ندوة الإرهاب ( مداخلة من خارج القاعة)
افتتحت وزارة التوجيه الإسلامي مطلع السنة الحالية بندوة تحت عنوان “الإسلام وجدلية الغلو والتطرف” ..وقد شكلت تلك الندوة بداية مثل هذا النوع من
الندوات الرسمية التي تعالج ظاهرة العنف ذي الطابع الديني في موريتانيا
وشكلت الجلسات فرصة للتلاقي والتحاور بين السلطات الرسمية ومن يسير في ركبها وجاءت المحاضرات في أغلب الأحايين اجترارا لوقائع تاريخية معينة يحفظ الكثيرون أدق تفاصيلها دون الغوص في دلالاتها واستنباط بعض المعطيات التي تخدم الموضوع من خلال مفرداتها ..وقل ذات الشيء في سرد مفاهيم ومسلمات يتفق عليها المشاركون من سماحة الإسلام وعدله ووسطيته .. فضلا عن تنظير فقهي خلا في نهجه العام من التنزيل على أرضية الواقع..فكان بذلك صدى لأزمة عجز القائمين على الخطاب الديني الرسمي-وحتى غير الرسمي أحيانا- من النزول مباشرة إلى الواقع الفعلي بعيدا عن الحدود العامة والمصطلحات والمفاهيم التي صيغت في سياق تاريخي محدد قد يحتاج إسقاطها على الواقع بعض الشرح والتدقيق والتفسير بل وحتى بعض التحوير ..فمثلا تناولت بعض المحاضرات الجهاد من منظور نظري بحت يعتمد خطابا فقهيا عاما وعائما يتأسس على النقل والاستشهاد من متون كتبت في عصور قد لاتكون تعيش ذات الأزمات ولا تناسبها ذات المعطيات مما ولد فراغا يلف الأسئلة الكبرى التي يحملها أصحاب العنف والغلو واقعيا وظلت بمنأى عن التنظير والخطاب الثابت
ولعل ما بثته التلفزة الوطنية من حوار للعلماء مع السجناء السلفيين لا يبتعد كثيرا عن هذا الإطار ..فلم يعد الأمر أن كان دروسا عامة في الجهاد تحتاج تنويرا وتطويرا لتلائم الإشكاليات التي أفرزها واقع لاخليفة فيه للمسلمين يعقد راية الجهاد ..ولا فرصة فيه لمن يجاور المظلومين أن يعزرهم وينصرهم بسبب سلطاته المسلمة القامعة لصوته
والرافضة في بعض الأحايين لمناصرة المحتاجين …
كما غاب استيضاح دلالات ذات بعد هام تكاد المؤسسة الدينية اليومية تجترها حفظا مع وقف التنفيذ من قبيل عظمة الشهيد الذي يفقد حياته نتيجة كلمة حق أمام سلطان جائر ..وقول الحق دون الخوف من لومة لائم .. وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق.
كما التبست العلاقة بين العلماء والسلطة فأضحت تتخذ مسارا عاما واحدا هو الاندغام في أي سلطة تتولى الحكم والهرولة أمامها ووراءها وعن يمينها وعن شمالها ..والتغاضي عما يبدر منها من انتهاكات لصريح الشرع ..وما تظهره من غبن وفساد وحيف وظلم .يولد ضغطا واحتكاكا لدى من يعانون من التهميش والظلم ويرون رأي العين حرية الأمة وكرامتها بل وكينونتها وهويتها تتعرض للتنكيل والعدوان من الداخل والخارج..
كما يراقبون أموال الأمة وثرواتها تنهب وتتحول إلى أرصدة خاصة يتنعم بها هذا الفرد المحظوظ أو ذاك .ومع كل ذلك لايجد أرباب وأقطاب المؤسسة الدينة الرسمة المهيمنة على الإعلام والرأي العام حرجا في أن أن يبذلوا أقصى الجهد في سبيل مؤازة مثل هذه الأنظمة والتسبيح بحمدها والدفاع عنها جهارا والسعي في سبيل إعادتها للحكم حالما ارتأت أن تدخل مسرحية انتخابية في ظاهرها شمولية في كنهها وجوهرها .أو أن تبارك استمرارها في الحكم مدى الحياة وحتى توريثها لمن تختاره من الأبناء والأحفاد ..
فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه !.فينغمس الكل في التزوير والتبطيل .لايلبث نقيضه أن يطفو على السطح بمجرد زوال “النظام” ليلبس الجديد ثوب القديم ويرتدي نفس المواصفات والسمات الفاضلة ..وتعلن المؤسسة الدينية الرسمية الولاء المطلق له والسير في خدمته ..كل ذلك باسم الشرع وباسم أعظم رسالة جاءت لتخرج البشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد
ونظرا لتلك الوضعية التي أصابت الخطاب الديني الرسمي العام بنوع غبش لم يعد بوسع البعض أن يرتاح لأعمدة تلك المؤسسة والاستعانة بهم في الحرام والحلال سيما إذا تعلق الأمر بقضايا شائكة وذات بعد حساس كطاعة ولي الأمر ومفهوم الولاء والبراء والاستعانة بالكافر والتعامل معه ..
والموقف من الأحداث الجارية التي تسيل فيها الدماء المسلمة كشلال ينحط من صبب دون أن تحرك الأنظمة ساكنا دفاعا أو حماية بل وقد تشارك فيها سرا أو علانية .كل ذلك والناطقون باسم الدين ينساقون تباعا وقد فعل “مرق” الأمير فعلته في حلوقهم ..
وحور كثير من المتدخلين الندوة عن مسارها المفترض ..-أو لنقل وججهها الوجهة التي يراد لها فعلا أن تنتهجها- ..فكانت مطالبة أحدالمتدخلين البارزين بتوزيع خطاب رئيس الجمهورية ضمن الوثيقة الختامية ..ومطالبة البعض بالوقوف خلفة مطلقا للدفاع عن حوزة البلد ..
واعتبار البعض الندوة ثمرة من ثمار عدله إلى غير ذلك مما حفلت به الندوة من تهافت على التمسح بأعتاب النظام ضف إلى ذلك كونها جرت في قاعة مغلقة وبعيدة عن مظان الحضور فلم تشهد أروقة الكليات ولا المعاهد ولا دور الشباب ولا غيرها من أماكن مظنة وجود الشباب أي نشاط من نشاطاتها كما جاءت التوصيات في مجملها ضبابية عائمة كحال كثير من المحاضرات من قبل:
– التمسك بمقومات الشخصية الشنقيطية
– اعتماد استيراتيجية مدروسة لنشر فكر الوسطية والاعتدال
ولي ولغيري أن يسأل بعد مرور هذه الفترة عما تحقق في هذا الإطار مما يعزز هذه الاستيراتيجية أو يعزز التمسك بالشخصية الشنقيطية !!
بالتأكيد سيكون الجواب بالسلب ..وحتى المشرفون والقائمون على تلك الندوة لم يقدموا تساؤلات مشروعة حول مصير تلك التوصيات التي لفتها المكاتب وضغطتها الأدراج بعيدا عن أي تطبيق أو تنفيذ
كل هذا أفقد الندوة طعمها العلمي الجاد وأحالها إلى دعاية مباشرة لشخص رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز
واليوم تعود الكرة من جديد إلى الملعب لكن هذه المرة مع فريق وزارة الدفاع ومع إضافة (الإرهاب) إلى (المانشيت )العام للندوة وهو أمر مثير ويدعو للتساءل خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي كان على النظام أن يرفع فيها هذا الشعار إرضاء لبعض الأطراف التي ترفعه ..
وكان الأولى بالندوة وهي ذات بعد وطني – كما يحيل العنوان – أن تبتعد عن مثل هذه المفاهيم التي أضاعت جهد البعض في تنقيحها وتوصيفها وتهذيبها مما كان الجميع في غنى عنه سيما وأن واضعي هذا المفهوم ما زاوا يمررونه وفق الأمزجة والمصالح الخاصة
لم يختلف الإطار العام للندوة عن سابقتها فقد كان خطاب رئيس الجمهورية ماثلا أمام الجميع وكان تشريفه للقاعة محل ترحيب وإطراء زائد
وبلغ الأمر ذروته بمطالبة أحد العلماء بتوقيع وثيقة شرف بوجوب طاعة ولي الأمر…واللبيب تكفيه الإشارة…!
والمتأمل لخطاب الرئيس يلحظ من خلال قاموسه اللغوي ودلالاته أنه بحاجة إلى مباركة الخطوة العسكرية الأحادية الأخيرة التي لاتتسم وسياق التعامل السليم مع أصحاب الفكر المتطرف ومع جماعة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذين كانوا يجوبون صحراء موريتانيا سلما دون أي رصاصة كما يفعلون ذات الشيئ في فيافي مالي وقفارها
ويشي هذا الخطاب بأنه من المفترض أن تبارك التوصيات هذه الخطوة حتى ولو عارضها أو تحفظ عليها بعض المتدخلين كما يشي بمباركة أي خطوة مستقبلية قد يقوم بها تحت يافطة الدفاع عن الحوزة الترابية حتى ولو لم تكن ذات بعد إجماعي وطني ..بل وحتى ولو عارضت توصية من التوصيات ّ!!
وهنا لابد من الإشارة إلى أنه لكي نتعامل مع أبناء الوطن الذين تأججت عواطفهم فغلبت على عقولهم كردة فعل على الممارسات الدينية والسياسية الرسمية لابد من تصحيح بعض مفردات الخطاب
فليس من المقبول في إطار التشخيص للبحث عن علاجات ناجعة لامهدئات مؤقتة أو صخب إعلامي دعائي أن نقارن حملة هذا الفكر الديني الحاد بأصحاب الجريمة المنظمة أو المهربين أو تجار المخدرات حتى ولو كان الهرم يعتقد ذلك ويصفهم ب(لواويد) وأي خطوة علاجية تنبني على هذه المقاربة سيكون مصيرها مصير (جيرمانو )
فشتان مابين من يلهث حلف االثراء المادي وانتجاع طرق التحصيل بمختلف الآليات والوسائل في حدود الحذر والحيطة من أي مكروه وبين من يحمل روحه على كفه ويحول نفسه إلى كتلة من اللهب تتطاير يمنة ويسرة في سبيل مبادئه وما يعتقده فلاحا في الدنيا وفوزا في الآخرة ..قد يكون هاجر من رغد العيش إلى حياة الشظف والجبال بحثا عن جنة عرضها السماوات والأرض ..لذا لابد من وضع الأمور في سياقاتها السليمة بعيدا ا عن الانجرار وراء الخطابات الرسمية أو السطحية…
كما أنه على هذه الندوة أن تعترف بالحقيقة وبخطر حملة الفكر وضرورة مواجهتهم بخطط تعترف بحجم التحدي والخطر وهو ما يجانب بعض المداخلات التي تغازل النظام فتقلل من شأنهم وتفوح منها رائحة التحدي والإصرار على سحق (هذه الشرذمة القليلة) خلال أيام إن لم يكن خلال ساعات.وهو منطق تعوده ساستنا عند الحديث عن الخصوم والمعارضين فأضحى جزءا من القاموس الجمعوي ..ولعل هذا ما سوغ الحملة على وسائل الإعلام الحرة التي لم تخلد للراحة أيام حمي الوطيس كما فعلت المؤسسات الرسمية ولم تكن ببغاوات تردد ما يشتهيه النظام لدرجة التشكيك في وطنية أولئك (الإعلاميين)
كذلك من المفترض التفكير في استيراتيجية تستغل صدق العاطفة عندهم وغيرتهم الصادقة على هذا الدين الذي يلاقون في سبيله العذاب والعنت ويتحملون المشاق مع ما يختلط بتلك النيات الصادقة والمشروعة من ممارسات غير مشروعة اتكاء على فهم أو تأويل هم بأمس الحاجة إلى فك طلاسمه من من يثقون فيهم لا من من تعودوا على مهاجمتهم ووصفهم بشتى النعوت .ولا من من يوقع للأنظمة على بياض.فليس من الإنصاف أن نطلب منهم الانصياع لتفسيرات من يغير ولاءه من زيد إلى عمر لأن زيدا لم يعد في الهرم ولأن عمرا انقلب على ذلك الهرم ..
إن أي استيراتيجة لا تعتمد الاعتراف بالأسباب والدوافع ولا تخوض فيها بقدر ما تسبح في النتائج وردات الفعل لن تؤتي أكلها ..فلتفهم الأنظمة..ولتغير من سلوكها..وليفهم علماء البلاط..وليصححوا مساراتهم..وحينها قد تجدي ندوة التوجيه الإسلامي أو ندوة وزارة الدفاع وربما لاحقا الوزارة المكلفة بشؤوؤن المرأة.
وكل ندوة وأنتم طيبون
أحمد أبو المعالي : كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالإمارات