مراسيم تأبين “الرحيل”..!!

كان اجتماع قادة منسقية المعارضة الأخير لإعلان شروط المشاركة في الانتخابات أقرب إلى جلسة تأبين للمشروع “السياسي” الذي حملوه منذ عام ونيف من الشهور يوم أطلقوا سيقانهم للريح في أول مسيرة تنظمها المعارضة في شوارع نواكشوط لفرض “الرحيل” بالقوة على النظام، محاكاة للفوضى التي اندلعت في بعض البلدان العربية.

فقد ظهر “المناضلون” في اجتماع “دار الندوة” بخطاب “سياسي” مناقض تماما لما درجوا عليه في الشهور والسنوات الماضية، وبدل الخطابات العنترية- التي ما قتلت قط ذبابة- جاءت الكلمات همسا هذه المرة، من حناجر مبحوحة، أنهكها الضياع في مسارات “النضال” المتعرجة..

وعوضا عن الأصوات الجهورية المنادية بالرحيل، كانت لغة الخطاب متقطعة، تغلب عليها نبرة اليأس والتوسل والاستعطاف، فالأسد الذي ملأ الدنيا زئيرا تحول إلى قط أليف يموء بصوت خافت تتفطر لسماعه الأكباد..

أخيرا أدرك “الظاعنون” أن النظام لن يسقط بمسيرة أو اثنتين، وإن مطالب الرحيل تحتاج معارضة تمتلك الحد الأدنى من الإيمان بـ”القضية”، والمؤسف أن اغلبهم اكتشف متأخرا أن من وضع منهم شعار الرحيل، قطع أشواطا كبيرة في التحضير للانتخابات التشريعية من وراء ظهر باقي أعضاء المنسقية، بل ومد يدا للنظام من تحت الطاولة أكثر من مرة..

أدرك هؤلاء- بعد فوات الأوان- أن المعارضة في بلاد “المرابطين” تختلف عن “نظيراتها” في بلدان “الربيع” العربي، في عدم استعدادها للتضحية، والمضي في نفس المسار إلى آخر نفس، ربما بسبب طول الأمل وحب الدنيا عند حملة شعار “الرحيل” هنا.

خلال الفترة المنصرمة من “النضال” ومع انحسار ما يسمى زورا الربيع العربي، بدأ التعب ينال من قادة المعارضة، وأخذ الوهن يتسلل إلى النفوس المسكونة بحب السلطة، وفعلت الخلافات البينية فعلتها في صف “ثوار” موريتانيا الجدد، بعد أن صرف الشارع النظر عن شعارات المنسقية، ومهرجاناتها الاستعراضية، وقابلها النظام بلا مبالاة كانت أشد عليهم من “وقع السهام في الليلة الحالكة الظلام..”!!

وفي مسعى من ركب الظاعنين لحفظ ما تبقى من ماء في الوجوه المنهكة من وعثاء “النضال” أصدر هؤلاء بيانا هزيلا، هزال الحراك “الشعبي” التي أريد له أن يُحدث ثورة مدوية في هذا الركن القصي من الوطن العربي.

وبعيدا عن الأيمان المغلظة بعجز الرئيس، وإعلان البيعة أمام الشعب على المضي في مسار “الرحيل”، ورسم اللوحات القاتمة للوضع السياسي والاقتصادي، جاءت نبرة البيان مليئة بـ”التسول” و”الاستعطاف” للمشاركة في الانتخابات، محدثا بذلك انقلابا في الخطاب السياسي للمعارضة، من المطالبة بالرحيل إلى تسول المشاركة في تسيير الشأن العام فقط..

يقول البيان/ العريضة: “بما أن تجربة انتخابات 2009 الرئاسية و الممارسة السياسية الحاصلة طيلة السنوات الأخيرة قد أثبتتا أن رئيس الدولة والوزير الأول الحاليين ليسا مؤهلين للإشراف على انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، فإن المنسقية ترى أن حكومة توافقية يقودها رئيس وزراء محايد يكون متمتعا بكل الصلاحيات الضرورية، هي وحدها القادرة على ضمان شفافية الانتخابات المقبلة.”

ولاشك أن المراقب العادي يصاب بالدوار حين تستوقفه هذه الكلمات، التي تنبئ عن هشاشة المواقف التي يبني عليها سياسيونا توجهاتهم، ورؤاهم الفكرية والسياسية.. فما الذي جعل تفكير قادة “الربيع” الموريتاني يتدنى إلى هذا المستوى؟ ومن أرغم هؤلاء على التدحرج بهذه السرعة إلى هذه المهاوي السحيقة؟ وأين اختفت الخطابات، والتظاهرات، ودعوات الرحيل التي لم تهدأ على مدى عامين..؟

وتمضي العريضة في تعداد الشروط والمطالب، فتشترط “حياد وسائل الدولة وسلطان نفوذها، والنأي بالإدارة عن تعاطي السياسة، وتحديد سقف مالي لميزانيات المترشحين..” إلى غير ذالك من الشروط والمطالب التي تنم عن إفلاس في الخطاب وضبابية في الرؤية، وقصور في الأهداف..

وكـأن قادة المنسقية بعد ان بلغ بهم اليأس مبلغه باتوا يتمثلون قول امرئ القيس:

إذا ما لم تكن إبلا فمعزى ** كأن قرون جلتها العصي

وبعبارة أخرى فإن لسان حالهم يردد: “مادمنا قد فشلنا في إحداث الثورة، واختطاف الحكم، فلنحافظ على الأقل على ما لدينا من مكاسب وامتيازات سياسية وانتخابية..” وتلك إحدى رزايا الساسة الانتفاعيين..

وإذا كان من خلاصة يمكن الخروج بها من عريضة المنسقية الأخيرة فهي أن ركب الظاعنين قد ألقى عصا الترحال، وطفق يبحث عن وسيلة لمخرج “مشرف” من مأزق دخله مختارا، وخرجه محتارا، عارٍ من لبوس القيم والمبادئ والقناعات التي خاض باسمها معركة وهمية، خسر كل جولاتها واحدة بعد أخرى..

سيدي محمد ولد ابه

sidimoha@yahoo.fr

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى