لماذا نتعلم الفلسفة؟
إذا كان الحديث عن تعليم الفلسفة هو في حد ذاته حديث فلسفي،فإننا نسعى من خلاله للوصول إلى العمق الإبستيمولوجى الذي تتحدد من خلاله آليات تعليم وتعلم الفلسفة،فالتساؤلات التي يطرحها تعليم الفلسفة تعود في جذورها إلى الأسئلة الديداكتيكية التالية:
– لماذا نتعلم الفلسفة ؟
-هل من مبررات لتدريسها في بلادنا ؟
-هل تتناسب محتوياتها مع أهداف تدريسها ؟
– ما مدى قابلية المتعلمين لاكتسابها؟
– ماطبيعة الدرس الفلسفي ؟ وهل هو درس موضوعاتى أم مفاهيمي؟
تجيبنا ديباجة الوثيقة الأساسية لبرنامج مادة الفلسفة عن السؤالين الأول والثاني بما نصه”إن برامج الفلسفة المحددة بموجب القرار 165الصدر بتاريخ 12/12/1983م كانت قد أعدت أساسا لتنمى وتعزز لدى تلامذتنا مجهودا فكريا نقديا يغرس لديهم ذوق البحث ويأخذ فى الاعتبار حالة التطور العلمي ” لكن الوثيقة ما تلبث أن تعترف بالقصور فى محتويات المادة عن تحقيق الأهداف المنشودة فتضيف”غير أنه أمام التحولات الاجتماعية الجديدة والتساؤلات الكبرى التي تصاحب نظام المعارف يطالب الفكر الفلسفي بأن يكون قادرا على أن يستعيد قوته وأن يتجدد باستمرار ….فى هذه الحالة يكون على الفكر الفلسفي أن يأخذ فى الاعتبار المعيش اليومي …..وفى هذا الإطار نفهم انتقادات أساتذة الفلسفة لجمود البرنامج وأسفهم على غياب عدد من المواضيع التى أصبح تدريسها ضروريا من أجل بلوغ الأهداف الأساسية”.
أما السؤال عن مدى قابلية المتعلمين لاكتساب الفلسفة؟
فإن الإجابة عنه تتضح من خلال نتائج الباكالوريا(من سنة 2000م-2014م)
حيث تحتل مادة الفلسفة المرتبة الأولى فى ترتيب أكثر المواد ضعفا فى النتائج بالنسبة للشعب الأدبية ،وذلك بمقارنتها فى القسم الأدبي بالمواد الأساسية:(العربية ،والتاريخ).
إن تدريس الفلسفة حسب مفهوم وثيقة برنامج مادة الفلسفة للمرحلة الثانوية الصادرة عن وزارة التهذيب الوطني “هو نشاط يدفع إلى ممارسة تأملية مرتكزة على جهاز مفاهيمي ”
والأهداف المحددة فى برنامج الفلسفة للمرحلة الثانوية هي:
*- تنمية القدرة العقلية وترويض الفكر على ممارسة التفكير
*- خلق وعي نقدي يسمح بالتحرر من قبضة النظام القديم
*- القدرة على التجرد من الذات لتحقيق قدر أفضل من الموضوعية فى السلوك العام
*- تأهيل الذهن ومده بمقومات تمكنه من تحمل المسؤولية المستقبلية
*- المساهمة فى تكوين شخصية متفتحة ومرنة عبر شبكة من المقومات الأخلاقية والتراثية
*- دفع الطالب نحو التحول العالمي ومواكبته من خلال قيم الحرية وحقوق الإنسان و الديمقراطية
هكذا نستنتج أنه مادامت الأهداف التربوية كما يرسم صورتها المقرر الدراسي تميل نحو إكساب التلميذ القدرة على التفكير المستقل ،ومادامت الطبيعة الفلسفية تكمن فى جهازها المفاهيمى فإن التفلسف يصبح الطريقة الأنجع لتحقيق الأهداف التربوية فه الأكثر ملاءمة لخصوصية المادة .
ولسنا نزعم هذا الرأي من موقف شخصي ،بل إن تاريخ الفلسفة يمدنا البراهين والأدلة على ذلك .
إن الطبيعة الفلسفية تنفر بالدوام من الطابع المؤسسي التراكمي (الذى يراكم المعارف) المقيد بتوجيهات منهجية صارمة ،مما يدعو إلى طرح مشكلة التعارض بين الفلسفة المدرسية والتفلسف الأصلي أي بين امتلاك المعارف والبحث عنها .
فالتفلسف هو طريق التأمل والبحث والتفكير الجاد .
ومن هنا كانت المعارف الفلسفية هى ذلك الرصيد من التجارب والمعطيات القابلة للتعليم ،ولكن تلك المعارف لا تحقق تعلما جديدا ما لم ترتبط بمران دائم وتفلسف جديد على ضوء معرفة تلك التجارب.
لمزيد من الإيضاح نقول إن الدرس الفلسفي يوظف المعارف السابقة –الفلسفية منها وغير الفلسفية – بوصفها رصيدا علميا يمكن الاستفادة منه فى ممارسة التفكير الحر الذي ينتج بدوره معارف جديدة وهذا التفكير الحر ليس شيئا آخر سوى التفلسف.
إن التداخل بين التفلسف وتعلم الفلسفة يشبه إلى حد كبير التداخل بين البيداغوجيا والديداكتيك ، باعتبار الأولى تعني بوضع استراتيجيات التعلم فى حين تعنى الديداكتيك بخصوصيات تدريس المادة ،فالبيداغوجيا تحضر فى الدرس الفلسفى بمجرد أن يتدخل المدرس فى سياق وضعية تعليمية ليقوم بدوره كمبلغ للمعرفة إلى المتعلمين.
أما الديداكتيك فهي تسكن التفكير فى المادة وطرق تدريسها وتقيم علاقة مباشرة بين منطق المادة وخصوصيات المتعلم وأهداف التعلم ،وهكذا فإن التداخل بين ماهو بيداغوجي خاص بطرق توصيل المادة إلى المتعلم وبين وماهو ديداكتيكي يراعى صعوبات التدريس هو ما يجعل البيداغوجي يلتحم بالديداكتيكي فى درس الفلسفة ، بل إن أبعادا أحرى :كالبعد السيكولوجي”الذي يعنى بتحديد العلاقة بين المدرس والتلميذ ومستويات التوافق واللاتوافق والفوارق النفسية والاجتماعية بين التلاميذ.”
والبعد الإبستيمولوجى وذلك الخاص بسوسيولوجيا التربية (كأسلوب استخدام اللغة ومنظومة القيم والثقافة ) .كل تلك الأبعاد تعد مؤثرة فى عملية التعلم ،ويمكن أن تمثل عوائق أمام درس الفلسفة).
وكخلاصة نقول إن درس الفلسفة ينطلق من خصوصية المادة ومعايير تدريسها عبر التاريخ الفلسفي ليصل إلى بناء استراتيجيات تعلمها بواسطة مقاربات تربوية كالمقاربة بالأهداف :التى تؤكد على ضرورة صياغة أهداف على شكل وضعيات تعليمية تحدد ما ينبغي على المتعلم أن يقوم به ومن ثم تفتح النقاش وتتيح إبداء الآراء ،وكذلك الحال مع بيداغوجيا حل المشكلات التى تمكن بدورها التلميذ من المشاركة الفاعلة واتخاذ المواقف واقتراح الحلول مما يؤدى إلى انخراطه الفعلي فى صيرورة تعليمه وتعلمه.
ويبقى أن نتساءل من جديد عن طبيعة الدرس الفلسفي كما يقدم فى مؤسساتنا الوطنية – على ضوء ما تعرضنا له.
أين تدريس المادة في المؤسسات الثانوية من المعايير الفلسفية والبيداغوجية ؟ كيف يبنى مدرس الفلسفة في المرحلة الثانوية ديداكتيك الدرس الفلسفي؟
إن ما نشاهده اليوم من تدريس للفلسفة في مؤسساتنا الثانوية لا يأخذ فى الاعتبار ترابط الأبعاد السابقة وتكاملها في الدرس الفلسفي ، بل إن ما نلاحظه هو أن الأساتذة منقسمون في ذلك بين:
– من يتعامل مع الدرس الفلسفي بوصفه درسا موضوعاتيا فقط ،تستقى من خلاله المعارف الجاهزة ويقدم بطريقة تلقينية يكون المدرس فيها هو محور العملية التعليمية والتلميذ مجرد متلقي سلبي . وهذه الطريقة فى تدريس الفلسفة تؤازرها بعض التوجيهات فى كتاب النصوص الصادر عن المعهد التربوي الوطني ،الذى يعمد إلى تقديم ملخصات معرفية معدة للحفظ ، كما أن هذه الطريقة تلقى دعما قويا من المذكرات التى يعدها المدرسون لصالح المدارس الحرة وكذلك مايعرف بالمقالات الجاهزة و التي أصبحت سلعة تجارية رائجة لاحتوائها على إجابات فلسفية صالحة للموضوعات المتناولة في الباكالوريا .
وفى مقابل هذه الطريقة تقوم مجموعة أخرى من الأساتذة المدرسين للمادة قى المرحلة الثانوية –خاصة من ذوى الخبرة والاختصاص – باستخدام النص الفلسفي كوسيلة مساعدة فى التدريس ،لكن صعوبات تدريس المادة تتضاعف أمام محاولة هؤلاء الأساتذة وتصطدم جهودهم بنفور شديد لدى التلاميذ نتيجة تدنى مستوياتهم والصعوبات التي يلاقون عند مباشرة التعامل مع النص الفلسفي وأيضا لأن التلاميذ يبحثون عن أقصر الطرق المؤدية إلى النجاح بدون تكلفة أو عناء وهو ما توفره لهم الطريقة الأكثر شيوعا اليوم في المرحلة الثانوية لدى المجموعة الأولى من الأساتذة المدرسين للمادة.
الحاج ولد المصطفي :مفتش مادة الفلسفة