غلبة التنظير… شر “نخبوي” مستطير/الولي ولد سيدي هيبه
في النسخة الثانية من منتدى الحوار الشامل التي نظمتها الإذاعة الموريتانية و بثتها مساء الاثنين 23-02-2015 عبر أثيرها و نقلتها قناة “شنقيط” الفضائية، ساهمت شخصيات أكاديمية و سياسية و دبلوماسية و من المجتمع المدني في الرفع من مستوى التبادل حول محاور اختيرت بعناية و رصدت جملة من الاهتمامات تضمنت إشكاليات:
– الوحدة الوطنية، الماضي و الحاضر و آفاق المستقبل،
– الإرهاب تهديدا و معالجة،
– التعليم في سياق المدرسة الجمهورية تشخيصا و معالجة.
و لما كانت إدارة الندوة و إنعاشها على مستوى جيد من الحبكة و المهنية و مراعاة القسطاس ما أمكن إلى ذلك سبيلا في توزيع الوقت و إشراك الجميع، فقد غلب على معظم المداخلات و في خطوة إيجابية هذه المرة نزول لغة التناول إلى مستوى يليق بعامة المستهدفين من مستمعين و مشاهدين و مهتمين حيث تقلصت الهوة بين الأكاديمية المضمخة بالمصطلحات العالمة و “السامعة” المتقنة لفن الإصغاء الجيد و لكن بلغة التخاطب العامة. و على خلفية هذه التحسينات فقد استطاع المتدخلون تمرير بعض من رؤاهم و معالجاتهم مانحين الجميع مساحة معتبرة من جيد الاستماع و قدر كبير من الاستفادة بنفس الدرجة و المستوى حيث كان و بطبيعة الحال هو الهدف المقصود.
و لو أن منسوب تكرار الأفكار التي باتت ممجوجة عند البعض من هذه النخبة – في برجها العاجي و بداخل زاوية التنظير المتجاوز لبعده الانحساري في حيز الغرض المنتظر – ظل و لا يزال دافقا و بعيدا عن الإسقاطات العملية على أرض الواقع. و ما زال يتخذ، مستقويا بمنط التراتبية و بشكل يستدعى التدارك العاجل، خطوة تشكل هي الأخرى ضربا فاضحا من الاستعلائية التي ترمي الشعب بشكل غير معلن بانحسارية الفهم داخل حيز من الإدراك الهرمي يقف المثقفون على حراسته، يتربعون على قمته، يتقاسمون بخطوط وهمية قاعدته تبعا لمزاجهم و يقطرون محتويات هذا الإدراك لمقتضيات المسار السياسي الذي يحشرون فيه أنفسهم، يحتكرونه و في فضائه المكشوف، يتنازعون، يتصارعون و يتغابنون بعيدا كل البعد عن عن التحرك في أي مسار اجتماعي أو تنموي بناء.
و فيما كرر البعض، من الذين حضروا النسخة الأولى و أثروا نقاش محاورها، أنفسهم و إن بأسلوب أقل جمودا على مُفرز التنظير المقولب بإتقان الإحاطة المتأنية، فقد حاول بعض أخر أن يظهر جاهدا بلبوس المتفائل الذي لا يرى إلا النصف الممتلئة من الكأس فحسب و يُطمئن بوسطية لا تلامس الواقع في حقيقة أمرها و لا تأخذ كذلك بموضوعية معطيات توازن يُفقده في كل لحظة ألفُ سبب و سبب.
و على الرغم من الدقة التي اتسم بها اختيار المحاور المطروحة للنقاش فقد مضت النسخة بعد ساعتين تزيد بكم غزير من المداخلات التي تراوحت بين الأكاديمي القيم في أطروحاته النظرية و كأن أصحابها في مدرج يلقون دروسا أستاذية ناسين أو متناسين بحسب مبررات حضورهم أنهم في بث مباشر عبر الأثيرين المسموع و المرئي، و متغافلين أو غافلين عن مسامع المستمعين و متطلبات إدراكهم في قضاياهم الجوهرية و ترقبهم رفع النقاب عن مضايقات الحاضر و إكراهات المستقبل.
و فيما كان يجب أن يشرك طيف من المواطنين يسكنه الهم اليومي و الفضول السياسي المشروع و يدفعه هاجس الرغبة العارمة في الإشراك في كل تناول و من أية زاوية لقضيا هو محورها و مربط فرسها حتى لا يغمط حقه في الإدلاء بالرأي الحي بحصافة العفوية، و حتى تكتمل الصورة و تتضح الفجاج و المسالك إلى التصورات المنطقية و الموضوعية للحلول و بناء قواعد الاستشراف الذي بات ضرورة لضمان السير الحثيث والمستنير إلى آفاق المستقبل أخذا في ذاك المبتغى بآليات العقلنة و الحيطة التي يتم الحصول عليها اثناء التبادلات في ندية يمليها منطق الأشياء لا ادعائية و غرور و قهر التراتبية التي تفقد عند ذاك كل مقوماتها و يتلاشى كل معناها.
هي إذا الحوارات التي تندرج في إطار دور الإعلام الكبير و في صميم مهمته لتناول قضايا الأمة و استجلاء و سبر آراء كل مكوناتها و على رأسها النخبة الإيجابية؛ تلك التي يجب عليها السعي إلى امتلاك آليات بناء الثقة و مد الجسور المتينة للالتحام مع الجماهير و الوقوف عن كثب على همومها و رفعها إلى الأعلى و من ثم المشاركة في تصور حلولها و ترجمة تلك الحلول إلى لغة مشتركة تذلل العقبات و تدفع درجة الوعي الجماهيري إلى الأمام.. وعي يمكن من التعامل الجاد مع القضايا الجوهرية سواء تعلقت بالوحدة الوطنية أو بدحر الإرهاب أو نشر العدالة بكل أوجهها الضائعة أو إصلاح المدرسة الجمهورية في ظل الرجوع بقوة إلى ثوابت الأمة و على رأسها الدين الحنيف و المسطرة الأخلاقية المنبثقة عنه و الحرص على مكانة اللغة العربية بالتوازي مع تطوير اللغات الوطنية بوصفها روافد إثراء و تنوع.