فتوى شرعية بشأن الرّق ومخلفاته في بلادنا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في محكم كتابه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ الحجرات. والقائل في محكم كتابه كذلك: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ سورة الروم.
والصلاة والسلام على رسوله القائل: “قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ” (البخاري، كتاب البيوع ، باب إثم من باع حرًا)
وبعد،
فإنه من المعلوم ضرورة أن الإسلام جاء لتحرير الإنسان من كل عبودية – معنوية كانت أو مادية – لغير الله جلّ جلاله، وهو ما يعبّر عنه العلماء الراسخون قدما، بمصطلحهم المتفق عليه بينهم؛ ألا وهو “تشوّف الشارع للحرية” واعتبارهم أن الأصل الحريةُ، وذلك اعتبارا لمسلك المناسبة الذي يقتضي أن المناسب لتصرفات الشارع إنما هو الحرية لا الاسترقاق.
ثم إنه من المعلوم ضرورة – كذلك – أن الإسلام ليس مسؤولا عن ظاهرة الاسترقاق التي كانت متجذّرة في الإنسانية من قبله، وأن أحكامه الشرعية قد بنيت على معالجة هذه الظاهرة في اتجاهين اثنين:
أولهما تضييق (إن لم نقل: سدّ) منافذ الاسترقاق التي كانت موجودة من قبله (الدَّين، السرقة، التغلب على العدو في الحروب الجاهلية… وغيرها) ولم يبق إلا بابا واحدا هو باب المتغلّب عليهم في جهاد شرعي والذين لم يرضوا بالصلح، ولا بالبقاء في أرضهم تحت راية دولة الإسلام! والذين سيجدون في انتظارهم نظاما يضمن حقوقهم الإنسانية أولا، ويضمن تحريرهم التدريجي بعد إدماجهم في المجتمع. هذا إذا لم نأخذ بقول القائلين إن الإسلام قد سدّ منافذ الاسترقاق جملة واحدة؛ والمستدلين بحصر التعامل مع أسرى الجهاد في خيارين لا ثالث لهما فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً سورة محمد.
ثم فتح الأبواب مشرعة للتخلّص من هذه الظاهرة؛ مثل: الكفارات بالعتق، الترغيب الشرعي في التخلص من الاسترقاق، التشوف للحرية، العتق على من عامل رقيقه معاملة غير إنسانية، شرع الكتابة لتمكين الرقيق من تحرير أنفسهم وأمر المسلمين بأن يعينوهم على ذلك وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ سورة النور. كما ضرب سهما من مصارف الزكاة للتخلص من الرق …وَفِي الرِّقَابِ سورة التوبة.
أما الاتجاه الثاني فهو تحسين أوضاع الرقيق الإنسانية (ريثما تؤتي إجراءات التحرير التدريجي أكلها) فرسّخ مبدأ المساواة الآدمية بين بني البشر؛ واعتبارهم إخوة يتفاضلون بالقرب من ربهم عز وجلّ، وأن الاسترقاق “العارض” لا يخرم المساواة بين بني آدم، ولا يقتضي استحلال العمل على عدم المساواة المادية بينهم “إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُم” متفق عليه.
هذا وإنه قد كان في بلادنا هذه من الاسترقاق ما الله به عالم، مما لا تزال بعض جيوبه قائمة، ومعظم مخلفاته ماثلة، للأسف!وانطلاقا من النصوص الشرعية أعلاه، ومما تقرّر من تشوّف الشارع للحرية، واعتباره أنها الأصل، واعتبارا لما لا يختلف عليه اثنان من أن بلادنا كانت تغلب عليها الغارات الظالمة والاختطافات الجائرة (حتى سميت أرض السيبة، أو الأرض السائبة) وأنها لم تشهد جهادا شرعيا خلّف استرقاقا يمكن أن يعتدّ به حتى عند القائلين بهذا المنفذ “المؤقت”منذ قرون عدة. وانطلاقا مما عرف ضرورة من عدم احترام الحقوق الشرعية للمسترَقين، حتى ولو سلمنا جدلا بشرعية استرقاقهم؛ مما يجعل الحكم الشرعي يقضي بعتقهم على مسترِقيهم. واعتبارا لما علم من الدين ضرورة من وجوب السعي في وحدة المسلمين والوقوف مع مظلومهم بنصرته في مظلمته، ومع ظالمهم لحجزه عن ظلمه.
