امتحان “ابلوكات”!!

عندما كنا صغارا- أيام الابتدائية والإعدادية- كانت الامتحانات والمسابقات الوطنية
بالنسبة لنا وللأهالي مناسبات عصيبة ومهيبة، واستثنائية بكل المقاييس..ففي أيام
إجراء مسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية وشهادة ختم الدروس الابتدائية
“كونكور”- مثلا- تصبح مراكز الامتحان قبلة للناس ومحطا لاهتمامهم، لدرجة ينسون فيها
بقية مشاغل حياتهم اليومية، فلا صوت بالنسبة لهم يومئذ يعلو فوق صوت معركة أبنائهم
الفاصلة والفارقة..

تتحول ساحات المدارس- طيلة فترة الامتحان- إلى ساحة تضج بالحياة، فالأهالي يتجمعون
في الطرقات والنواصي والأزقة المؤدية إلى مراكز الامتحان التي يمنع رجال الأمن-
غالبا- الناس من دخولها، وإن سمحوا لهم بالتجمهر قريبا منها..ولكل امرئ من الأهالي
يومئذ شأن يغنيه..فالبعض يأتي للاطمئنان على أطفاله، ومتابعة أمورهم عن قرب، فمعظم
الأطفال يذهبون إلى قاعات الامتحان في ساعات باكرة من غبش الفجر، وبعضهم يذهب بعيد
صلاة الفجر، وآخرون يبيتون قريبا من مركز الامتحان، إن لم يتمكنوا من المبيت بداخله
وهكذا..ولا يلقى الأطفال بالا يومها لتناول الفطور أو حتى التحمم قبل دخول قاعات
الامتحان..ولذلك يكون على الأهالي المسارعة إلى مراكز الامتحان لاستقبال أطفالهم
الخارجين للتو من أولى مواد الامتحان باللبن والتمر والخبز والحلوى والأحضان..وليس
غريبا- والحالة هذه- أن تتحول جنبات مراكز الامتحان إلى مطاعم فاخرة تعبق بروائح
الشواء والخبز المحمر والسمك المقلي والفول المجمر و الأجبان المحشوة خاصة بالنسبة
لأبناء الطبقتين الغنية والمتوسطة، أما أطفال الأحياء البائسة والطبقة الفقيرة
فيرضون من الغنيمة بشم تلك الروائح والتلذذ برؤية ما لذ وطاب من تلك المأكولات عن
بعد..فذووهم لا يوفرون لهم سوى دعاء صادق في جوف الليل بأن يوفقهم الله في
الامتحان، وصباحا يرسمون على وجوههم عبارات قرآنية ومحفوظات دينية تمنحهم سكينة
خاصة لتثبيت الأنفس والعقول والبطون..ويلقنونهم آيات النصر و التسخير و الفهم ورفع
الدرجات!!

ومع الاطمئنان على الأطفال، ومتابعة أدائهم في الامتحان، فإن بعض الأهالي يأتي
لمساعدة ودعم أطفاله بأية طريقة متاحة، كالحصول- استباقيا- على مواضيع الامتحان –
شراء أو غصبا- ثم حل معضلها والإجابة عن أسئلتها، وتهريب كل ذلك إلى داخل قاعات
الامتحان التي لا وجود فيها لحرس شديد وشهب، ومن اخترق السمع فيها لن يجد أمامه
شهابا رصدا..وتتطلب عملية الدعم والإسناد تلك – عادة- التعرف على خرائط القاعات
وأسماء المراقبين ومعلوماتهم الشخصية قبليا و جهويا إلى غير ذلك من المعلومات
الضرورية لتأمين مساعدة الأطفال على تجاوز الامتحان الذي هو علامة فارقة- دراسيا –
بالنسبة للمشاركين فيه، خاصة وأنه معبر طالما فشل العديدون في تجاوزه، لأسباب عديدة
من أهمها ضعف المستويات، وضبابية التنظيم التربوي، وهلامية المناهج الدراسية،
والعزوف الطوعي لبعض الأطفال عن الاهتمام الحقيقي بالدراسة وما يقود إليها من قول
أو عمل!!

أتذكر أن إحدى الأسر حاولت مساعدة أحد أبنائها – كان معي في قاعة امتحان واحدة-
عندما أخذت قطعة خبز كبيرة ووضعت بداخلها بدل الزبدة المعهودة ورقة إجابة ملفوفة
بعناية على طريقة “كتاب حاطب ابن أبى بلتعة” المعروف غير أن مراقبا ذكيا لاحظ ثقل
قطعة الخبز رغم صغرها، فدفعه الفضول لفتحها لتسقط ورقة الإجابة من داخلها وسط ذهول
بقية المراقبين وأطفال القاعة!!

قفزت هذه المشاهد والذكريات إلى خيالي وأنا أزور ساحة “ابلوكات” مع مجموعة من
الصحفيين ذات وقفة احتجاجية حاشدة.

كان الأمر شبيها تماما بمراكز الامتحان التي تحدثت عنها..ف”الأطفال” كانوا في
القاعة و”الأهالي” كانوا على حوافها وفى النواصي والأزقة والطرقات المؤدية إليها..
إنه امتحان حقيقي، فلأول مرة يدخل “شباب” موريتاني قاعات امتحان “ثوري” عصيب يشبه
بقية الامتحانات عندنا، فالضبابية موجودة، مع غياب المناهج، وضعف في المستويات،
وهلامية في المشهد العام..هو أيضا امتحان للحكومة والأمن ..امتحان للبلاد كلها
ومستقبل تعايش شعبها وبقائها ككيان وطني متماسك..وامتحان بطبيعة الحال للنخبة
السياسية المرتبكة بحسابات التيارات الإيديولوجية المعارضة منها والموالية وحتى
البرزخية.

ربما لم توزع المواضيع حتى الآن، وربما أن بعضها تحت الطبع- أو فوقه- مع وجود
بلبلة في توزيع المشاركين على مقاعدهم ومواقعهم داخل القاعة، وغياب آلية رقابية
تهتم بضبط الأمور داخل القاعة،

وبدون شك فإن “الأهالي”- وكما في كل الامتحانات والمسابقات الوطنية- تجمهروا بسرعة
على هوامش القاعة..وبنفس طريقة تجمهر أهالي الأطفال المعنيين بالامتحانات
الأخرى..سيارات تحمل طعاما وعصيرا وتقدمه لمن يهمها فقط داخل القاعة..أشخاص يوزعون
أقمصة وأعلاما وشعارات على من يهمهم أمره في الساحة..آخرون يوزعون بيانات ومقالات
ومكبرات صوت على” أطفالهم” في الساحة وهكذا..والبعض من”الأهالي” فضل مراقبة أطفاله
بواسطة “كاميرات مراقبة” تم تركيبها على بنايات مرتفعة مطلة على الساحة لمراقبة
“الأنفاس” و”الأكباش” والهمسات والنوايا والتحركات حتى يتأكد “الأهالي” من أن
“أطفالهم” باقون داخل قاعة الامتحان وغير قادرين على الخروج منها”يقال إنها كاميرات
مزودة ببطاقات ذكية تملك قدرة هائلة وخارقة على التمييز بين الأشخاص الملثمين
والأشخاص الذي يسيرون بوجوههم رافعين رؤوسهم داخل الساحة أو خارجها”!

بعض “الأهالي” أيضا يتجمهر لمراقبة “الأطفال” من حيث العدد ومستوى الشغب، والقدرة
على التعاطي مع الامتحان..

كل “الأهالي” هنا بعضهم معروف وواضح القسمات، وآخرون بأقنعة ورؤوس معممة..لكل مهمة
خاصة ومحددة..ساحة “ابلوكات” سلك فيها من كل زوجين اثنين..شباب وطنيون طيبون، أشخاص

مظلومون، فئات مهمشة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، سياسيون و”عسس”،صحافة و”بلطجية ”

كتائب ومرتزقة ،باعة ولصوص وصعاليك،رجال أمن وسيدات وفتيات وسلام وكلام وموعد
ولقاء!! كلهم يتحلقون من حول “أطفال” يدخلون امتحانا يراه البعض مغامرة ولعبا
بالنار، ويحسبه غيرهم بذرة تغيير توشك أن تنبت شيئا كالذي حدث في تونس ومصر وليبيا
واليمن..

الامتحان دخل أسبوعه الثاني و”الأهالي” أكثر حماسا وخجلا وارتباكا من الممتحنين”
بفتح التاء”،

لا أحد- حتى الآن- يعرف توقيت توزيع مواد الامتحان، ولا قدرة الناس داخل القاعة
وخارجها على التحكم فيه..والمنتظرون لنتائجه- حتى قبل أن يبدأ- أكثر من المنتظرين
لتوزيع مواده والمقبلين على خوض غماره..

انه امتحان صعب، فعلى نتائجه تتوقف معرفة مصير بلد بأكمله..ويوم صدور نتائجه قد
تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى
ولكن “امتحان ابلوكات” شديد!!

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى