ليبقى الرفض السلمي سقفا لأي معارضة ديمقراطية!

((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)) [آل عمران/118].

كل ما اتسع حيز الدمقرطة، مجسدة في إطلاق الحريات الفردية والجماعية، خصوصا حريتي التنظيم السياسي والتعبير الإعلامي، ازدادت حدة وراديكالية الآراء المتطرفة في القضايا العامة.
فبعد أن انتقلت الملفات الشائكة التي أثقلت كاهل الدولة الموريتانية ردحا من الزمن، من محظورات، يتعرض كل من حاول إثارتها إلى السجن والتعذيب والنفي، والاغتيال في بعض الأحيان، إلى موضوع إجماع وطني من طرف القوى السياسية والاجتماعية الجادة والمسؤولة، ظهر وبصفة جلية غضب قوى التطرف، من خلال العنف المعنوي الذي تضمنه خطاباتها، تحضيرا لآخر مادي، ينتهز الفرص ليثبت مخالبه على سنام المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وحتى الروحية، مستغلا لذلك شرائح عريضة من القصر، والعمال والمهمشين، من الذين لم ينالوا حظا وافرا من الوعي السياسي، يجعلهم محصنين ضد هذا النوع من الأساليب “الشعوبية”، التي تتفنن في اللعب على عواطفهم من خلال ربط واقعهم الشخصي، بقضايا تعتبر في غالب الأحيان انعكاسات لارتفاع الأسعار على المستوى العالمي، أو التغيرات المناخية، أو سقوط أنظمة استبدادية في مناطق من العالم لم تعرف قط تكريس الحريات ولا تحرير الممارسات!
في مثل هذه التحولات المصيرية في حياة المجتمعات، تقع المسؤولية الأولى في مرافقته بهدوء تتطلبه حتميات التنمية، على النخب السياسية والدينية والثقافية والإعلامية، بعد أن تنازلت الدولة عن “احتكار” الحيز السلطوي، بتجريم كل الأفعال السياسية الخارجة عن منطق “التأييد والمساندة” الذي كانت قد ارتضته مضمونا لأي ممارسة سياسية!

في موريتانيا، فرطت النخب في مسؤولياتها، مابين التقاعس عن استيعاب الحتميات الجديدة، وما بين “مهنيي” السياسة من منعشي “النوادي المغلقة” التي كانت ترتهن الأنظمة تنظيرا و تجسسا على طمأنينة الرافضين لسيادة منطق الاستبداد، التي لفظتها صناديق الاقتراع.. لقد زال الحاجز النفسي بين المواطن العادي وممارسة العنف بمختلف أشكاله بعد أن تم “ترسيم” تناوله من طرف الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، وحتى من طرف بعض الشخصيات المستقلة.

يعتبر الرفض السلمي سقفا لأي معارضة ديمقراطية، سياسية كانت أو ثقافية أوحقوقية، وأي محاولة لتجاوز هذا السقف قد تتسبب في اختلال بنيوي في ممارسة الديمقراطية عبر مسلكيات متحضرة، لأن اتزان المشهد السياسي لم يعد مسؤولية الدولة وحدها، بل مسؤولية الأفراد والجماعات المهتمين بالشأن العام، الذي يتأثر بالعنف المعنوي أكثر من المادي، لما يمتلك من قوة اختراق العقول وتجنيد الطاقات وارتهان الممارسات!

فبعد أن تم تفكيك حيثيات “تابوهات” ملفات الإرث الإنساني وماضي الاسترقاق، والهيمنة على الثروات الوطنية من طرف المجموعات، والحسم في قضايا الهوية والنظام الدستوري، جن جنون المقتاتين من نزيف جروح الجسد الموريتاني المثقل بالبتر وابتزاز الكرامة وهوس النهب وسادية القمع، لأنهم بكل بساطة عاجزون عن التخلص من شحنة العنف التي أدخلتهم المشهد السياسي من باب الاستحواذ الشخصي والجماعي على ممارسات الاستبداد، والتأقلم مع أجواء الحرية التي تستدعي مجهودا معرفيا يمكن من شحن الحيز المتاح (صحافة، برلمان، عدالة…) بمحتوى يتجاوز عنف الاستبداد لفرض عدالة الرفض، عبر مقترحات جادة تثري المشهد السياسي وتؤسس لممارسة تليق وحجم الطموح الديمقراطي لنخب البلد وشعبه!

إن هجر المنابر المعهودة للتعبير السياسي، والتدفق الصنديد عبر شوارع المدن وعقول القصر ومحافل الأمم للترويج للمغالطات، وتمرير خطابات الضغينة والحقد، وسب أمة بأكملها، وتلطيخ سمعة شعب أبي، أساليب يعاقبها القانون وترفضها الأخلاق.. وتقلص حجم الحريات وتشوه مسار الدمقرطة التي تعتبر خيارا للشعب والدولة الموريتانيين.

إن جفاف المنطق بكيهيدي ومقامة، نتيجة حتمية لخطاب العنف الذي مهدت له أحزاب المعارضة منذ أن تلقت صفعة ال18 يوليو 2009، والمنظمات الحقوقية، بعد أن صفت الدولة الإرث الإنساني، وتبنت القضاء على مخلفات الرق، وبعض المواقع الإلكترونية، منذ إلغاء المصادرة وإرساء شفافية ستقتلع “البشمركا” من جذورها…

لقد تسللت يد العار لبعض مدن الضفة لتحرض مراهقين أبرياء على العبث بالمرافق العمومية، والاعتداء على الأملاك الخاصة.. تحت زغاريد بيانات منسقية المعارضة المحرضة ضد السلم الاجتماعي بموريتانيا، وقرع مواقع إلكترونية لطبول الفتنة، بدعم من جهات خارجية معروفة بالولاء للصهيونية العالمية التي لن تغفر للجمهورية الإسلامية الموريتانية طردها لسفير إسرائيل، وتصفيتها للإرث الإنساني، الذي تعودت امتطائه لارتهان سيادة الدولة وكرامة الشعب.

في المنطقتين العربية والإفريقية، يدفع مناضلو المعارضة حياتهم من أجل حق التظاهر، وفي موريتانيا، يرفض بعضهم استغلال هذا الحق المكفول دستوريا، ويلجأ لرشق قوات الأمن بالحجارة والزجاجات الحارقة بدل الجلوس على طاولة الحوار، وطرح المشاكل التي يدعون الدفاع عنها!

حماس النظام للحوار، وصرامته في ضبط الأمن، دليلان قاطعان على أن الدولة الموريتانية استكملت هويتها الديمقراطية، وأنها ماضية في صيانة مكتسبات الشعب الموريتاني، الذي أوكل أمره لرئيس لا يصطاده المتملق ولا يخيفه المتهور.

سيدي عالي ولد محمد محمود

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى