الحوار السياسيّ المرتقب في موريتانيا يجب أن يكون شاملا:/إسلمو سيدي أحمد
يعلق الموريتانيون آمالا كبيرة على الدخول في حوار جادّ بين الفرقاء السياسيين، يخرج البلاد من دوّامة التجاذُبات المزمنة بين النظام القائم والمعارضة السياسية وما قد يترتّب على ذلك من تعطِيل لتوجيه جميع الجهود إلى النهوض بعملية التنمية، بمفهومها الواسع. ولا شك في أنّ ما قِيل مِن قبلُ عن الحوار السياسيّ يكفي لتسليط الضوء على أهميته، بل حتميته. ومع ذلك، فقد ارتأيتُ أن أنبِّه على ضرورة مشاركة جميع الأحزاب الوازنة في هذا الحوار. وفي حالة تعذر ذلك، فإنّ ضرر الحوار سيكون أكثر من نفعه، لأنه لن يغير من الأمر شيئا، بل إنه سيفضي إلى المزيد مِن التشرذم والفرقة والتجاذبات السياسية التي لا تقدم ولا تؤخر ولا طائل من ورائها.
ولا يفوتني، بهذه المناسبة، أن أُعرِبَ عن ارتياحي لدعوة السيد رئيس الجمهورية بنفسه إلى هذا الحوار السياسيّ الذي طال انتظاره، والذي نأمل أن تكون نسخته المرتقبة أفضل ممّا سبقها من جولات حوارية أعتقد أنّ نقطة ضعفها الأساسية تكمن في غياب جزء مهم من الطيف السياسيّ عنها. ولا يسعني كذلك إلّا أن أعبّر عن ارتياحي لا ستجابة الأحزاب السياسية –على ما يبدو- لهذه الدعوة الشجاعة التي يبدو أن رئيس الجمهورية صادق فيها، وأنّ الأحزاب السياية- في معظمها-صادقة في الاستجابة لها والتعامل معها بحسن نية. و في صدق النية والإخلاص في العمل تكمن النتائج المرجوة.
ولكثرة ما كتبتُه عن المطالبة بالحوار وتبيان فوائده، فسأكتفي بتذكير القراء الكرام بمضمون مقال -يتعلق بالحوار- كتبتُه في أثناء الانتخابات الرئاسية الموريتانية الأخيرة، بعنوان: “أمّ المبادرات”، وقد جاء فيه:
انتشرت في الآونة الأخيرة “حُمّى” المبادرات السياسية المؤيِّدةِ لأحد المترشحين للانتخابات الرئاسية في موريتانيا. وبمجرد ظهور نتائج هذه الانتخابات-بصرف النظر عن المواقف المؤيدة أوالمقاطِعة لها وعن الفائز فيها- فإنّني أقترح على الفريق الفائز أن يقوم بمبادرة مؤيدة- هذه المرة- لمصالحة وطنية عامة. وأعتقد أنّ المبادرة المقترَحة، إن قُدِّرَ لها أن ترى النورَ، سيكتبها التاريخ بماء الذهب، وستكون أهم بكثيرمن مبادرات داعمة لفريق سياسيّ معيَّنٍ من أجل تقويته على خصومه السياسيين، الأمر الذي من شأنه تأجيج الصراع والتوتُّر وعدم الاستقرار الساسيّ اللازم للانطلاق في عملية البناء التي ننتظرها من الرئيس المنتخب لمأمورية جديدة، لمدة خمس سنوات. وعندما تنطلق هذه المبادرة من الفريق السياسيّ الفائز في الانتخابات الذي هو في مركز قوة، سيكون ذلك مؤشرا إيجابيا لحرصه الشديد على المصلحة العامة للبلد التي يجب علينا جميعًا-موالين ومعارضين وحياديين- أن نجعلها فوق كل اعتبار. ونظرا إلى أنني من الفئة المحايدة، فإنني أدعو السياسيين كافة إلى تقديم التنازلات اللازمة لتهدئة الوضع السياسيّ في هذا الظرف الدقيق الذي يعيشه وطننا العربيّ، بصفة عامة. إنّ المتتبع لما يجري في الأقطار العربية في الوقت الراهن، يدرك بجلاء أنّ الوضع ليس على ما يرام. صراع محتدِم بين السياسيين، اقتتال دامٍ تغذيه نَزعات من كل نوع وصنف(إيديولوجية، عَقدِية، عِرقية، طائفية…). قلاقل واحتجاجات ومظاهرات ووقفات مطلبية على مدار الساعة… تدهور أمنيّ واقتصاديّ… تفاقم مشكلة البِطالة. تدخل خارجيّ سافِر في الشؤون الداخلية. وممّا زادَ الطين بِلَّةً حِدّة الخطاب لدى السياسيين، ونزعة الإقصاء التي يترتب عليها أنّ الفريق الذي يحكم-بغض النظر عن طريقة وصوله إلى السلطة-يستبد بالحكم ويجعل منافع