الثقافة بين ضبابية الملامح و غياب الصناعة/الولي ولد سيدي هيبه

تناولت الندوة الرابعة من الحوار الشامل الذي تنظمه إذاعة موريتانيا و ينقله تلفزيون شنقيط موضوع “صناعة الثقافة في موريتانيا” و ضمت كوكبة من ألمع الأساتذة الجامعيين و من السياسيين و الإعلاميين المهتمين بالموضوع. و لإن كان مصطلح الثقافة من أكثر المصطلحات صعوبة في التعريف فقد تناوله الجميع و أبرزوا كل من زاوية أو خلفية مختلفة كل ملامحه الشكلية و الدلالية و غاصوا في أبعادها وتجلياتها و علاقتها بالمفاهيم الحضارية من المنظور الانتربولوجي و السوسيولوجي و التاريخي.

ففي حين يشير المصدر اللغوي للمصطلح في اللغة العربية و ما يحيل إليه من الفهم المتبادر للذهن والمنتشر بين الناس إلى حالة الفرد العلمية الرفيعة المستوى كأن يقال فلان مثقف، فإن استخدام هذا المصطلح كمقابل لمصطلحCulture في اللغات الأوروبية تجعله يقابل حالة اجتماعية شعبية أكثر منها حالة فردية.

و وفقا للمعنى الغربي للثقافة فقد أجمعت المداخلات إلى أن الثقافة – في شبه إجماع يراد له أن يتجاوز إشكال التعريفات المتخصصة و كوابح المصطلحية المتعلقة بالمميزات المجتمعية في اختلاف وتباين مداركها – تكون مجموعة العادات و القيم و التقاليد التي تعيش وفقها جماعة أو مجتمع بشري، بغض النظر عن مدى تطور العلوم لديه أو مستوى حضارته وعمرانه.

و بالطبع قبل بذلك أم أبا المتعصبون للغة فإن المفهوم الغربي للثقافة أصبح الأكثر رواجا و قبولا لإشارته إلى ثقافة المجتمعات الإنسانية حيث يلخصها في أنها طريقة حياة تميّز كل مجموعة بشرية عن مجموعة أخرى؛ و يتم تعليم الثقافة ونقلها من جيل إلى آخر؛ ويقصد بذلك مجموعة من الأشياء المرتبطة بنخبة ذلك المجتمع أو المتأصلة بين أفراده، ومن ذلك الموسيقى و الفنون والتقاليد المحببة، بحيث تصبح قيما تتوارثها الأجيال كالكرم و الدقة، و الرقص أو المظاهر السلوكية أو المراسم التعبدية أو طرق الزواج و الختان و غير ذالك كثير مما تختلف فيه الشعوب و تتباين.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

و فيما تم التركيز بالنسبة إلى الإشكال الثقافي الموريتاني على وحدة المعتقد الإسلامي و عموميات العادات الظاهرة المشتركة المحددة لدورة المسار العام للحياة الطبيعية فقد أعفي من التناول العلمي المجرد وجه و معالم خصوصيات المكونات العرقية و ميزات اللغات فيما تضطلع به من إثراء و تشكل بفعل روافد التنوع و التباين الإيجابي التي تصب عند نهاية المطاف في نفس مصب الكيان المشترك.

كما أنه كان حريا في هذا المحور التوقف مليا عند المفهوم بمنظور متحرر المجاملات و التمييع و الأحكام الجاهزة بوجود ما يمكن تسويقه فعلا و التأسيس بذلك للحديث الجاد عن محور الندوة “صناعة ” الثقافة الموريتانية و العمل على تسويق هذا المنتج لجني الاستفادة:

– المعنوية بأن تكون ثمة علامة تجارية مميزة “أنتج في موريتانيا” يختم بها على المنتج،

– المادية بأن تحقق به دخلا ماديا يساعد في مجهود عملية قيام الصرح على قواعد مكينة.

و لكن صناعة الثقافة لا تكون بالتمني و لا بالتغني بالأمجاد و بالمجاملات الزائفة التي تغطي عين الشمس و توهم بالإشعاع الذي تحاصره دياجير الجهل و الرجعية و الإقطاعية و الخلافات البنيوية الشائكة و غياب مفهوم الدولة. بل على العكس من كل ذلك فإن صناعة الثقافة كما نراها من حولنا في القارة الأوروبية و في الصين و الهند و أمريكا و أستراليا هي إفراز تراكمات من النضالات و الصدامات بين البيئات و المعتقدات و التقاليد و الاعتبارات و المكاشفات و المصالحات و التنازلات و التقاطع في عديد الأمور و الإشكالات؛ إفراز أخذ وقتا طويلا و تمخض عن تنازلات جمة من كل الأطراف و بكل الاتجاهات وحول كل المفاهيم حتى رست السفينة على مبدأ الندية و القبول بالآخر. و بناء على غياب مثل هذا المسار فلن تتجسد الصناعة الثقافة على أرض الواقع إلا أن يستحكم المنطق الرياضي من حيث أنها عملية يجب التخطيط لها على أسس دقيقة الزوايا مضبوطة حساب المسافات و القياسات لا تخرج عن دائرة السالب و الموجب في أبدية تكاملهما للتوازن و اختطاط مستقبلها و توسيع دائرة تمددها بما ستظل تحققه من أرباح على الصعيد الداخلي و في حلبة العولمة.

و في موريتانيا لا بد من القبول بحقيقة التنوع الثقافي الموجود دون مراء يخفي جفاء الآخر أو إقصاءه على خلفية التنكر لعوامل التقارب الكثيرة التي عددتها معظم المداخلات و تحت وطأة عقدتي النقص و الاستكبار اللتين غابتا عن الطرح و النقاش رغم أنهما من عوامل غياب الرؤية و في صميم أسباب الفشل في بناء النموذج الثقافي المشع من ناحية و تمييع كل أسباب قيامه على كثرتها و جودتها من ناحية أخرى.

و لا شك أنه من دون تكريس هذه الحقيقة التي تفرض نفسها يظل من المستحيل أن تكون ثمة خصائص ثقافية تشي بموروث وطني، بألوان طيف المكونات و يحمل سمتي النضج و العطاء بكل الأبعاد و الدلالات الحضارية، تستطيع البلاد أن تسوقه و تعرف به في العالم من خلال رموز حية قادرة على أن تترسخ في عقل الآخر الثقافي فيميزها عن غيرها في المحافل الدولية و اللقاءات الثقافية العالمية و تضمن إسهامها في “عولمة” تعترف بالخصوصيات و تحترمها.

و طبعا لم تشكل ظاهرة المهرجانات، التي تعقد منذ فترة و قد اتخذت أشكالا و ألوانا و مسميات، إجابات صادقة يجتمع حولها الموريتانيون بقدر ما كرست منطق الجهوية الضيق و انحسارية المضامين في قوالب لم تسع كل أوجه المخزون الثقافي في تنوعه و شموليته على الرغم من أن الظاهرة في ملامحها العامة قد تشكل بابا مفتوحا على التفكير الجاد إلى قيام سياسة ثقافية رشيدة تؤصل لصناعة تغطي الحاجيات الداخلية الماسة و تتخذ لبوسا قابلا للتسويق و التصدير. و هنا فقط يمكن للمثقفين من الاجتماعيين و المؤرخين و الانتربلوجيين و غيرهم أن يعكفوا على رصد و جمع كل ما يدخل في حيز الثقافة بمعناها العام الذي توحدت حوله في شبه توافق أو إجماع كل التعريفات لبناء ترسانة وطنية تجمع كل الموروث التاريخي و الفني و الفلكلوري و الأدبي و العادات و التقاليد غير ذلك كثير مما يدخل تحت عنوان الثقافة. وهو الموروث الذي سيشكل كشكولا زاخرا بالمادة الخام القابلة للاستغلال لفائدة إرساء صناعة ثقافية مدرة.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى