كيف ينتظر العالم السلم في منطقة الساحل والصحراء بعد تدمير ليبيا؟(1)
قبل الشروع في الموضوع، يجدر بنا التوقف عند المحطات والأعمال المحبطة في استخدام “الشرعية الدولية”؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بالمسلمين والعرب من جهة، وبالمفاهيم الأعظم رواجا في عالم اليوم لاسيما الإنسانية منها والفكرية التي تستخدم كمعيار للتقدم وللإنسانية من جهة ثانية. وحري بنا في هذا المقام أن لا نغفل الإشارة إلي السمة الموحدة المقترنة باستجدام “الشرعية الدولية” التي هي التدمير المطلق الذي ترقى كل أعماله العسكرية والأمنية إلى جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في العراق وفي إفغانسان وفي ليبيا.
كما في كل قرارات الأمم المتحدة – خاصة تلك التي تصاغ تحت الطلب- يظل القرار قابلا للتأويل الذي يخدم هدف التدمير. وهكذا أخذت ليبيا قسطها غير مجذوذ بلا هوادة ولا رحمة. لقد تم تقسيم الموت مجانا في كل مكان على الأرض الليبية: في الشوارع، في المزارع، في المستشفيات. كما تجلى، وبكل سطوع، زيف كل الشعارات والإدعاءات على نحو مثير للسخرية وللسخط معا، مخلفة دمارا نفسيا ومعنويا هائلا ومؤرقا على مستقبل العالم. كما حملت الأحداث المحطات المحبطة التالية:
ـ أولا: أن القرار جاء لهدف حماية المدنيين. وقبل انتهاء العمليات الأخيرة، كانت عمليات الناتو قد حصدت 130 ألف مدني. وخلال الشهر الأول تم تدمير كل القدرات القتالية الليبية، ولم تبق لدى ليبيا “وسيلة لقتل المدنيين”. ومع ذلك واصلت الأمم المتحدة غيها وتجاهلها لعمليات القتل والتدمير المتعمد ودون الإلتفات إلى دعوة ليبيا للحوار، ثم أن الأمم المتحدة لم ترخص لعملية غزو أرضي فيما تدخلت قوات فرنسية وقطرية وإماراتية وأردنية في الهجوم على طرابلس وملاحقة القذافي.
ثانيا: الطريقة السادية التي تم بها اعتقال الشهيد القذافي، ومن ثم قتله بشكل يجرح الضمير الإنساني ويتعارض مع جميع منظومات القيم في السلم وفي الحرب لكافة البشرية، ولا يرقى لأي درجة من الضحالة الأخلاقية: رجل مسن، مريض، جريح وأسير حرب، يقتل بطريقة عجزت عن مثلها جميع المنظات الساقطة في العالم دون أن يندد أحد، وكأننا في عالم تنعدم فيه الأخلاق والقيم. مع أن عملية القتل كانت في أقصى درجات البشاعة، خاصة أنها لم تتح لهذا الرجل الشجاع الجلد أن يـُظهر أي نوع من التجلد أو الصبر أو الشجاعة أو الإيمان التي يتحلى بها، حتى أنهم صادروا صورته بالزي العسكري خدمة للصورة التي قدموه بها للعالم. لقد وُضع بين أيدي أوغاد سفلة ومجموعة من الرعاع والدهماء يسومونه سوء المعاملة في عملية تنكيل لا تنقطع، حتى قضى بين أيديهم.
ثالثا: ملاحقة الناتو للقذافي، خاصة فرنسا، وضرب قافلته وقتل وزير دفاعه، وإصابته هو نفسه بجروح بالغة، وهو من أعطى ـأ ي الناتو ـ بعد ذلك الأوامر بقتله دون أن يمنحه حقه في محاكمة عادلة. ومهم أن نسجل تعامل الغرب مع العدالة: يحميها عندما تخدمه ويضربها علي المؤخرة عندما تسبب له إزعاجا. فالجميع يعلم أن القذافي يملك كثيرا من الأسرار التي ستحمل إثارتها فضائح للكثيرين في الغرب ولدى العرب.
رابعا: لقد اعترف العالم “الحر، البشع ” بشرعية زمرة من الأشخاص أقرب إلى الأوباش منهم إلى أي شيء آخر؛ لا خلفية إيديولوجية ولاشرعية، ولا مشروعية قانونية، ولا مرجعية فكرية، ولا سياسية، ولا إجتماعية لهم، ورموزها شخصيات تسلقت بكل أساليب الخبث في نفس النظام. يعترف بها فقط عازفا عن كل القيم والمرجعيات الأخلاقية والفكرية، لأنها تمده بالشرعية اللازمة للقيام بعملية تدمير ليبيا وتنفيذ حكم الإعدام بحق نظام قائم له كامل شرعيته ومشروعيته، فقط لأنها تخدم الغرب. وهنا يجب أن لا ننسى ذلك في ضوء تقييمنا للقيم الحضارية الغربية.
خامسا: حتى عندما انسحب القذافي عن طرابلس وبقيت كل المدن الليبية بدون جيش “ليقمع” المظاهرات، لم تتظاهر المدن احتفاءا بالقادم إلا عندما دخلها جيش التتار، وبدأت التصفيات والتعذيب، وصار كل فرد في غير مأمن على روحه أو شرفه من المليشيات الصفيقة. لقد كان ذلك دليلا على عدم شرعية هذا التمرد الذي يلطف كثيرا بالثورة.
سادسا: رحيل الناتو عن ليبيا مباشرة بعد انتهاء عملياته، ناسيا أنه تدخل من أجل الإصلاح والديمقراطية، مخلفا فوضى عارمة ووضعية لا دولة: أكثر من 7000 سجين يضربون بالعصي ولا ينتظرون أي محاكمة، وشعب مهدد بالانهيار بسبب الحروب الداخلية التي يثيرها الإستقطاب السياسي الحاد وإنتشار السلاح مدعوما بالنعارات القبلية والأحاسيس البدائية والنزعات الطائفية والإنشقاقات المتتالية عن وحدة الدولة.
سابعا: المستوى الذي وصلت له الجامعة العربية التي هي أقدم منظمة حاليا، وتضم 22 دولة تمثل مجتمعة رابع أكبر مساحة في العالم، وتحتوي علي 60% من مخزون الطاقة في العالم، وتمثل أكبر خريطة في العالم للخيرات الطبيعية، وتضم 5 أهم منافذ بحرية في العالم. ومع كل ذلك تتضاءل لتكون بحجم قطر وطموحها الذي هو إعطاء شرعية للعدو في تدمير بلداننا العربية حسب هواهم ووفق مرضاتهم وأنى ومتى يشاؤون.
ثامنا: ظهور قوة وفاعلية كبيرة للدول الصغيرة التي لا تملك مرجعيات فكرية ولا إيديولوجية، ولا تفهم معنى الحرية ولا الديمقراطية، دول تعمل بإرادة الغير، دول مثل قطر متماهية في الأجندات المعادية للأمة، تقف في مقدمة العدو دائما في أي عمل يستهدف الأمة، تنفق أموال شعبها من أجل تفكيك دولة شقيقة باسم الديمقراطية في حين أنها لا تؤمن بالديمقراطية، ولا تقع ضمن أخلاقها ولا في نطاق تفكيرها ولا في محيطها ولا في ممارستها، فهي لا تفكر في أي انفتاح ولا حتى في إجراء استفتاء علي الدستور، ولا إجراء انتخابات برلمانية، ولا تؤمن بحرية الرأي، ولا توجد لديها أحزاب، ولا تؤمن بحرية الصحافة إلا تلك التي تخدم أهدافها السياسية وتقذع بها الآخر أو تلعب دور الشيطان في تزين الظلم والدمار. .
تاسعا: أن القذافي استشهد على الطريقة نفسها التي يموت عليها المجاهدون الصابرون الأبطال في لباس الحرب ممسكا ببندقيته، يدافع عن بلده، ولا تهم الطريقة التي قضى بها؛ فتلك تتوقف على أخلاق وقيم الطرف الآخر. وقطعا أن القذافي لم يدر ظهره لقضيته، وقد ألفوه بالزي العسكري ويحمل سلاحه وهو مخضب بالدماء. وقد كانت أمامه جميع الفرص للفوز بجلده مع كل الضمانات. كما سقطت أسطورة أرصدة القذافي المخزنة في بنوك الغرب كما سقطت قبلها فرية سلاح الدمار الشامل في العراق.
كان لابد من التنبيه – في عجالة- على هذه النقاط في إشارة إلى جملة من التناقضات التي يتسم بها القانون الدولي وبصفة دائمة تجاه العرب والمسلمين من جهة، ومن جهة ثانية إبرازعدم عمق الشعارات الحضارية الغربية وهشاشة الدفاع عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية التي ظلت شعار الغرب المتحضر، ثم التنبيه على الدور العربي المشين على مستوى هيئاته أو دوله، وكشف حجم المؤامرة التي تعرضت لها ليبيا والقذافي.
ليس الإنتقال إلى صلب الموضوع بالأمر الهين في عملية متشابكة الأهداف والمرامي الجوسياسية والإستراتيجية، ويختلط فيها الدفاع عن المصالح الحيوية مع ضمان السيطرة على نفط ليبيا، مع إقصاء منافس مقلق وقوي، مع صراع مع الذات أو داخل المجموعة نفسها، إنه – والحق يقال- أمر متشابك لابد من فك العدد القليل من رموزه.
أولا وأخيرا
ليبيا بلد مارق منذ سنة 1969 . ولقد مر ذلك السلوك بمحطات عديدة، لكن في المحصلة ظلت تلك الصفة جزء من طبيعة ليبيا حتي في أوج إزدهار علاقات التطبيع مع الغرب. لقد كان ذلك أحد المآخذ الناتئة في العلاقة مع ليبيا.
هذا التصور يدعمه باستمرار أن طبيعة العلاقات الإقتصادية بين الغرب وليبيا يطبعها دائما التسويف حتي حين ما يتضعضع الزعماء الغربيون ويتحملون تصريحات القذافي في وجوههم بما يناقض الرؤية والأهداف الغربية، أو حتي عندما يخرق جميع ابروتوكولات العواصم الغربية بما يحرجهم، كان الزعماء يفوتونها علي أمل الحصول علي صفقات تنعش اقتصادهم، الأمر الذي لا يحصلون عليه في الغالب وفق تقديرهم. وباستثناء 3/2 من النفط الليبي الذي تحصل عليها أوروبا ( إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، إسبانيا) لم تكن الأخيرة تحقق مصالح ذات قيمة استراتيجية في ليبيا.
بل في حين لم تكن العلاقات الإقتصادية بالحجم المرضي عنه أوروبيا، كانت الصفقات في صعود ليبيا الجديد تصل إلي 200 مليار دولار بين كوريا والصين والهند وتركيا وغيرها من البلدان الآسيوية.. إنها صفعة عريضة على الخد. من جهة ثانية، ظلت ليبيا تتعامل بشيء من عدم الجدية وتشق الإجماع بشأن موضوع مقلق وشديد الخطورة بالنسبة للغرب وهو موضوع الهجرة.
الموقف الليبي ظل يستند إلى مسوغات واضحة هي أن سبب الهجرة المباشر هو سوء الأوضاع في البلد الأصلي، وأن التطور الذي أحرزه الغرب كان بسبب الاستعمار والاستيلاء علي مقدرات هذه الشعوب، وكعودة عادلة للأمور إلي نصابها يجب دعم التنمية المستديمة في هذه القارة. وبصفة عامة فإن ليبيا لن تكون شرطي خفر السواحل الغربية إلا عندما يمنحها الغرب 5 مليار يورو من أجل إستثمارها في إفريقيا. هذا الموقف الناتيء هو الآخر مثير مع استمرار ليبيا في إعطاء الدلائل (في أنه موقف لا يتزحزح) من خلال استثمارتها في إفريقيا بواسطة “المحفظة” تسهيلا للنفاذ عكس كلمة “صندوق”، بغية دعم إفريقيا بما تجاوز 130 مليار دولار.
إنها أرض لا تتوقف عن إثارة المتاعب. هذه المشاكل غائرة في المصلحة الغربية، لكنها لوحدها لا تمنح الغرب مسوغا آخر للقيام بعمل مفتوح لقتل القذافي كما في سنة 1986 عندما حاولت أمريكا متذرعة بملهي برلين وحاشدة التأييد ضد ليبيا التي كانت إذاك ما تزال تدعم بقية من مجموع 57 حركة تحررية حول العالم، لكن التخلص من القذافي يبقى ضمن الأولويات. في النصف الآخر من الكرة الأرضية لا معنى للأخلاق والقيم إلا حينما لا تتعارض مع المصالح.. وفي ليبيا لا يوجد أي تغير في الموقف من تحديد مفهوم الغرب كمنظومة من القيم الإستعمارية والغطرسة التي تساعدها القوة والقانون الدولي.. إفريقيا، العرب، أمريكا اللاتينية، وآسيا كلها عرفت الدعم لليبي في قضاياها العادلة، وفي كل مرة كانت ليبيا تدفع الثمن وحدها وتتخلي كرها عن بعض محظياتها في سبيل البقاء علي نهج يمثل تصورا لا ينفك، ومنذ 1989 اختفى الظهير الدولي، وانقلب العالم رأسا علي عقب، لكن أحدا لا يجرؤ على وضع ليبيا في سلة الغرب.
قد لا يفهم الكثيرون الأمور علي هذا النحو، لكن ، لا يهم حجم الغوغاء ، الأسباب القديمة لها حسابها في الحاضر، ولهذا أيضا ونهائيا ليس هناك مكان لليبيا في عالمٍ مصالح وحدها هي من تحدد الأصدقاء. الوضع يصير أعمق كلما تتبعنا الخارطة الجيوسياسية؛ فهناك ملامح تغيير كبير علي نحو يثير مخاوف الغرب .فقد شبت الشعوب الأكثر تكبيلا عن الطوق، وبدأت المنطقة تهتز محدثة ثورة علي الأنظمة العميلة. وهنا ستؤسس كل البرامج الإنتخابية وفق تطلعات الشعوب، وقد لاحظ الجميع أن الأنظمة البوليسية قد تمنع حرية الآراء الأكثر تطرفا، لكنها لم تسكت الآراء المعتدلة المتشبثة بأهدافها القومية والدينية، وليس إقتئاتا القول أن التشدد في ظل الإستهتار والتلاعب بالمشاعر هو الأكثر، فقد قال الشيخ أسامة بن لادن ان “من أسباب تكوين القاعدة هو العدوان علي فلسطين وإحتلال لبنان”، واليوم لا يختلف اثنان أن الأمر أشدُ: القتل مستمر في فلسطين والشعوب مكبلة، ولن تضعف الثورة عن أن تمنح الحرية لظهور كل الأفكار للعلن ، حتي تلك المتطرفة بفعل الأفعال الإجرامية لإسرائيل وتواطؤ الأنظمة العربية التي كانت تحكممعها. ولن يخسر أحدهم الإنتخابات لأنه لا يريد التعاطي مع تيار عريض من الأصوات. إنها وباختصار منطقة تكاد تخرج من بين أصابع الغرب، ولا يوجد من بإمكانه الجزم بالقدرة علي السيطرة علي المصريين والتنوسيين بالقبول بالعودة للقيود تحت أي ظرف، كما لا يمكن منح القذافي هذه الهدية الثمينة كالتمتع بالحياة بجوار أنظمة لا توجد لديها محظورات بعينها، أو ليست إلي حد الآن، بفعل غليان الشارع، متواطئة مع الغرب.
والشخصيات التي دفع بها الغرب داخل الأحداث المصرية والتونسية قذفها المحتجون بالحجارة وبالشعارات المعادية للغرب وللتبعية، ليس ذلك هو المظهر الوحيد المناهض لمظاهر التحالف مع الغرب، فلقد تم وقف تدفق الغاز مباشرة عن إسرائيل وتم فتح باب “السجن الكبير” (معبر رفح).
إن الغرب هنا مرفوض، تلقائيا، ومبدئيا، ومرفوضة إملاءاته ، والقذافي علي الحدود. إنه وضع مقلق يتماثل للشفاء ويتناغم مع وضع دولي متقلب. فهناك في الجانب الآخر غير العربي طرف مناهض للغرب بفعل النمو الإقتصادي السريع والتطور الثقافي والإيديولوجي، وهناك شعار في المنطقة العربية لا يتقادم ومرتبط بالشرف: المقاومة، وفي أضعف الحالات المقاطعة. إنه عمل جنوني من النحاية الإستراتيجة أن يترك الغرب الأمور تسير في الإتجاه الخاطئ، مستحيل. إنها غلطة بثمن جلده في المنطقة، خاصة وبالموازاة مع الإشارات الناجمة عن التغيير في الخارطة الجيوبولوتيكية لعالم ما بعد سيطرة الغرب علي 80%من نفط العالم بعد إحتلال العراق وبحر قزوين، وترويض أكبر منظمة في العالم (الدار ذات خمسين طابق التي صارت فقط دمية).
يوجد حلف دولي كبير مناهض لهذه الغطرسة، لكنه نصف نائم. هذا الحلف توحده قضايا كبيرة وعادلة، إنه يضعف باستمرار، لكنه مرجح أيضا لأن يتعاظم كل وقت. إن الصين عندما تنظر إلي نفسها في المرآة تشاهد أمة كبيرة ليس من ناحية التعداد السكاني ولا من الناحية التاريخية، لكن من الناحية الإقتصادية؛ فهي تملك 1.2 ترليون دولار من أصول الخزينة الآمريكية أي أن كل صيني لديه مليون دولار في الخزينة الآمريكية، كما أن الصين هي صاحبة أسرع إقتصاد نمو في العالم وأقوى إقتصاد واقعي من حيث الأرقام ومن حيث الأصول، وليست مهددة بالتناقضات الإجتماعية ، ثم ان المواطن الصيني لا يعيش علي بطاقات التأمين ، عكس المواطن الأمريكي المدمن علي الديون حيث يصل دينه إلي 32 ألف دولار خلال السنة، ثم أن نسبة التصنيع تمثل 9% من الإقتصاد الأمريكي، كما أن نسبة الإقتصاد الحقيقي الفرنسي (ثاني أكبر دولة في الإتحاد الأوروبي) تمثل فقط 14% من إجمالي الإقتصاد الفرنسي، هذه العوامل التي تصب في مصلحة الصين لابد أن يكون لها انعكاس علي النفوذ السياسي وعلي حماية المصالح، وعلي الاضطلاع بدور داخل العالم، وباستثناء التعاملات التي تقع بين الصين وانغولا في النفط خارج الدولار (أي بالين) وبين الصين والهند وإيران بالبضائع، فإن كل التعملات الصينية بالدولار المتهاوي باستمرار. ثم إن المحافل الدولية من صنيعة وتحت سيطرة، الغرب كما أن المخزون الإستراتيجي الآن من النفط يقع تحت يد الغرب، بينما لا تملك الصين أي قطرة من النفط بشكل دائم لا تقع ضمن خريطة النفوذ الغربي. إقتصاد الصين متعافي ولم يتأثر بالأزمة. إنه يتطور بسرعة، هذا التطور الذي يغزو الأسواق العالمية بما فيها الآمريكية والأوروبية لابد من كبحه، خاصة أن أمريكا تشاهد يوميا شبح الأزمة وأوروبا تتمالك خوفا علي تكتلها من أن يتهالك؛ فإسبانيا وصل عجز الميزانية فيها إلي 75%، واليونان تعكر أزمتها صفو نوم أووروبا ، كل بلدان الإتحاد – باستثناء ألمانيا- تعرف إجراءات تقشفية حازمة بسبب شبح الأزمة. هناك تباين في الأوضاع؛ فلابد من صراع ليس بالضرورة أن يكون صراع بالأيدي، لكنه صراع إقتصادي وسياسي.
