رحلة في أزواد ما بعد الهروب المالي: الطريق إلى “جوهرة الصحراء” الخارجة على القانون
شكل الطريق الرابط بين مدينتي باسكنو الموريتانية، وتمبكتو الأزوادية، مدخلا لرحلة مغامرة صحفية، قادتنا إلى أعماق أزواد حيث حقيقة قوة السلاح “أشد وطأ وأقوم قيلا” من قوة سلاح الحقيقة.
والحيرة في المستقبل المجهول ترتسم على وجوه الجميع، بمن فيهم صناع الأحداث الدراماتيكية التي تعيش منطقة أزواد على وقع تتابعها دون أن تحسب لها حسابا، فقد خرجت مالي على عجل من تلك البقعة التي كانت سيطرتها عليها هشة، وخرج جيشها متسللا على جناح السرعة متلفعا بالهزيع الأخير من الليل، يجر أذيال الهزيمة تاركا عدته وعتاده نهبا للقادمين الجدد، بعد أن قاد انقلابيون متهورون في بامكو أمور بلدهم نحو الانهيار فضاعوا وضيعوا، وكفوا المجموعات المسلحة في أزواد شر القتال، لتبقى تلك المنطقة تائهة بين تطلعات دولة نظرية أعلنتها الحركة الوطنية لتحرير أزواد دون أن تتمكن من تجسيدها واقعا معاشا، وإمارة سلفية فرضتها المجموعات السلفية الجهادية على الأرض دون أن تعلن عنها رسميا.
بعد أن أكملنا إجراءات الخروج في مدينة باسكنو توجهنا صوب نقطة الحدود المحاذية لبلدة، “حاسي اطويل” ( 60 كلم شرق باسكنو) كنا نقترب رويدا رويدا من خط الحدود، مفارقين أمن الوطن ورحابته، نحو بلاد تتنازعها أهواء السلاح ومطامع الرجال، كل يسعى لأن يفرض على أزواد مزاجه بسلاحه، دون أن يستشير أحد ساكنتها، رغم أنهم أصحاب الوبر والمدر فيها، وأولى بتقرير مصيرها، وكانوا أحق بها وأهلها.
كان الوقت أصيلا عندما وجدنا أنفسنا أمام عسكري يتمنطق بندقيته وأشرطة الذخيرة تلتف حول خصره وكتفيه، داخل غابة تنتشر على خط الحدود، وحوله نفر من زملائه يحفرون الخنادق، استعدادا لما قد تسفر عنه حبلى الأيام من تطورات في المنطقة التي تمور بما لم يتوقعه أحد، كان الجنود الموريتانيون وهم يحفرون تلك الخناق، بين الأشجار، يدركون جديا، أن من قاتلوهم بالأمس القريب في غابة وقادو وحاسي سيدي وباسكنو، يحكمون سيطرتهم الآن خلف الحدود في تلك البقعة من بلاد الله الواسعة، ومشروعهم يتفاقم ويتسع، ومستقل العلاقة بهم يزداد غموض وتوجسا.. اقترب منا ضابطان شابان أحدهما برتبة ملازم أول، والثاني برتبة ملازم، وبمعيتهم ضابط صف وعدد من الجنود، بعد التحية والتعارف، استلموا جوازات سفرنا، وطلبوا منا الانتظار.
كان الجنود يتحلون بأخلاق عالية خلال معاملتهم لنا، قال قائلهم بلباقة تغلفها ابتسامة تنم عن دماثة خلق، إننا ننتظر التعليمات بشأنكم، لقد أبلغنا قيادتنا بوجودكم..
طال الانتظار ساعات وساعات.. كسر أحدهم روتين الانتظار الممل مبررا احتجازهم لنا: “لقد اخترتم منفذا حدوديا غير رسمي، كان عليكم العبور من منفذ فصالة فهو المنفذ الرسمي”، لكنه استدرك قائلا، سنسعى لأن يسمح لكم بمواصلة المسير من هنا..
بدأ الليل يرخي سدوله، والظلام يلف سجفه على تلك المنطقة الموحشة، طلب الجنود من السائق تسليمهم مفاتيح السيارة بعد أن أوقفها حيث شاءوا، وزودونا ببعض الفراش والشراب والطعام، وحاولوا جاهدين طمأنتنا باحتمال السماح لنا بالعبور، مع تنبيهنا إلى خطورة ما نحن مقدمون عليه، وعند الساعة الواحدة ليلا جاء البشير ليلقي البشرى على مسامعنا، بعد أن هدنا التعب وبلغ منا اليأس كل مبلغ، “لقد أذنوا لكم بالعبور إلى أزواد”، قالها، ثم أشفعها بطلب توسل إلينا ان نلبيه.. نحن مدعوون للبقاء مع الجيش حتى الصباح، فالمنطقة السائبة التي سنقتحم لأول مرة في حياتنا تتطلب منا أن نلجها نهارا، لعل ذلك يخفف من مخاطر الطريق، لقد كانت ليلة ملؤها الأريحية والإحسان، مع شباب زجوا بأنفسهم في أتون المعركة، وقناعتهم الراسخة أن دماءهم رخيصة في سبيل الوطن..
ومع تمايز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ودنو ساعة فلق الصبح، صلينا سويا مع الجنود، وتسلمنا جوازات سفرنا من الضابط المسؤول عن الفرقة ومفاتيح السيارة، وانطلقنا نحو غايتنا.
كانت السيارة تطوي الأرض طيا، والصحراء تنبسط أمامها انبساطا، وكأنهما تتصارعان على حساب جهدنا ووقتنا، وما خفف وعثاء السفر عنا، أريحية السائق (عبد الرحمن) الذي كان رفيق الرحلة، فقد كان يعرف تلك البلاد كما يعرف خطوط يديه، فهو أحد أبناء تمبكتو وصحراء أزواد، قاتل فيها وهو فتى يافع، وفقد شقيقه الأكبر وعددا من أبناء عمومته في حروب مع الماليين أحيانا، ومع الطوارق والقاعدة أحيانا أخرى، واليوم يتحسر على وضعها، قائلا إن أبناء أزواد هم من ضيعوه وأوصلوه إلى حافة الفوضى والضياع، وقد ألجأه اليأس من الوضع، إلى السخرية من كل شيء في أزواد، حكاما ومحكومين، ضحايا ومضحين.
عند الساعة الثامنة صباحا توقفا في بلدة “لرنب”، كانت أول مدينة أشاهدها في حياتي وهي تعيش خارج السلطة، معظم سكانها مع عرب أزواد، تركتهم الحكومة المالية وراء ظهرها وهجرتهم مليا، ولم تحضر إليهم كتائب المتمردين الطوارق، ولا مجموعات السلفيين المسلحين، حدثنا مرافقنا عن عشرات الرجال الذين كانوا في القرية، قائلا: “هؤلاء جميعا حملوا السلاح معي في صفوف الجبهة العربية الإسلامية لتحرير أزواد بداية تسعينيات القرن الماضي”، واليوم تتقاسم جهات أخرى وطنهم وديارهم وأرضا لم يطؤوها، دون أي نصيب لهم فيها..
كان السكان يقتربون منا مسلمين وسائلين عن الأخبار والمستجدات، يحكون ما سمعوه عن بلدهم في إذاعة فرنسا الدولة فهي وسيلة اتصالهم الوحيدة بالعالم الخارجي، ويستفسرون عن نوايا الجبهات المسلحة والمجموعات المتمردة، وغير بعيد منا توقفت سيارة فأرسلوا واردهم، سائلا عن طريق باسكنو، هل هي آمنة، وهل الجيش الموريتاني يمنع الداخلين أو يضايقهم، وما حقيقة الشائعات التي تتحدث عن اعتقال السلطات الموريتانية للقادمين من أزواد.
بعد استراحة شاي قصيرة، غادرنا بلدة “لرنب” باتجاه مدينة “غوندام”، وكان قرارنا أن لا مقيل قبل تمبكتو، لكن عجلة السيارة كان لها قرار آخر، وعلى بعد حوالي 60كلم من بلدة لرنب توقف السائق “مكره آخاك لا بطل” ، وتطلب تغير العجلة وقتا قصيرا، لكنه وقت شكل أول خروج على تعليمات الأمنية الجيش الموريتاني بأن لا نتوقف في مكان غير آهل بالسكان، وانطلقنا صوب “غوندام” التي دخلناها بعد الزوال، كانت مدينة رفض معظم سكانها مغادرتها، وفضلوا البقاء خارج سياق الزمن، فلاهي غدت مالية، ولاهي أصبح لها شأن آخر، بحثنا في المدينة عن رصيد للهاتف لكن دون جدوى، إنها بداية نتائج حصار فرضته حالة الفوضى التي تسود في أزواد، اشترينا عصيرا من أحد الحوانيت، يشير التاريخ المكتوب عليه، إلى انتهاء صلاحيته قبل أربعة أشهر، وكان اقرب إلى السخونة منه إلى البرودة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، ثم غادرنا “غوندام”، وواصالنا السير نحو الهدف المنشود، مدينة تمبكتو، وعند الساعة الرابعة مساء، شاهدنا أول مظهر عسكري منذ دخولنا أزواد، إنها البوابة الشمالية لمدينة تمبكتو، هناك أقام مقاتلون من “حركة أنصار الدين” وحلفائهم من القاعدة نقطة تفتيش عند البوابة.
أعلام سواء كتبت فيها عبارة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وفتيان في مقتبل العمر بعضهم ملثمون وبعضهم معممون، يرتدون جلابيب قصيرة معظمها بألوان ترابية، وأزياء عسكرية غير مكتملة، تقدم إلينا أحدهم وسلم، وسأل بلهجة حسانية طليقة، عن الهوية والوجهة، ولما علم أننا صحفيون طلب منا الانتظار حتى يشعر قادته ويصله القرار بشأننا، أشار إلى عريش قريب من النقطة، طالبا منا أن نأوي إلى الظل في ذلك اليوم القائظ التي كان رياح السموم فيه تشوي الوجوه، انتظار للتعليمات، بعد حوالي ربع ساعة وصلت سيارتان تقلان مجموعة من المسلحين، نزل سائق السيارة الأمامية وسلم، سائلا عن أحوال الأهل في موريتانيا، ثم قدم نفسه على أنه “خبيب”، المسؤول الأمني لمدينة تمبكتو، كان الفتى على قدر من الأخلاق والطيبة وتعرف علينا من سحنات وجهونا التي ألفها تلفزيونيا في السابق كما قال، لكنه استعجل الصراحة والجرأة فبدت بعض كلماته خارجة عن سياق المجاملة الذي يقتضيه الموقف، أدرك أنه تسرع في حدته، فبرر الموقف قائلا: “اعذروني، فنحن معاشر السلفيين ما أخرجنا من الظل إلا الصراحة وقول الحقيقة مهما كلف الثمن”، اصطحبنا إلى فندق وسط المدينة قائلا “هذا فيء أنعم الله به على المجاهدين”.. إنها مصطلحات جديدة ندخل معها عالم “المجاهدين” في مدينة تمبكتو جوهرة الصحراء، التي أصحبت خارجة على القانون، بعد أن سيطر عليها من “يكفرون بالقانون” ويتعبدون الله بذلك “الكفر”.
ـ يتواصل ـ