موريتانيا : خطط محاربة الفساد تصطدم بالمصيدة الاجتماعية وفساد المجتمع المدني
لا شك أن محاربة ظاهرة متجذرة وعميقة كظاهرة الفساد ، مسألة غاية في الصعوبة، لارتباطها بمختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهي متعددة الأبعاد عميقة التأثير و مستشرية في نفوس كثير من الناس، وتمس حياة المتنفذين في مفاصل الدولة، وأصحاب المراكز السياسية والاجتماعية، وتقتضي محاربتها إصلاح العلاقة بين السلطة والمجتمع المدني للقيام بأدوارهما على حد سواء، لأنه لا يمكن للسلطة القيام وحدها بمكافحة الفساد، دون الاستعانة بالمجتمع المدني لتعبئة المواطنين بطرق لا تستطيع الحكومات القيام بها، سأحاول هنا تبيان دور السلطة والمجتمع المدني في محاربة ظاهرة الفساد في موريتانيا، باعتبارها من مقومات بناء ديمقراطية سليمة، وذلك انطلاقا من الوقائع والمعطيات، مستعرضا مختلف المبادرات والجهود، مع تقييم مدى جديتها.
إن تعاطي الحكومة الموريتانية مع مؤسسات المجتمع المدني يتسم بالارتجالية، فلا توجد سياسة واضحة لدى الحكومة تقوم على إشراك كل تلك المؤسسات، بما في ذلك الجمعيات التي تعاني البنى التحتية لها من مشاكل عديدة وعلى رأسها ضعف الميزانية التي تخصصها الدولة لهذا القطاع. فإذا أخذنا في الاعتبار ضعف القطاع الخاص المنتج في موريتانيا، والذي يمكن أن يساهم في تمويل أنشطة منظمات المجتمع المدني، فإنه يمكن عندئذ تصور حجم المعاناة التي يواجهها نشاط الجمعيات فكما هو معروف، تعد الموارد التي تمتلكها جمعيات المجتمع المدني من أهم متطلبات قيامها بأدوارها المختلفة وإدارة علاقتها بالهيئات الرسمية للدولة بما يضمن استقلاله في التعاطي معها. فبقدر ما تعتمد مؤسسات المجتمع المدني على إعانات الدولة، يؤثر ذلك سلبا على استقلال نشاطها، باعتبار أن العديد من الدراسات في علم الاجتماع السياسي تربط قوة تشكيلات المجتمع المدني بمدى وجود سند مادي لها، ويعد شح الموارد المالية من أبرز التحديات التي تواجه عمل المجتمع المدني الموريتاني.
إن التفشي العميق للفساد المقنن في الإدارة الموريتانية، والذي يعاني منه الاقتصاد الموريتاني، عطل بناء مؤسسات مجتمع مدني نشطة وحرة، بحكم اعتماد العديد من هذه المؤسسات على الإعانات المادية للدولة، في ظل عدم إقدام الخواص على دعمها. وعليه يمكن القول أنه في ظل الوضعية الحالية للمنهجية التي يتم بمقتضاها التعاطي مع مؤسسات المجتمع المدني، يكون من الصعب فعلا عليها أن تضطلع بمهامها على أكمل وجه، هذا إضافة إلى ازدواجية تعاطي الحكومة معها، إذ يلاحظ إغداق بعض الجمعيات بالمنح وحجبها عن جمعيات أخرى، بل ويتم التضييق على نشاط جمعيات ذات أهداف جادة في مقابل دعم نشاط جمعيات ذات أهداف آنية. ويمكن التأكد من هذه الملاحظة لاسيما من خلال تتبع الدعم الذي تحصل عليه بعض الجمعيات خلال الفترات الانتخابية بحكم توليها مهمة الدعاية الانتخابية والسياسية لأحزاب وشخصيات سياسية معينة.
ومن أبرز التحديات، كذلك، التي تواجه عمل المجتمع المدني في موريتانيا هيمنة الأجهزة البيروقراطية و سعى العديد من الأطراف والمؤسسات إلى احتوائها، أو على الأقل منافستها في أدوارها، وهو الأمر الذي ينعكس سلبا على احتفاظ الجمعية بشخصيتها والقيام بمهامها.
وفي واقع الأمر، وبالرغم من ذلك، فإن الرئيس الموريتاني “ولد عبد العزيز” انطلق في سياسته من أن مسار الديمقراطية يشترط تبني سياسات متكاملة لمكافحة الفساد، وضرورة اتخاذ تدابير يمكن من خلالها للمجتمع المدني أن يضطلع بأدوار معينة لمكافحة هذه الظاهرة كشرط ضروري
لتفعيل هذا المسار، لكنما يلاحظ بشكل عام هو أن منظمات المجتمع المدني الموريتاني نفسها فاسدة حيث تعتمد، في أغلب الأحيان مبدأ الزبونية التي يتم بموجبها مقايضة الولاء بالريع، مما ينجم عنه ليس تحييد تلك المنظمات فحسب، بل واستمالتها، وأحيانا اختراقها لتمارس أدوارا مرسومة لها سلفا، وذلك مقابل الحصول على التمويل الذي يمكنها من الاستمرارية، وهو ما سعى إليه الناشطون للتربح على حساب الرسالة التي قامت لأجلها تنظيماتهم، وبالتالي وقوع هذه المؤسسات تحت طائلة الفساد نفسه، وانحراف العديد منها عن أهدافها التي عادة ما ترتكز على أرضية أخلاقية صلبة، إذ يلاحظ أن هذه المؤسسات نفسها تتعاطى الفساد.
لذا يمكن القول أن قيام السلطة وحدها ، دون مؤسسات المجتمع المدني، بمكافحة الفساد، والقضاء عليه، يعد أمرا صعب المنال، لأن هذه المؤسسات تمتلك مخزونا معتبرا من القيم، يمكن الاستعانة به لتعبئة المواطنين بطرق لا تستطيع الحكومات القيام بها، وفي هذا المجال أكد حزب الإتحاد من أجل الجمهورية (الحاكم) على لسان رئيسه، على الدور الذي يمكن للنخبة أن تقوم به تجاه مؤسسات المجتمع المدني. إذ يمكنها أن تهتم بتصميم إطار مناسب لتسهيل انخراط المجتمع المدني في مكافحة الفساد ليشمل هذا الإطار إجراءات قانونية وتنظيمية بل وحتى توفير تحفيزات مالية لتفعيل دور هذه المؤسسات في مكافحة الفساد، لأن تفعيل مؤسسات المجتمع المدني يمر عبر تطوير النخبة الحاكمة نظرتها للديمقراطية، على أنها لا تعني فقط إجراء الانتخابات والمشاركة فيها بل تعني مشاركة فعلية ذات معنى للمجتمع المدني من خلال مساهمته لصياغة وإعداد البرامج والسياسات المختلفة لهذه النخبة.
إن المصيدة الاجتماعية، تقف عقبة كأداء في وجه اتخاذ تدابير ملموسة لمكافحة الفساد في موريتانيا، حيث تصطدم خطط الإصلاح بمجموعة تمتلك مصالح راسخة في استمرار الفساد المقنن.
لقد ظلت محاربة الفساد في موريتانيا عصية علي كل الأنظمة المتعاقبة، و ادعى الكثير منها اتخاذ خطوات جادة في هذا المجال، ويعتبر النظام الحالي من أكثر الأنظمة التي ركزت علي موضوع محاربة الفساد، حيث تبني الرئيس خطابا مناهضا له قبل و بعد الانتخابات الرئاسية، وكان أول خطاب يوجهه للشعب الموريتاني يوم 17 أغسطس 2008، تحت عنوان “محاربة الفساد”، حيث قال: “يجب العمل بحزم وصرامة على محاربة الرشوة واختلاس المال العام والقطيعة النهائية مع عدم المعاقبة سبيلا إلى إرساء قواعد الحكم الرشيد وإلى تحقيق الاستغلال الأمثل لمواردنا الوطنية بدلا من تبديدها في إشباع نزوات الحاكمين” وفي 9 دجمبر 2009 بمناسبة اليوم العالمي لمحاربة الرشوة، وأمام مسيرة حاشدة نظمها الحزب الحاكم (الإتحاد من أجل الجمهورية) بالمناسبة قال: “أشكركم على هذه المسيرة التي نظمتموها بمناسبة اليوم العالمي لمحاربة الفساد والمفسدين والرشوة وسرقة المال العام … إن هذا واجبنا جميعا ، شعبا وحكومة وهذا هو برنامجنا من أجل الوطن والشعب والدولة … لنقضي على الممارسات السيئة التي شوهت سمعتنا وسمعة بلدنا بما يتنافى مع ديننا وقـيـمنا وأخلاقنا…….. وإن الوسائل كلها موظفة لصالح المواطن الموريتاني الفقير، المواطن الموريتاني المحروم ، المواطن الموريتاني المريض ، المواطن الذي ليس له الحق في أن يتكلم ولا حتى في أن يتألم .. وهذا هو السبب الحقيقي في عزمنا على مواصلة محاربة الفساد ).
وتمشيا مع هذا الخطاب شهدت الإدارة تجريد وإقالة وإعفاء مئات المسؤولين من مناصبهم، وتم استرجاع مبالغ هامة من مسؤولين اختلسوها، كما وجهت مفتشية الدولة إنذارات محددة الأجل لمئات المسؤولين بإعادة أكثر من مليار أوقية، وتلقى الكثير من المسؤولين رسائل تضمنت إجراءات محددة جداً تقول: بالتسديد والإقالة معا أو السجن، وفيما يستعد العشرات لمواجهة مصير السجن بسبب ضياع الأموال التي اختلسوها، كانت الأشغال قد تقدمت في هذا السجن “الذي سيكون مأوى المفسدين وأكلة المال العام” حسب تصريحات الرئيس “ولد عبد العزيز”، وأثار الإعلان عن بناء “سجن المفسدين” العديد من المخاوف ليس في الطبقة المتورطة في الفساد فحسب، وإنما أيضا على مستوى النخبة السياسية، حتى أن حزبا ، كالتيار الإسلامي، أسدى نصيحة للرئيس “ولد عبد العزيز” مفادها أن “الواقعية تقتضي الاعتراف بأن الفساد ظاهرة منتشرة للأسف ما يعني إمكانية مواجهة معارضة قوية”، أما المعارضة فقد اعتبرت على لسان النائب “المصطفى ولد بدر الدين” (اليسار الموريتاني)، أن “صفقة بناء السجن الجديد نفسها فاسدة لأنها صفقة تمت بالتراضي”، وأن ما يقوم به الرئيس “ولد عبد العزيز” ليس سوى“محاربة الفساد بالفساد”، و”تصفية الخصوم السياسيين والانتخابيين”، وهو ما اعتبره الكثيرون موقفا من المعارضة يفتقد للموضوعية، مادام الرئيس “عزيز” لا فرق عنده بين قريب أو بعيد في تنفيذ خططه لمحاربة الفساد، التي يعي جيدا أنها تصطدم بالمصيدة الاجتماعية وفساد المجتمع المدني .
د. محمدً ولد المرابط / أستاذ تعليم عال
drlemrabott@yahoo.fr
*مقال منشور بمجلة المرصد الديمقراطي الصادرة عن مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، واشنطن أكتوبر 2010م، ضمن ملف حول الفساد في الوطن العربي .
لتحميل الملف بالتنسيق PDF اضغط على الرابط : الفساد مقوض للديمقراطية