رسالة طويلة جدا / الكاتبة باماريام
الأدباء الأفارقة للأسف الشديد لم يطلع القارئ الموريتاني العربي على إبداعاتهم، ويبدو أن ذلك يعود لقلة الترجمة والنشر التي عادة لا تصاحب إلا الأعمال التي نالت الشهرة والشياع، فما خلا جون كويتزي صاحب ” حياة ميكل – في انتظار البرابرة ” و سليمان جيغوديوب والكاتب النيجيري المتميز شنوا اشيبي
والكاتب المالي امادو هامباتي با صاحب كتاب نعم سيدي القائد و شيخ انتا دجوب
وهذه ترجمة من كتاب الكاتبة السنغالية المتميزة مارياما باه وهي من شعب الفلان الواسع الانتشار في شمال السنغال وجنوب موريتانيا وهي كاتبة ملتزمة بقضايا ابناء القارة السمراء ولذلك لقبت Porte parole de la Littérature
Africaine
أي الناطقة باسم الأدب الأفريقي. هذه ترجمة لرواية أفريقية تعد من عيون الروايات، وهي إلى ذلك تستحق أن توصف بأنها رواية إسلامية بامتياز.. كاتبتها المرحومة مريما باه من السنغال.. كتبتها بالفرنسية.. وترجمت هذه الرواية إلى 19 لغة عالمية، وحازت جوائز عالمية وأفريقية، ولُقبت صاحبتها بلقب
porte parole de la Litterature africaine
أي الناطقة باسم الأدب الأفريقي… وسننشر مقطع من كتابها رسالة طويلة جدا
الفصل الأول
عائشتو،
وصلني خطابك، ورغبةً في الرّدِّ، أفتح هذه اليوميات، نقطة التَّركيز في معاناتي: لقد علَّمتني عشرتنا الطَّويلة، أنَّ التناجي إلى الأحباب يبتلع الألم.
إنَّ وجودكِ يا عائشتو في حياتي لم يكن صدفةً، فقد كانت جدَّاتنا اللاَّتي لم يكن يفصل بين بيوتهنَّ إلاَّ حيطانٌ قصيرة من الطوب يتجاذبْن الحديث طوال اليوم، وكانت عمَّاتُنا يتقاسمن العناية بأعمامنا. أما نحن، فقد تبادلنا الإزارات والنِّعال على طرق المدرسة القرآنيَّة الوعرة، ودفنَّا في التُّراب أسناننا الرَّضعية، على أمل أن تعيدها إلينا الفأرة الأسطوريَّة برَّاقة جميلة.
وإذا كانت الأحلام تموت عبر السِّنين والحقائق، فإنَّني ما زلتُ أحتفظ بذكرياتي حيَّة قويَّة، وتلك ملح ذاكرتي.
إنَّني يا عائشتو أستنجد بك، فالماضي يولد من جديد مع ثلَّته: أغمض عيني.. مدّ وجزر من الأحاسيس، حرارة وغليان، نيرانٌ موقدة، وطعم فاكهة المانجة الخضراء الحامضة في أفواهنا ونحن نقضمها الواحدةُ منَّا تلو الأخرى. أغمضُ عيني أخرى، في مدٍّ وجزر من الصُّور، ووجه والدتك المحمر بقطرات العرق عند باب المطبخ، وصورة صفوف البنات العائدات من النافورة العموميَّة.
وقد ساقنا الدَّرب نفسه من المراهقة إلى سنِّ الرُّشد حيث تمخَّض الماضي عن الحاضر.
صديقتي، صديقتي، صديقتي! إنَّني أناديك ثلاث مرَّات. بالأمس طلَّقتِ أنتِ، أما اليوم فأنا ترمَّلت. لقد توفي مودو، وكيف لي أن أرويَ لك الحادثة؟ إنَّ الإنسان لا يضرب موعدًا مع القدر، فالقدر يدقُّ من شاء، ومتى شاء، وإذا ما سار القدر في هوى المرء، فإنَّه يجلب له الرِّضا والطُّمأنينة، ولكنه في معظم الأوقات، يرجُّ المرء رجًّا ويطرحه، وحينئذٍ يرضخ للصَّدمة، كما رضخت أنا لصدمة التلفون التي عصفت في حياتي،
أوقفتُ تاكسي، بسرعة! مزيدًا من السُّرعة، حلقي جافٌّ، وفي صدري كُرةٌ معلَّقة، بسرعة! وأخيراً وصلت المستشفى، وجوهٌ حزينة، وجمهور باكٍ من معارفي أو من الغرباء، شهودٌ رغم أنفسهم على فظاعة المأساة.
ممرٌّ ممتدٌّ، لا يفتأ يمتدُّ ويمتد، وفي نهايته غرفة، وفي الغرفة سريرٌ، وعلى السَّرير يتمدَّد مودو، ما أسرعَ ما حيل بينه وبين عالَم الأحياء بلحافٍ أبيض، تمتدُّ إليه يدٌ مرتعشةٌ تتلمَّس الجثَّة المسجَّاة ببطء، في قيمص أزرق بخطوط رفيعة، ينكشف صدره المشعَّر، إنَّ هذا الوجه التائه في الألم بالتَّأكيد وجهه، وهذه الجبهة المصلع جبهته، وهذا الفم النِّصف الفاغر فمُّه. أردتُ أن أمسك بيده، لكن بعضهم أبعدوني.
قال لي زميله ماوْدو الطَّبيب شارحاً:
أزمة قلبيَّة حادَّة انتابته حين كان بمكتبه يملي خطابًا على سكرتيرته، وكانت هي حاضرة الذِّهن، إذ دعتني فورًا، لكنّني وصلتُ بسيارة الإسعاف بعد فوات الأوان.
أتأمَّل في “الطَّبيب بعد الموت” إنه يحاول عبثًا عملية الإنعاش القلبي، والنَّفخ في الفم غير المجدي، أتأمَّل أيضًا إن كل ذلك أسلحةٌ نابيةٌ ضدَّ الإرادة الإلهيَّة.
أصغي إلى كلماتٍ تثير في نفسي حالة طارئة، أغدو غريبةً كأنَّني مصلوبة. الموت طريق ممتدٌّ بين عالَمين متوازيَين: الأول هائج مضطرب والآخر هادئ صامت.
فأين أرقد؟ إن سنَّ الرُّشد تُفرِض على الإنسان النَّجابة، أشُدُّ على سبحتي وأنا واقفةٌ على أرجل واهنة، أضغط على حباتها بعنف، يرتجف خصري الوهِن بفعل الولادات المتكرِّرة. وفي تلك الأثناء، يبزغ من ذاكرتي جزءٌ من حياتي، وتتزاحم في مخيلتي آياتٌ قرآنية عظيمة، وكلمات حكيمة، من أجل عزائي. ما أعجب فرحة الولادة، وما أعجب حزن الموت، وبين هذين كانت حياةٌ، وقدَر ورجل قيل له مودو باهْ.
أتمعَّن في ماوْدو فيبدو لي أكثر طولاً في بزَّته الطِّبيَّة البيضاء، أجده أكثر نحافة، تشهد عيونه الحمراء الباكية بصداقة أربعين سنة، أُعجَب بيديه الجميلَتَين: يدان مرِنتان، بارعتان في تعقُّب الألم، تلكما اليدان النّاضجتان بوقود الصَّداقة، والعلم الصَّارم، لم يمكنهما إنقاذ الصَّديق!.
فوتا ميديا