فإنني أفتي – مستعينا بالله تعالى – ببطلان أي اعتبار لوجود أي نوع من الرّق الشرعي اليوم في موريتانيا، وأن جميع أبناء هذا الوطن سواسية في الحرية، وأن الإسلام بريء من أي عمل ينشأ عن هذا الاعتبار، وأشدّد على أن استغلال الحرّ باسترقاقه، أو الانتقاص من شأنه أو اغتيابه في غيبته أو إذايته بحضرته باسترقاق زائف، أمر يحرمه الشرع ويرفضه الإسلام.
وعليه فإنه يجب على العلماء والدّعاة والمصلحين وعقلاء البلد من جميع الفئات والطوائف أن تقف وقفة رجل واحد للقضاء على هذه الظاهرة غير الشرعية وعلى مخلفاتها الهدّامة على وحدتنا وتماسكنا الذي عدّه رسولنا صلى الله عليه وسلم أبرز مميزاتنا الإيمانية “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى شيئا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” متفق عليه.
كما يجب علينا جميعا – ونحن نقوم بتغيير هذا المنكر – أن لا نقع في منكرات أخرى من قبيل زرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد والفرقة بين أبناء الملة الواحدة. أو تحميل وازرة وزر أخرى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ سورة البقرة.
ومما يستشهد به ويستأنس في هذا الصدد ما يتعلق بالقرارات الدولية والقرارات الوطنية. فقد أجمع العالم اليوم على ترك الرق والاسترقاق تكريما للإنسان وحماية للأسرى والضعفاء، ولا يليق بعلماء الإسلام أن يتخلفوا عن مباركة هذه القرارات المحققة لمقاصد الإسلام في تكريم الإنسان وتحريره وحمايته.. خاصة أن الإسلام حارب الرق بكل ما حارب به الفقر أو أشد، وبذل كل السبل في القضاء عليه، دون أن يتعارض ذلك مع تنظيمه لأحكام ما يحصل منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إنه لو دعي بحلف الفضول في الإسلام لأجاب.
أما القرارات الوطنية فهي أيضا مهمة لأنها:
– إما إجماع من ممثلي الشعب وعرفائه الذين تحرى رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقتهم ليرتب عليها تحرير أرقاء هوازن وثقيف. وهذا لا غبار على حجيته في موضوعنا هذا.
– وإما قرار حاكم من حكام البلد مهما كان تشكيكنا فيما أسس عليه، وفي صلاحيته لما قرره، فإن أهل العلم قد قالوا إن أحكام السلاطين المحققة للمصلحة لا ترد بغض النظر عن مشروعيتهم من عدمها.
هذا بالإضافة إلى أن مقاصد الشرع لا تجيز للعلماء أن يتركوا شريحة من المسلمين لا تتبين لها أحكامها ولم تتضح لها طبيعة تكاليفها وحقوقها الشرعية، فتترك لعشرات السنين معلقة بين الحرية وعدمها.
ولا يشك عاقل اليوم أن القول بصحة الرق في موريتانيا ليست فيه أي مصلحة، وأن القول بإلغائه لا تترتب عليه أي مفسدة، بل هو مصلحة لجميع المسلمين في هذا البلد لأنه طريق الأخوة والمساواة والعدل والأمن والاستقرار.
كما أنه طريق ترقية وكرامة الشريحة المدعى عليها الرق، فالشعور بالحرية دافع للتحلي بكل الفضائل من علم وأخلاق وعزة وكرامة ومروءة.. ولا يليق بنا أن ندخر أي جهد من أجل اتصاف مجتمعنا كله بهذه الصفات والمعاني.
كل هذه الأمور بالإضافة إلى ما تقدم لا تترك مجالا للتردد حول ما أفتينا به في هذه الفتوى الشرعية المباركة والله أعلم. إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. سورة هود.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الشيخ أحمد جدو أحمد باهي