ساحة الشّرف..شاحنة!!! / عبد الله البو أحمد عبد
كان بودّي أن أكتب عن شيء آخر غير هذا.. لكن ما حيلتِي وقد وقع الفأسُ في الرأس..وألقى الموت برداءه الأسود الكابي علينا. هذا الغائب الذي لا نعرف متى يحضر ولا نملك أمام حضوره إلّا الرّهبة والخشوع والتضاؤل وحبسَ الدّموع والزفرات ومنعَها من الفرار من مآقينا، أو النّدب والنّواح في أحسن الأحوال؟!
نعم إنّ المصائب كذلك، بالنسبة لنا كأفراد، ولكنّها بالنسبة للدّول والحكومات، فرصة لمراجعة السيّاسات واستظهار الدروس والعبر:
لا أتصور أن منّا من يجهل التضحيات العظيمة التي يقدمها أبناءنا القابضون على الجمر، رفاقُ السهر على حراسة أمننا واستقرارنا، في زمن تنهش فيه الحروب والفتن دولا وشعوبا شقيقة كانت إلى أمس قريب تتقلّبُ في الرخاء والسلام…
وليس لأي ثمن أن يعوضَ الإنسان عن روحه.. إلا إذا كان ذلك الثمن هو طمأنينة بلده وأمان شعبه..ففي ذلك أحسن العزاء..
وقد دفع كثير من أبناءنا ـ أغدق الرحمن شآبيب عفوه على أرواحهم الطاهرة ـ نفوسهم لأجل ذلك.. في تورين ولمغيطي والغلاوية.. كان حزننا عليهم عميقا ولكن فخرنا بهم كان أعظم..
إن القضية هنا واضحة لا تقبل الجدال ولا المواربة فأبناؤنا ـ أولئك ـ استشهدوا في ساحات القتال مقبلين غير مدبرين.. استشهدوا برصاص عدو غادر وهمجي..لكنهم كانوا في المكان الصحيح وكان هذا ـ في الواقع ـ من صُلب واجباتهم كفدائيين يحملون أرواحهم على أكفّهم لننام نحن في سكينة وسلام.
ومع أن الموت لا يمكن أن يكون حدثا سارّا بأي حال إلا أنه قد يكون مشرّفا حين يموت المرء دفاعا عن أمته ووطنه.
قد نحاسب القيادة العسكرية أيامئذ على أنها لم تأخذ القدر اللازم من الحيطة والحذر، أو أنها أخطأت في تقدير العدد والعتاد الكافي من أجل حماية نقاط حدودية معينة، وهذه تفاصيل ـ على أهميتها ـ يجب أن تترك لأصحاب التخصص.
وقد سمعت شخصيّا من العسكريين قبل غيرهم حديثا مطمئنا ـ لله الحمد والمنّة ـ عن التحسن الملموس في الظروف المادية والمعنوية، وفي العتاد والعناية لجنودنا بعد أن اتخذت الدولة سلسلة إجراءات بهذا الخصوص، وهيّ إجراءات يجب أن تتواصل وتتضاعف يوما بعد يوم…
أما الحادث المفجع الذي وقع مؤخراً فإننا معنيون به جميعا، ليس لأنه يمسّ رمزا وطنيّا له في أنفسنا من المحبّة والتقدير، وفي أعناقنا من الحقوق..الشيء الكثير، فحسب، بل لأنه أيضًا جزء من صورة عامّة تطغى على مجمل جوانب حياتنا وعلى أغلب قطاعاتنا الحكومية الحيوية..
نعم.. للأسف الشديد… لقد أصبحت الكثير من مؤسساتنا ومرافقنا تؤدي دورًا عكسيّا تماما، بمعنى أنها تؤدي وظيفتها.. ولكن بالمقلوب!
لننظر مثلا إلى قطاع التعليم ـ بما أننا في سنة التعليم ـ
لا خلاف أن دور المؤسسة التعليمية هو تكوين جيل واع ومثقف، ومؤهل للعمل من أجل ذاته وبلاده، ولكن مؤسساتنا التعليمية تخرّج أجيالا ضائعة وفقيرة من أي رصيد معرفي أو حتى أخلاقي..ولا أعتقد أنني أحتاج لاستنزاف رزمة من الحجج والأدلة لأبرهن على ذلك.. فيمكنكم أن تتأكدوا بأنفسكم، لدى زيارة أقرب مؤسسة تعليمية، وإذا كنتم لا تودّون ذلك، فانظروا على الأقل في دفاتر أبناءكم وإخوتكم..
قد يعترض أحدهم قائلا: إن مشكلة التعليم أسطوانة قديمة، وهي إشكال مطروح في كل الدول النامية..وتحتاج وقتًا، إلى غير ذلك من الأعذار..ولكنني أقول له: إذا كان الأمر كذلك فمن الأجدى أن تتوقف البلاد كلها..في انتظار أن يَصلح أمر التعليم لأن جميع الأشياء الأخرى ـ لسوء الحظ ـ مرتبطة به.
وفي انتظار ذلك ـ ولا بدّ أنه انتظار طويل ـ دعونا نلقي نظرة على بقية القطاعات الأخرى.. سنرى أنه في قطاع الصحة، مثلا، حيث يفترض أن تكون العناية بالمرضى والاهتمام براحتهم لا نجدُ إلا العكس تماما: فالمستشفيات هي بشكل عام عنابر سجن وإهانة وفوضى سيريالية، وتكدّس للجراثيم والقاذورات والإهمال الذي يقتل الأصحّاء الأقويّاء، فما بالك بالمرضى؟
ونجد أن الصيدليّات التي يفترض بها أن توفّر الحياة والأمل والدواء لهؤلاء المرضى، لا تفعل، في أغلب الأحيان سوى النقيض: توفير الموت المحقق في شكل أدوية مزورة ومغشوشة تساعد الدّاء وتسهلُ له طريق القضاء على ضحيته..
و ما قلته أعلاه ينطبق على العدل، والشرطة والضرائب والحالة المدنية وخلافها من المصالح التي تؤدي مفعولا عكسيّا، ووظيفة مناقضة تماما لما هو متوقع ومأمول ومفترض منها أصلا.
لقد كان من المتوقع أن يَصل جنودنا البواسل إلى مواقعهم على الثّغور أو في الثكنات، أو يستشهدوا في معركة فاصلة مع العدو دون أرضهم وشعبهم..ولكنهم استشهدوا في معركة أخرى.. وساحة شرف موازية: لقد انقلبت الشّاحنة التي كان من المفترض أن توصلهم إلى مواقعهم الصحيحة، كما انقلبت المؤسسات التعليمية بتلاميذها، وانقلبت المستشفيات بنزلائها والمصالح الإدارية بزوّارها..
كلّهم جميعا سقطوا في ساحة شرفٍ أخرى، إثر هجوم غادر وجبان تشنّه الفوضى والإهمال، والتّلقائية، والفساد وسوء التّدبير والابتذال والارتجال الأعمى وانعدام المسؤولية الأخلاقية والوطنية، على مقدّرات هذه البلاد.
لقد كان استشهاد أجنادنا في تورين والغلاوية على إيلامه ومضضه دافعا مباشرا للقيادة السياسية أن تُسرّع في عملية إعادة هيكلة قوّاتنا المسلحة ومدّها بكل ما هو ضروري بشريّا وماديّا لتأدية واجبها على أحسن وجه، وهي عمليّة آتت أُكلها عموما مع أننا لا نزال ننتظر أن تتعمق أكثر فأكثر لتشمل تحقيق تكافؤ وعدالة حقيقية تكفلُ المساواة الكاملة والشفافية التّامة في المسابقات العسكرية وفي الارتقاء في الرّتب والامتيازات.
ونتمَنّى ونأمل أن يكون استشهاد جنودنا في هذا الحادث المؤلم حافزا للدولة حتّى تُبادر عاجلا إلى اجتراح معالجات جادّة وحقيقية للانقلابات المفزعة والمروّعة في السّلامة المرورية وفي التعليم والصّحة والأمن والخدمات الإدارية وخلافها من المرافق الحيوية الهامة لحياة المواطنين، فهل تفعل قبل أن تقع الفأسُ في الرّأس مرّة أخرى؟
الجواب متروك لأهل الاختصاص.!!!
عبد الله البو أحمد عبد
للتواصل مع الكاتب: aoelbou@gmail.com