متى ينجح الموريتانيون في مُغَالَبَةِ التجاذبات الحِزبية الضيّقة؟
إنّ المتتبع لما يجري في الأقطار العربية في الوقت الراهن، يدرك بجلاء أنّ الوضع ليس على ما يرام. صراع محتدِم بين السياسيين، اقتتال دامٍ تغذيه نَزعات من كل نوع وصنف(إيديولوجية، عَقدِية، عِرقية، طائفية…). قلاقل واحتجاجات ومظاهرات ووقفات مطلبية على مدار الساعة…
تدهور أمنيّ واقتصاديّ… تفاقم مشكلة البِطالة. تدخل خارجيّ سافِر في الشؤون الداخلية. وممّا زادَ الطين بِلَّةً حِدّة الخطاب لدى السياسيين، ونزعة الإقصاء التي يترتب عليها أنّ الفريق الذي يحكم-بغض النظر عن طريقة وصوله إلى السلطة-يستبد بالحكم ويجعل منافع الدولة وخيراتها حكرا على الموالين له. أعتقد، بكل صِدْقٍ وحِيادٍ وموضوعية، أنّ أيّ نظام يتولى تسيير الشأن العام للدولة يجب أن يمرِّرَ خطابًا واضحا للشعب مُفادُه أنّ المواطنين جميعًا متساوون في الحقوق والواجبات، وأن خيرات البلد ليست حكرا على الحاكم أو مناصريه، وأنّ الدولة دولة مؤسسات، وأنّ الموالين للنظام الحالي لا يتميزون عن الموالين للنظام السابق، وأنّ العقاب الجماعيّ لهؤلاء غير مبرَّرٍ. فالنظام السابق ذهب بخيره وشره وحسابه متروك للتاريخ، أمّا الشعب فلا ذنب له إلّا بقدر ما يحكم به القضاء عليه، بشرط أن يكون هذا القضاء مستقلا وعادلا. لقد قلتُ هذا الكلام غير مرة.
وعلى الفرقاء الساسيين الموريتانيين أن يدركوا جيدا، أن لا مصلحة لأيّ أحد في أن يهيمن حزب معين-هيمنة مطلقة- على الحياة السياسية في البلد ، بحيث يعمل على تهميش الأحزاب الأخرى و سد الأبواب أمام منتسبيها، الطامحين إلى المشاركة الفاعلة في الشأن العام، و في تحمل جزء من المسؤوليات التي تقع على عاتق كل مواطن، بصرف النظر عن موقعه خارج الحزب الذي حصل في الانتخابات على أغلبية تمكنه من تسيير شؤون الدولة، سواء أكان ذلك على مستوى الانتخابات الرئاسية أم على مستوى البلديات و النيابيات، وغيرها. ولا شك في أنّ وضعية كهذه، لا يمكن أن تفضي إلى الاستقرار السياسيّ المطلوب، ولا إلى تنمية شاملة يشارك فيها المواطنون كافّةً.
لقد صرح رئيس الجمهورية مؤخرا أنه مستعد للحوار مع المعارضة السياسية، وبصرف النظر عن آراء السياسيين حول مدى جدية هذه الدعوة الجديدة للحوار، فإنني ألتمس من العارضة أن تبدي استعدادها للحوار-دون شروط مسبقة-وتطلب من الدولة تحديد الزمان والمكان المناسبيْن للشروع في هذه العملية التي طال انتظارها والتي نعلق آمالنا على نجاحها.
وينبغي لنا جميعا أن نعمل-كل فيما يخصه- في ظل حد أدنى من حسن النية والثقة المتبادلة، محاولِينَ كسر هذا الحاجز النفسيّ الذي يمنعنا من اللقاء والجلوس على طاولة واحدة، و الذي يجعل كل طرف يتستّر وراء قناعته بأنّ الطرف الآخر غير جاد في طلبه للحوار.
إنني-شخصيا-من كثرة مطالبتي بالحوار، ومن كثرة ما كتبته عنه، أُصِبتُ بالإحباط وأصبحتُ أشعر بأن لا فائدة من الحديث عن حوار لا أحد مستعد للدخول فيه عمليا. وغداة انتخاب السيد رئيس الجمهورة لمأمورية ثانية وأخيرة (بنص الدستور)، كتبتُ مقالا بعنوان: “مأمورية الحوار والمصالحة”، جاء فيه: “…يجب على المسؤولين الموريتانيين(موالاة ومعارضة) أن يجعلوا المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار، ممّا يقتضي الدخول في حوار جادّ ومسؤول وهادف يُفضي إلى الاتفاق على طريقة مُحكَمة وفاعلة لتسيير شؤون الدولة في هذا الظرف الحَرِج، محليا وجهويا ودوليا.
ولعلّ من أهم النتائج المتوخاة من هذا الحوار، إن قُدِّرَله أن يرى النورَ: التركيز على المستقبل وتجاوز مرحلة التجاذبات السياسية التي أضرّت بالبلد، والتي اشتدت حدتها بعد التغيير الأخير غير الدستوريّ الذي عرفته بلادنا، ضمن سلسلة الانقلابات العسكرية التي نُفِّذت حلقتُها الأولى في العاشر من يوليو/ تموز سنة 1978م. مع الإشارة إلى أن هذه التجاذبات توحي بعدم الاستقرار في البلد، الأمر الذي من شأنه أن يجعل المستثمرين يترددون في التوجه إلى بلادنا، مخاطرين بأموالهم، فرأس المال “جَبان”. ولا يختلف اثنان على أنّ التنمية-في مفهومها العام-تُعَدّ أولويةَ الأولويات. وللوصول إلى الهدف المنشود، وعلى أساس”لا غالب ولا مغلوب”، ينبغي للمعارضة أن تقدم بعض التنازلات التي تخدم لحمة المجتمع وتماسك الجبهة الداخلية، دون التخلي عن المبادئ الأساسية التي تناضل من أجلها. وعلى الدولة كذلك والرئيس والحكومة ومن والاهم، أن يقدموا التنازلاتِ الضروريةَ لتحقيق هذا الهدف النبيل، وعليهم يقع العبء الأكبر في ذلك لأنهم يمارسون السلطة ويتحكمون في تسييرالمؤسسات…”.
وفي ظل المخاطر التي تتهدد وحدتنا الوطنية في الوقت الراهن، فقد ارتأيتُ أن أكتب من جديد عن موضوع هذا “الحوار” الذي كلما ظننا أننا نقترب من الدخول فيه، تبيّن لنا أنه ما زال بعيدَ المنال. ولا بد من الإشارة، بهذا الخصوص، إلى أنّ ضعف الدولة الموريتانية ليس في مصلحة أحد. وبعبارة أخرى، أرجو من المعارضة السياسية-بأنواعها وبمستويات معارضتها-النأي بنفسها عن دعم أي عنصر أو أيّ توجه من شأنه زعزعة الاستقرار في البلد أو الإخلال بالأمن العام أو المس بالوحدة الوطنية. وبعبارة أوضح-وحتى لا يساء فهمي-أريد أن أنبه على خطورة محاولة إزعاج السلطة الحاكمة، عن طريق الدعم أو إظهار التعاطف مع أيّ حركة (عنصرية أو قبلية أو فئوية أو شرائحية…). ذلك أنّ إزعاج السلطة لا يجوز أن يؤدي إلى “إزعاج” الوطن. ومِن ثَمّ تدميره من الداخل(لا قدر الله). أقول هذا الكلام وأكرره، ليس تشكيكا-أبدًا- في المسؤولية العالية التي تتحلى بها المعارضة العتيدة والناضجة، وإنما انطلاقا ممّا أصبح يتردد من “عنف” لفظي نرجو أن لا يصل إلى العنف الجسديّ(والحرب أولها كلام). ولا مجال لإظهار أيّ نوع من التعاطف مع أصحاب هذه الأصوات. ولا فرق في هذا المجال بين مُوالٍ ومُعارِض عندما يتعلق الأمر بقضية وطنية بهذا الحجم وبهذه الخطورة.
وبناءً على ما تقدَّمَ، فإنّ الحد الأدنى من التوافق بين السياسيين، أصبح-أكثر من أيّ وقت مضى-صِمامَ أمان لوحدتنا الوطنية ولتقدم البلد وازدهاره. ولعل أهم ما في هذا التوافق، هو أن نتصدى جميعًا-يَدًا في يَدٍ-لكل مَن تسول له نفسه النيل من وطننا الغالي.
حَفِظ الله بلادَنا مِن كل سوء.