في ذكرى رحيل البخاري /خيري الذهب
لا يزال الإعلام السوري يخصص مساحات واسعة لنشر مقالات لكتاب ومثقفين كبار في تأبين المفكر الموريتاني، الصحفي والأديب محمد البخاري بن سيد المختار الذي وافته المنية في الأول من آب في منزله بدمشق.
لقد كان الراحل أحد وجوه الفكر والثقافة في دمشق التي لم يغادرها منذ أكثر من ربع قرن، و”جمع الراحل حوله مفكري ومثقفي الوطن العربي بل العالم من عشاق دمشق وزوارها” كما ورد في مقال في جريدة الثورة السورية في الثالث من أغشت الجاري .
ووسط تجاهل تام من طرف وزراة الثقافة الموريتانية وسفارة البلاد في دمشق لوفاة الجندي الموريتاني المجهول (محمد البخاري) يعيد موقع الحصاد نشر مقال صدر اليوم 16 /8/ 2011 في نفس الجريدة السابقة للكاتب والمثقف الكبير خيري الذهبي، لعل وعسي.
نص المقال
في مقابلة صحفية أجريت معي لإحدى الصحف، كنت قد تحدثت فيه عن علاقة الأدب بالمجتمع وأن الأدب لا يمكن أن يسبق التطور الاجتماعي للبلد الذي ينشأ فيه،
ثم طرحتُ مثلاً عن نجيب محفوظ ابن حزب الوفد والطبقة البرجوازية المصرية والتعددية المصرية في حينه فقلت: ولا يمكن أن أتصور روائياً كبيراً كنجيب محفوظ يظهر في موريتانيا مثلاً.. بالطبع لم أكن أقصد الإساءة إلى موريتانيا البلد الجميل طبعاً.. ولكن التشبيه ظهر على هذه الصورة.. وكنت قد نسيت الأمر حين نقر أحدهم على كتفي في مقهى كنت أنتظر فيه أصدقاء وطلب مني الجلوس معي قليلاً.
كان الرجل شديد النحول حتى ليكاد ينقصف، أسمر شديد السمرة.
وفيما بعد سيحدثني ضاحكاً في أنه في موريتانيا يعتبر من البيضان، أي البيض في مقابل السودان، أي السود.. المتحدرين من أصول سنغالية أو مالية مجاورة.
قدم الرجل أطروحته بسرعة سائلاً ومذكراً بالمقابلة الصحفية، ولماذا موريتانيا.. وكان علي أن أعتذر وأشرح بأني لا أعني موريتانيا بالتحديد، بل أي مجتمع لا يزال يعيش حافة البداوة، وكان الحديث في ثمانينات القرن المنصرم حسبما أذكر، أصبحنا أصدقاء بعد تلك المقابلة طبعاً.. ودارت الأيام تأتيني ابنتي مرة بكتاب تقول إن رجلاً اسمه محمد البخاري قد أرسله إليك، وأقلب الكتاب لأجد أنه رواية لكاتب لم أسمع به من قبل اسمه موسى ولد ابنو.. وكان اسم الكتاب مدينة الرياح.
وتمتمت لنفسي: الخبيث، يريد الثأر لنفسه، وقرأت الرواية وكانت مفاجأة، جميلة فعلاً.. وكان لا بد لي أن أرى البخاري مجدداً.. وأقول له: لقد أخذت حقك مني وزيادة، وسأكتب هذا كله وأذكر بأنك كنت خير مدافع عن موريتانيا التي أنجبت روائياً بأهمية ولد ابنو.
كان البخاري طالباً للفلسفة في جامعة دمشق، وكان طالباً وصديقاً للفيلسوف الشفوي نايف بلوز عالم الجمال المعروف.
كنت تجد البخاري في كل ندوة ثقافية وفي كل ملحقية أو ملتقى ثقافي وخاصة الإسباني، حيث كان يقوم كثيراً بدور المترجم العارف جيداً لما يترجم، وكان المرحوم غالب هلسا يقول عنه: إن في محمد البخاري شيئاً من الملائكة فأنت تجده في كل مكان، ولكنه لطيف «واللطف هنا تعبير فلسفي في مقابل الكثيف» كالملائكة أيضاً لا تشعر به.
كانت مشكلة محمد البخاري أنه أحبّ دمشق، فلم يعد يرغب في فراقها والعودة إلى موريتانيا.. وكان على استعداد لاستقبال كل أديب أو مفكر قادم من شمال أفريقيا بكل حب وود وفرح، وكأنه سفير الحب هنا في دمشق يقدمها لهم بكل شغف.
وهكذا سيعرفني فيما بعد على موسى ولد ابنو الجميل، وسيجدد تعارفنا والطاهر وطار حين يزور دمشق، وعلى كثيرين من روائيي المغرب العربي، كيف عرفهم، كيف اتصل بهم، كيف صار دليلهم وصديقهم ونديمهم، كانت هذه معجزة البخاري الذي لم يبارح دمشق.
على أي حال، أصيب محمد البخاري بمرض نايف بلوز، فقد صارت المعرفة لديه كالتعبير اللبناني الجميل «كرم على الدرب» لا يحجبها عن أحد ولا يحبسها في دفتي كتاب، فيفعل كما فعل نايف بلوز حين لم يترك سوى كتاب واحد مؤلفاً في علم الجمال، وكان هذا أقل بكثير من مما يجب على عالم بقامة بلوز، فاكتفى البخاري كمعلمه بنثر المعرفة حيثما حل. بعد غياب بلوز رحمه الله، حاول البخاري جاهداً أن يرد الدين له، فتفرغ لسنوات يقلب في أوراقه محاولاً استخلاص كتاب آخر منها.. لكن حظه أو حظهما لم يكن سعيداً، فلم نقرأ للبخاري كتاباً محققاً لبلوز، كما لم نقرأ له كتاباً.. أهو الإقبال على الحياة بديلاً عن الكتابة عنها؟ لا أعرف.
ولكن حظه أيضاً في الموت كان كحظ البلوز في الموت المفاجئ، لأصدقائه ومحبيه، رحم الله الصديق نايف بلوز ومحمد البخاري فهما محفوظين في صدور محبيهما.
محمد البخاري، البخاري، محمد الموريتاني، الشاب شديد الولع بالثقافة، ذاك الذي أصبح جزءاً من المشهد الثقافي في دمشق، ما من مهرجان إلا وتراه فيه، وما من حدث ثقافي إلا ومحمد البخاري أحد عواده. يعرف في السينما ما يكفي لأن يكون له رأي فيها. ويعرف في الأدب ما يكفي لأن يشارك في ندوات عنه، وفي مهرجانات عن ظواهره.
نقلا عن موقع الحصاد