الدولة وخيراتها حكرا على الموالين له. أعتقد، بكل صِدْقٍ وحِيادٍ وموضوعية، أنّ أيّ نظام يتولى تسيير الشأن العام للدولة يجب أن يمرِّرَ خطابًا واضحا للشعب مُفادُه أنّ المواطنين جميعًا متساوون في الحقوق والواجبات، وأن خيرات البلد ليست حكرا على الحاكم أو مناصريه، وأنّ الدولة دولة مؤسسات، وأنّ الموالين للنظام الحالي لا يتميزون عن الموالين للنظام السابق، وأنّ العقاب الجماعيّ لهؤلاء غير مبرَّرٍ. فالنظام السابق ذهب بخيره وشره وحسابه متروك للتاريخ، أمّا الشعب فلا ذنب له إلّا بقدر ما يحكم به القضاء عليه، بشرط أن يكون هذا القضاء مستقلا وعادلا. وبهذا الخطاب المطمئن، يمكن أن تهدأ النفوسُ وتتقوّى اللُّحمة الوطنية ويشعر جميع المواطنين بنوعٍ من الطُّمَأنينة وراحة البال، لينطلقوا في عملية تضميد الجِراح، وفتح صفحة جديدة قائمة على المصالحة والتسامح ونبذ الفرقة والتشرذم، ونسيان آلام الماضي أو تناسيها على الأقل. ولا شك في أنّ هذه الأوضاع الخطيرة توجد بدرجة حادّة في بعض الأقطار العربية، وبدرجة أقل حِدّةٍ في أقطار أخرى. ومن حسن الحظ أنّ موريتانيا من الفئة الثانية. ومع ذلك، فلا بد من أخذ العبرة والدروس اللازمة لما حدث، وحتى بالنسبة إلى البلدان التي لم تصل بعدُ إلى حافة الخطر(فالعاقل من اتعظ بغيره). ولا أعتقد أنّ سياسة النعامة، المتجسدة في أنها تدفن رأسها في الرمال عند الإحساس بالخطر، صالحة للاقتداء بها في هذا المجال. ولا يفيد كذلك الاعتماد على مقولة: كم من حاجة قضيناها بتركها. ولا فلسفة الاعتماد على أنّ العنصر الزمنيّ كفيل بحل هذا النوع من المشكلات المعقدة. لا بدّ من اليقظة التامة والأخذ بزمام الأمور قبل فوات الأوان. ولعل الحل الوحيد الذي من شأنه أن يجعلنا نمر إلى بر الأمان، يكمن في تقوية جبهاتنا الداخلية، والمحافظة على تماسكنا الاجتماعيّ. وكل ذلك يمر حَتْمًا عن طريق مصالحة عامة. وفي غياب هذا التصور، نترك الأبواب مشرعة للدوران في حلقة مفرغة: يأتي نظام حكم جديد فيبدأ بتصفية حساباته مع النظام السابق ومع مَن كانوا معه، وقد يأتي هذا النظام عن طريق تغيير غير دستوري يتجسد في انقلاب عسكريّ(لا قدّر الله)، أو عن طريق ما هو أخطر وأشنع ، وأعني بذلك التدخل العسكريّ الأجنبيّ. والتجربة التي مر بها العراق وليبيا ما زالت ماثلةً أمامنا، حيث دخلت قوات أجنبية ودمرت البلدين وعادت إلى قواعدها تاركة المواطنين يتصارعون على السلطة ويقتل بعضهم بعضا من أجل الوصول إليها. وأشير هنا إلى أنّ فكرة، أنّ اللعبة الديمقراطية تقتضي وجود فئة سياسية(حزب أو ائتلاف أحزاب)تحكم وفئة تعارض، قد تصلح للبلدان ذات القدم الراسخة في الديمقراطية(الغرب بصفة عامة)، لكنها قد لا تكون صالحة في الوقت الراهن-على الأقل- لتهدئة الوضع الخطير المتفاقم في بعض البلدان العربية، وعلى المسؤولين عن الشأن العربيّ أن يفكروا جيدا في هذا الأمر. ثم إنّ وجود أغلبية مريحة في البرلمان-على سبيل المثال- قد لا يضمن للحكومة أن تنفذ برامجها ومشروعاتها في جو سياسيّ مستقر، خالٍ من الاضطرابات الأمنية والقلاقل الاجتماعية. ولا يفوتني في الأخير أن أوجه نداء حارًّا، إلى الحاكمين والمحكومين في وطننا الغالي(موريتانيا)، أناشدهم فيه وألتمس منهم العمل-كل من موقعه- على مصالحة وطنية عامّة وشاملة تحصِّن بلدَنا من الوقوع في الأخطار التي وقع فيها غيرُنا. ولعل العبء الأكبر في هذا المجال يقع على الرئيس المنتخب وعلى فريقه الحكوميّ وأنصاره السياسيين. إنّ مبادرة من هذا النوع وبهذا الحجم، تستحق بجدارة أن يطلق عليها اسم”أمّ المبادرات”.