فلابد من ساحة لخوض هذا الصراع (أسواق إستهلاكية، ساحات دولية، محافل). إنه في النهاية تعدد الأقطاب. ليست الصين هي التي تشعر بالضجر، فهناك روسيا التي تأقلمت مع الإقتصاد الحر وبدأ إقتصادها ينتعش وفق رؤية تتجسد وتملك الوقت الكافي لذلك، ثم أن الوعي بأهمية الإمبراطورية الروسية لا يقاوم، هناك قوى أخرى مثل الهند والأرجنتين وتركيا القريبة من العالم العربي التي تبحث عن نفسها في ضوء التاريخ والتي تملك ثاني أسرع إقتصاد نمو في العالم، وجنوب إفريقيا التي بدأت تتحلل شيئا شيئا في سديم التبعية للغرب وتنظر إلي نفسها من خلال دورها التقدمي في القارة، إضافة إلي المثلث التقليدي (إيران سوريا وحلف أمريكا الاتينية). لقد ظهرت بوادر هذا الحلف في إنسجامه حول رفض القرار الذي تقدمت به الدول الغربية وأتباعها للأمم المتحدة ضد سوريا.
فقد رفعت كل من روسيا والصين حق النقض، كما صوتت ضده الهند وجنوب إفريقيا. إن الغرب الذي لا يريد دائما وأبدا بروز أي قوة مناهضة لقدرته وخارجة عن سيطرته قد لمس هذا الحلف. إن هذا الحلف موجود لهذا السبب بالذات فلابد والحالة هذه، وكردة فعل علي ذلك، من البروز في الإتجاه الآخر . فلابد من تقليصه وتفكيكه قبل أن يشتد عوده.
العرب هم مركز الصراع العالمي منذ 7عقود تقريبا، وهم مركز النفوذ الحضاري، وهم أسواق إستهلاكية ومخزون الطاقة، وهم الأضعف. إن تفكيك هذا الحلف يبدأ بالعرب. لقد وعي الغرب ذلك دوما وأبدا، لكنه الآن أمام ظاهرة جديدة: ظاهرة الثورات، فلابد من ضرب الدول التقليدية، والتحكم في مصير الثورات. إن الثورة المصرية عطية من الله لهذا التوجه وهذا الحلف. فمصر ظلت مركز القيادة العربية طيلة الصراع العربي الإسرائيلي ، وهي مركز الاستقطاب، وقد تأثرت كل الثورات بذلك، في الجزائر المرحوم بمبلا، وفي سوريا وفي ليبيا وفي اليمن ، المصريون يتطلعون لهذا المقام الجليل ، أو علي الأقل التحلل من ذلك الدور المسيئ لكرامتهم. ويوجد اتجاه عام في الثورة المصرية يرنو لعودة مصر إلي تزعم المشهد العربي ليس بالتأكيد في الإتجاه القادمة منه. ليبيا هي الأقرب وهي أكبر مؤيد. أكبر المشاكل بين ليبيا ومصر بسبب تراجع مصر عن هذا الخط. القذافي أحد سدنة هذا التوجه التقليدي وسيدعمه بكل ما أوتيَ من قوة. إن التاريخ الحديث للعلاقة بين ليبيا ومصر شاهد واقعي علي ذلك. فقد جهز القذافي الجيش المصري بعد أشهر فقط من ثورته استعدادا للحرب علي إسرائيل 1971 قبل وفاة عبد الناصر بعد ما امتنعت دولة عربية غنية عن ذلك، فقد عقد صفقة ب 102 ميراج من فرنسا لم تعرف سماء ليبيا أزيز واحدة منها.
وقد ناقش الصفقة ضباط مصريون بجوازات ليبية، كما اشترى الزوارق المطاطية من إيطاليا. السلاحان كانا سبب نجاح العبور المصري إلي الضفة الأخري بإتجاه إسرائيل. خطوط التوافق عديدة في عالم يشهد درجة من الإفلاس وغطرسة غير مسبوقة. والشعوب تعي ذلك, وليبيا القذافي ستكون محورية في مثل هذا التجمع. إن الغرب لا يمكن رميه بالغفلة، فلن يجازف بترك القذافي علي قيد الحياة في هذا الظرف خاصة عندما يجد في مكتبه سبب “إنساني” يبعث علي الإضطلاع بالدور أثناء الحصول علي الفرصة التاريخية للتخلص منه.
وهكذا فقد تمت محاكمة القذافي غيابيا في أماكن تحديد القرار الإستراتيجي والإقتصادي الغربي آخذا في المقام الأول تحييد البلدان الآسوية من ليبيا، وإعادة بناء صفقات جديدة وتوجهات جديدة في الإقتصاد الليبي تضمن سيطرة الغرب أو علي الأقل تفوقه. ففي الوقت الذي يصل فيه حجم التبادل الأمريكي الليبي 4 مليارات دولار فقط تصل الأعمال الصينية علي الأرض 18 مليار دولار. إن ليبيا تشهد نهضة جديدة بميئات مليارات الدولارات.
أوروبا تشاهد ذلك، ويسيل لعابها، وهكذا برزت كل الأسباب للتخلص من القذافي ، لكن قتل القذافي دون تدمير ليبيا لا يعكس أي فائدة وإن كان خطوة علي الضرب ، نحو تحرير ليبيا من قبضة معادية. العالم مجمع على أن ما وقع في ليبيا لم يكن ثورة ، وأن تدخل الناتو غير قانوني. وقد قالت مارين لوبين إن “ما حصل في ليبيا مغامرة” وأن “ديمقراطية الصواريخ مسألة غير واقعية”. وقد شهد لافروف أيضا بأن “الغرب أساء استخدام التفويض وقتل عشرات المدنيين. وهذا ما يجب التحقيق فيه” وأنه “ترك في هذا البلد ما يستحيل وصفه بالدولة”، لكن العالم الحر يفكر عكس ذلك، لقد ألفي ما كان من طبعه دائما الفرصة التاريخية للحصول علي مدخول مادي كبير وفقط تدمير ليبيا علي حسابها وعلي حساب الدول العربية كالعادة ، وإعادة بنائها وتسليحها بواسطة الشركات الغربية أيضا وعلي حسابها، كل ذلك تحت مظلة المشروعية الدولية والدور العربي الساقط . بتأثير موصول بفاعلية الدول الصغيرة خاصة تلك التي تدين بالصهونية مثل قطر والمنخرطة بشكل كامل في المخططات المعادية. ياله من حسن سعد الطالع. المسألة في منتهي الجدية ولذلك كشر الغرب عن أنيابه وكان الإستنفار الغربي في المحافل الدولية وفي الديبلوماسية قد وصل الدائرة الحمراء، لذلك تم عزل ليبيا بصفة راديكالية وأطلقت البيانات النارية التي تلهب المشاعر كما لو أن حياة العالم وضميره الإنساني مربوطة بما يقع في ليبيا . وتم قلب كل المفاهيم ، وبشكل غير منطقي صارت الشرعية لا شرعية والمقتول هو القاتل ، وعلي نحو ملفت ولايستند إلي معطيات من الواقع تم حشد المجتمع الدولي وتم إتخاذ القرارات السيئة في تاريخ الأمم المتحدة. لقد اجتمع مجلس الأمن اجتماعا حاسما وعاجلا مثلما لم تكن اجتماعات أخري حاسمة وعاجلة، كما قال أحد السفراء الغربيين .
وكان المجلس موحدا بصفة نادرة ، كما علق بانكي مون. وكانت عقوباته قارصة كما قالت أمريكا . لقد تهافتت دول العالم لكي تفوز بشرف الموقف حتى من ليست بنجوة من أن تدور عليها الدائرة . لم يستمع العالم لصوت الطرف الرسمي الذي تقع الأحداث في بلده ولا زال موجودا علي تسعة أعشار من أرض بلاده. كما لم ينتبه العالم لمظاهرة تحولت إلي عملية تمرد مسلحة بين عشية وضحاها تقودها مجموعة ظلت غارقة وفاعلة في “النظام المثار عليه “إلي اليوم الذي تعلن فيه انضمامها لعملية شغب واسعة احتضنتها الجزيرة . كما لم يشاهد العالم مظاهرة سلمية في ليبيا، ثم أن القذافي لم يرفض أي مطلب من أجل الإصلاح.
ليس هناك أي دور للمنطق ولا للقانون فقد تم النطق بالحكم في حق القذافي ،وسوف يتم إتخاذ القرار الذي يدعم ذلك باسم المجتمع الدولي و بطريقة تجاوزت السـُلم وكل الإجراءات القانونية للأمم المتحدة تم الحصول علي تفويضها.وقد برزت فضيحة صغيرة في الأثناء مفادها أن الغرب لم يحسم مسألة الحصص في ما بينه وهكذا تأخر تنفيذ “القرار” أسبوعا كاملا ،وقد كان مرد ذلك أن أوروبا ترى أن ليبيا غنيمة من نصيبها وحدها وهنا تمت عملية جرد الحساب علي شاكلة ” أن التاجر المفلس يعود إلي دفاتره القديمة ” فقد كانت مشاركة أوروبا البحر الأبيض في عاصفة الصحراء كبيرة ولم تحصل سوى علي صفقات التيرنادو والميراج بأقل من 10 مليار دولار مع العربية السعودية، وشاركت ثانية في الحرب الماحقة علي العراق الثانية ولم تحصل علي أي نصيب من إعادة إعمار الدولة التي إعيدت أدراجا إلي حالة ما قبل 1928 حيث تم تدمير ما قيمته 500 مليار دولار من التسليح وكل المنشآت والبني التحتية (لأن الجنرالات الذين يديرون الحرب مساهمون في الشركات التي ستفوز بالصفقات في ما بعد التدمير ).
ومن حقها الآن ، أي أوروبا ـ وكعودة عادلة للأمور إلي نصابهاـ أن تحصل علي نصيب الأسد في ليبيا. لقد أدى إستلهام الهمم الأوروبي هذا ، الي صراع داخلي لم تنقله وسائل الإعلام وتسبب في توقف الناتو عن القيام بأي مهمة ، وبعد حسم الخلاف الذي لم يعرف أرسيَ علي أي نسبة للولاليات المتحدة الأمريكية قام النيتو بمهامه ، وبدور كاسح للولايات المتحدة فقد تم في اليوم الأول إطلاق 120 صاروخا أمريكيا من أصل 122 سعر الواحد منها 1,6 مليون دولار مع 120 طلعة سعر ساعة الطلعة الواحدة 17000 يورو، ودون الإغراق في التفاصيل يصل إسبوع من تطبيق الحظر إلي 300 مليون دولار.
لقد بدأ الناتو عملياته من 13 مارس وانتهت في دجمبر، إنها في المحصلة صفقة اقتصادية واسعة علي عدد هائل من الجثث: أكثر من 150 ألف قتيل، سقطت خلالها كل الشعارات وكل المفاهيم وكل القيم وتم العمل إلي جنب بين الإسلامويين والصهاينة والليبراليين المصلحين والشفونيين والساديين والأزهر والجزيرة والقرضاوي ومجلس الأمن وجامعة الدول العربية والمحكمة الجنائية الدولية والصهاينة والمتصهينين. لقد تم فتح أبواب جهنم وتم السماح لكل المسلحين، خارجا عن كل الضوابط بالدخول في عملية الموت الكاسح حتي من يعتبره الغرب عدوه الأول الإرهابي الخطير ويتبعه في الأدغال وفي الجبال سمح له بالمشاركة في محاربة القذافي.لقد تم تدمير كل شيء في ليبيا قبل إغتيال القذافي .لقد إنتهت العملية كما لم يرد الغرب من الناحية الأمنية والسياسية فقد تشتت ليبيا وتشبعت الحركات المتطرفة والأهالي بالسلاح وتحررت الحركات الإنفصالية في مالي والنيجر من قيد القذافي ، وتحررت الهجرة وشاهد العالم زواق الموت وهي تحمل عثاكل البشر . وعادت الدول العربية بالدور الساقط وبفاتورة هائلة علي المستوين المادي والمعنوي إن الفاتورة الآن هي . موت مشروع العمل العربي المشترك وإنعدام ظروفه وشروطه من غياب لمرجعيات أخلاقية وايديلوجيا وقيمية وأخلاقية وإنعدام أهداف موحدة وغياب الزعامات والقيادات الكارزمية .
ظهور فاعلية للدولة الصغيرة المتحللة من أهداف الأمة والمرتمية في أحضان الصهونية والتبعية مثل قطر . إنهيار أطرقانونية وإدارية للعمل العربي الذي يأخذ في الحسبان قضايا الأمة .
يتبع ….
محمد محمود ولد بكار