشقوقة، كما أنه يلزم التأكيد على أن المسؤولية واقعة على جميع الأطراف حكومات وشعوبا وإصلاحيين؛ فلا نهضة حقيقية إلا بتصالح الإرادات النهضوية وتعاضدها وتكاملها، وهذا من الوعي الذي يجب بناؤه وصيانته ودفع استحقاقاته.