سألون عن النخب.. أيان شموخها؟ / الولي ولد سيدي هيبه
يمثل مفهوم النخبة أحد أهم المداخل الرئيسية لتحليل النظم السياسية وتقدير توجهاتها ومدى استقرارها،
و في علم السياسة الأمريكية ازدادت مكانة النخبة مع ظهور مفهوم “الديمقراطية النخبوية”. ووفقاً لهذا المفهوم النخبة هي جوهر الديمقراطية، و تتمثل العملية السياسية الديمقراطية في التنافس بين نخب الأحزاب بما يشكلها من فاعلي النخبة المتعلمة الأشمل في الأبنية الاجتماعية التي تفرزها باختلاف درجاتها للحصول على تأييد الناخبين، و بالنتيجة فإن معيار ديمقراطية النظام السياسي هو مدى حرية التنافس السياسي البناء بين النخب الحزبية الرصينة دون قيود.
هل نخب، بلد المليون شاعر و أرض المنارة و الرباط و بلاد أهل “شنقيط” المبهرين في هجراتهم إلى الشرق و المغرب و بلاد السودان، اضمحلت و هزلت إلى حد أنها لم تدرك في يوم خلال كل الفترات المتلاحقة لتاريخ البلد السياسي، الذي سبق تشكلُ فسيفسائِه الإعلانَ عن الاستقلال بعقد يزيد، أن البحوث حول النخبة مرت في مجملها بثلاث محطات هامة غطت معالجات:
· التحول من الطابع القيمي أو الأيديولوجي إلى الدراسات التجريبية عن واقع النخب في سياقات محددة،
· التحول في علاقة النخبة بالجماهير وازدياد الحدود على دورها في ضوء انتشار الأفكار والنظم الديمقراطية و ازدياد دور المواطن العادي في أمور الشأن العام ،
· التحول في اهتمام الباحثين من دراسة توصيف النخبة في حد ذاتها والخصائص التعليمية والمهنية والاجتماعية لأعضائها إلى التركيز على الأبنية الاجتماعية التي تفرز النخب.
هل أدرك كذلك أن مفهوم النخبة بصفة عامة يشير إلى أحد سمات البناء الاجتماعي، وأنه اختلاف درجتَي النفوذ والتأثير اللتين يتمتع بهما الأفراد علما بأنه في كل المجتمعات توجد مجموعة من الأفراد تمتلك سلطة وتمارس نفوذاً أكبر من الآخرين في مجالات الحياة المختلفة، لذا فإن المفهوم يشير إلي تلك الأقلية العددية (أو الأقليات) التي تتميز عن بقية أفراد المجتمع من حيث درجة تأثيرها ونفوذها سلبا أم إيجابا وصولا إلى أن جوهر مفهوم النخبة هو التوزيع غير المتكافئ لمصادر النفوذ والسلطة؟
و لماذا عجزت النخب في البلاد و عمرها السياسي طويل نسبيا حيث واكب جل التحولات المفاهيمية السياسية و الاجتماعية التي حققها العالم طيلة القرنين الـ 20 و الـ 21 عبر ثوراته المعرفية و الإنسانية المتلاحقة، عن استيعاب مقاصد و مدارك هذه المفاهيم و قوة و عمق انعكاساتها الإيجابية على الشعوب و أنظمتها؟
إن مراجعة عملية و محايدة لمقرات الأحزاب و التجمعات و النوادي السياسية و النقابات و في نسيج المجتمع المدني و إن قراءة و تأملا في خطاباتها و مناهجها التي لا تزال في مجملها هشة و مضطربة، لا بد أن تكشف عن بعض أوجه الخواء الحاصل فيها و تصدم برفعها النقاب عن حقيقة “اللاموجود” الفعلي من العطاء السياسي و التأطيري الضبابيين؛ هذا اللاموجود الذي يمكن أن يضيء في رحاب هذه المراجعة التقييمية ما يطمح إلى الوقوف عليه و تسجيله، على أقل اعتبار، مبررا لعناء البحث عن وجود النخب على أرض الواقع و تزكيتها من خلاله ثم تقدير مدى تعطش البلاد أهلا و كيانا و غاية إلى دورها الذي من المفروض أن ترتكز عليه و من حوله مسيرة بناء الدولة و ضمان بقائها.
إنها نخب “الإمعة” الممسك أغلبها بزمام كل الأمور و قد أسس كياناته – المستندة إلى خلفيات مدمرة قوامها روح العشائرية البدائية المزمنة و اعتماد الإقصائية عبر توازنات مجحفة و موغلة في القدم – على المال الحاصل من النهب الشديد لمقدرات الدولة و الإفراط في استخدام وجاهة السلطة.. و هو المال الذي يظل بعد نهبه مُغَيبا عن الاستثمار الإيجابي جهلا و تعمدا فيما كان حريا به – و ذاك أضعف الإيمان بضرورة التكفير عن سوء المأتِي – أن يجد فيه أفراد عامة الشعب مصادر رزق و حماية من الفاقة و التهميش كأن تتبلور بواسطته و تتأسس نواة صناعية و تنطلق حركية اقتصادية و يقوم رأس مال حيوي و منتج يثبت القواعد و يرفعها لصنع مقومات التنمية و التطور تنهي إلى استيعابهم في دائرتها و تمدهم بأسباب التكوين و التخصص توجها بالنهاية إلى تأسيس أرضية صناعية تؤمن للبلاد استقلالية عن الخارج و تكفل أسباب التقدم و البناء و التنافس و تزيل أسباب الغبن و التباين و الامتعاض التي تهدد الوحدة و تقوض أركان التشييد المتعثر رغم توفر الخيرات و تنوع مقومات العمران.
و لا ينفي ذلك وجود نخب أخرى اتبعت عشوائيا، بدوافع عاطفية و أخرى ذات صلة بالخواء المعرفي و الفكري الذي تغالطه نزعة الاستعلاء بنبوغ لا يبرره الواقع المرير، بعضُ التيارات الأيديولوجية الوافدة من خارج الدائرة الحميمة بفكر أغلبه جد مضطرب و غير متقن منهجية العمل حتى من طرف مؤسسيه و الداعين إليه في الصفوف الأمامية الذين يقتتلون بلا رحمة و لا يرضخون لمنطق الحوار و الإقناع.
و في خضم الصراع القائم في المشهد السياسي الضعيف أو الغائب العطاء الإيجابي الذي لا يمتلك من عقم حضاري خلفيات وطنية خالصة و أصيلة ترصد مكامن اختلالات واقع البلد التي تعري تخلفه عن ركب الأمم و عجزه عن تحديد ملامح مستقبله الضبابي و المحفوف بكل علامات التقهقر، فإن الأحزاب تبدو و كأنها تعمل بمضامين العقلية “المافيوزية” المدمرة أكثر منها السياسية التي لا بد في أضعف حالتها إن وجدت تراعي وحدة الكيان و تحافظ على مكانته في مصاف الأمم العادلة و الديمقراطية.
و بعيدا عن المسار الرتيب لبعض الأطر السياسية القريبة من النظام و التي يجني قادتها و أطرها دون سواهم من ذلك بعض الامتيازات المادية و المعنوية المحدودة، فإن بعض القوى المعارضة السياسية في المشهد و على الرغم من نشاطها المستمر و سعيها إلى تحقيق أهدافها و الحفاظ على مبادئها، لم يكن لها طيلة حراكها التأثير المنظر ولا الفعالية المنشودة التي تمكنها من أن تصلح نظام الحكم أيا كان أو أن تقضي على الفساد بكل أشكاله و مختلف فروعه، أو أن تدفع نحو مزيد من العدل الاجتماعي أو الاقتصادي الذي يقلل الفوارق بين الطبقات و الشرائح و الاثنيات أو بين الرجال والنساء أو بين الكبار والأطفال، أو يؤدي إلى مزيد من الحرية أو الديمقراطية الحقيقية، أو التخلص من الاستبداد الداخلي والتدخل أو الهيمنة الخارجية.
و في غياب أي إنتاج سلطوي رفيع يستجيب لمتطلبات بناء الكيانات القابلة للحياة و القادر على دفعها دولا إلى حيز الديمقراطية الحقة و العمل بمفاهيمها العادلة يظل الحوار عصيا على القيام و تظل مفردات لغته غائبة هي الأخرى عن الأذهان الشاردة، و يظل الشعب يتساءل عن النخب و أيان شموخها و يكرر قول الراجز:
أيان تَقْضِى حاجاتي أيانا … أما تَرى لنُجحها إبان