حضور إبليس في الثقافة الموريتانية…. الأستاذ: محمد فال بن عبد اللطيف
وردت كلمة ابليس في القرآن الكريم معبرا بها عن تلك الشخصية المعروفة التى ترمز للشر و الحسد و الكبر إذ امتنعت عن السجود لأدم المخلوق المكرم أبى البشرية، بحجة أنه خلق من تراب و خلقت هي من نار و النار خير من التراب لأن التراب لا تسمو سمو النار، ثم آل به ذلك إلى أن طرد من رحمة الله – و العياذ بالله- و حذر منه آدم و ذريته ، وتعهد هو بإغواء بنى آدم ، ونجح في ذلك ما شاء الله، وبقية القصة معروفة.
وشخصية بهذه الخطورة لا بد أن يكون لها حضور بارز و تأثير كبير في ثقافة مجتمع اسلامي كمجتمعنا الموريتاني، و لابد أن يكون للمخيلة الشعبية تعامل معها، و لابد أن نقول بادئ ذى بدء أن شخصية إبليس منظور إليها في مجتمعنا منذ القدم بأنها مصدر الشر كله و يتلخص ذلك في أحسن تعبيراته في العبارة المتداولة و الأمثال السائرة التى تكرس هذه النظرة، فإذا كان الشخص فعالا لما يشاء سادرا لا يعتنى بالتعاليم الدينية ، و لا يبالى بارتكاب المناكر يقال إن هذا الشخص قد خزمه إبليس أي جعل في أنفه زماما يصرفه به كيف يشاء، و إذا كان أمر ما مستحيلا استحالة لا رجعة فيها قيل إنه كدخول إبليس الجنة.
إلا أن من استقرأ الموروث الثقافي الموريتاني يلاحظ بسهولة أن إيحاءات كلمة ابليس قد عرفت بعض التطور حتى أصبحت بعيدة عن إيحاءات المعنى الأول الذى أشرنا إليه، و إن كانت لا تزال علاقة ما قائمة بينهما سهلة الإيضاح و التبيين.
فشخصية إبليس مثلا أصبحت مضرب المثل في الذكاء و الحذق و الدهاء، يقولون فلان أذكى من الأبالسة (جمع إبليس) و هذا له أصل في اللغة العربية الفصحى، الا ترى أن كلمة العفريت تعنى في الأصل الداهية المحتال ثم أصبحت تطلق على الشيطان المريد لاعتقادهم كمال هذه الصفة.
كما أن كلمة إبليس أصبحت تطلق على الملاحة و الجاذبية الفاتنة التى تتحلى بها المرأة ذات الأنوثة المتمكنة، يقولون فلانة فيها إبليس أو على ثغرها إبليس أو يسر ظهورها إبليس، و إذا كان الرجل مولعا بالكواعب البيض قيل إنه ذو إبليس أبيض و إذا كان على العكس مولعا بالسود اللعس قيل إن إبليس هذا أسود واستعمال إبليس – حسب ما يظهر لنا- هو من نوع ما يسميه علماء المعانى بالمجاز المرسل المتعدد العلاقات ، فتقرير الكلام في قولنا فلانة عليها إبليس هو فلانة متصفة بصفات من الملاحة و الجاذبية لو رآها راهب متعبد لأطاع فيها |إبليس الذى يأمره فيها بما يخالف شريعة التقوى و الورع.
و بلغ من تفننهم في هذا المعنى أنهم ربما كنوا عن إبليس بأحد أبنائه أو حفدته يقولون: هذا شهد عليه سيد أحمد بن الشيطان أو محمد بن سيد بن الشيطان، وهذا من أبلغ العبارات لأنه يدل على تأصل الصفة المنوه عنها لأن المجتمع العشائري لا يولى المحامد قيمة إذا لم تكن متأصلة في الآباء و الأجداد.
ثم إنه قد تقرر عند العامة عندنا أن إبليس له زوجة و أم و أبناء، ويضربون المثل بشراب أم إبليس للفعل الصالح الذى لم يصادف محلا، فالشراب في العرف الاصطلاحي هو الصدقة التى تصرف ليصل ثوابها إلى الأموات ولهم سلف في هذا التصور في الموروث الإسلامي العربي فقد سئل الإمام الشعبي هل لإبليس زوجة فقال” ذلك نكاح ما شهدناه، ثم تذكر أن الله تعالى قال في كتابه العزيز : (أتَّتَخِذُونَهُ “أي إبليس” و ذُرِّيَتَهُ أَوْلِيَّاءَ مِنْ دُونِى).
و قد ذكر في بعض الأخبار أن إبليس باض بيضات أفرخت كل واحدة منها في إقليم من أقاليم الدنيا. و قد قال بعض شعراء العرب ساخطا على امرأة تزوجها ثم طلقها بخلع:
ذهبت إلى الشيطان أخطب بنته*** فأوقعها من شقوتى في حباليا
فأنقذنى منها حمارى و جبتى *** جزى الله عنى جبتى و حماريا
و ربما كنوا عن إبليس بالأعور لأنه في المخيلة الشعبية هكذا أعور العين و ربما سموه” سالم العين” ، ويقولون فلان نافخ فيه الأعور إذا كان مختالا فخورا راكنا إلى الدنيا وزينتها، ويقولون: وشى الأعور لفلان بفلانة إذا كان عاشقا لها هائما بحبها و ربما كنوا عنه أيضا باللعين.
ومما يدخل في باب المجون أن بعض حجاجنا في الزمن الأول كان يقول وهو يرمى الجمرات مخاطبا الشيطان: نرميك والله على كره منا فإنك – والله ما علمنا – سيد فكه ظريف و إن كنت لعينا.
و يعبرون عنه أيضا بشيخ نجد أو الشيخ النجدي تلميحا إلى ما ورد في قصة تآمر الملإ من قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه إذ دخل عليهم إبليس في صورة شيخ نجدي – و أهل نجد هواهم مع قريش- فاستمع ما أشار به المتآمرون فلم يزك إلا رأي أبى جهل عمرو بن هشام فصدر القوم عن رأيه. و يوم بدر كانت له واحدة مثلها أشار إليها العلامة مولود بن أحمد الجواد بقوله:
يبادرون ابن هشام بدرا*** غداة إذ جاء يجر النضرا
من الشــقاوة يمج الكفرا*** ترى به لطـــلعه كـــفرى
ممتــــلئا أبـــهة و فخرا *** بشــــيخ نجد وبه مغترا
و لإبليس في الثقافة الموريتانية حضورات أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
الأستاذ: محمد فال بن عبد اللطيف