رسالة مفتوحة إلى كل شاب موريتاني (الجزء الثاني والأخير)
محمد صل الله عليه وسلم
بديهي جدا، ان الرسول صل الله عليه وسلم سيعفو ويصفح، شريعته سمحة، دعوته سمحة، السماحة شيمته، لم يضارعه أحد في السماحة، إنه أكثر شخصية على طول التاريخ تسامحا، لقد تسامح مع اعدائه وخصومه ومعارضيه دائما وأبدا، في لحظات الضعف وفي لحظات القوة والانتصار. فهذا مثلا ابن ابي ابن سلول، كبير المنافقين، في مواطن كثيرة منها أحد وبني المصطلق (المريسيع) وغيرها، مرة ينسحب بنحو ثلث العسكر- ثلاثمائة مقاتل- قائِلاً ما ندري علام نقتلُ أنفسَنَا، ومرة (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)، ومرة (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا)، يظهر بعض نفاقه ويخفي معظمه، ويظل الرسول صل الله عليه وسلم يحسن صحبته مادام معه ولم يخرج عليه بالسيف، وعند موته يأتي ابنه عبد الله رضي الله عنه وارضاه -كان أبر الناس بأبيه- فيسأل رسول الله صل الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فيعطيه، ثم يسأله أن يصلي عليه، فيقول عمر رضي الله عنه يا رسول الله، إنه منافق، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم (إنما خيرني الله فقال، اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، يقول ابن عمر رضي الله عنه فصلى عليه رسول الله، فأنزل الله عز وجل هذه الآية (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)، (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل)، سماحته وسماحة دينه صل الله عليه وسلم، أصل وحقيقة ثابتة لا تتأثر بالظروف ولا بالشروط ولا بالمعطيات.
الصحابي حرملة بن زيد الأنصاري، أحد بني حارثة، يجلس بين يدي رسول الله صل الله عليه وسلم، فيقول يا رسول الله، الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا، ووضع يده على صدره، ولا نذكر الله إلا قليلاً، فسكت رسول الله، وردد ذلك حرملة، فأخذ رسول الله لسان حرملة، وقال (اللهم اجعل له لساناً صادقاً وقلباً شاكراً وارزقه حبي وحب من أحبني، وصير أمره إلى خير)، فقال له حرملة يا رسول الله، إن لي إخواناً منافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا أدلك عليهم، فقال رسول الله (لا، من جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن أصر على ذنبه فالله أولى به، ولا تخرق على أحد سترا). وهذا حذيفة ابن اليمان المكي الأصل والمدني النشأة، الذي اختار ان يكون من الأنصار حين خيره النبي صل الله عليه وسلم بين ان يكون مهاجرا او ان يكون من الأنصار، امين سر رسول الله صل الله عليه وسلم، يعلم بما علمه رسول الله، أسماء جميع المنافقين ولم يفضحهم، وهذا الحب ابن الحب يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه، قال لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي (يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله) قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا، قال (هلا شققت عن قلبه)، (أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله) فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. لأن الإسلام يجب ما قبله.
أكثر من ذلك، علمنا أن نحترم ونحتضن ونحسن إلى المخالفين من الديانات الأخرى، وكنا بذلك الأمة الوحيدة، وأول من سمح للمخالف في العقيدة بالعيش الموفور والامتداد، فقد عاش اليهود والمسيحيون والصابئة وغيرهم في حكم الإسلام مبجلين مكرمين (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)، (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)، الإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه، لأن براهينه وأدلته، بينة واضحة جلية، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا. بل وحتى في الحرب، فـالحرب عند المسلمين دائماً اضطرارية، كضرورة الدفاع عن حرية العقيدة وحرمات المسلمين وأعراضهم وأموالهم وأراضيهم، والدفاع عن بلاد الإسلام والمسلمين اين ما كانوا بشكل عام، وكضرورة تأمين سُبُل دعوة الناس لاعتناق الإسلام. لا مبادأة للقهر والظلم، فليس الإسلام وحده هو المانع من القتل، وليس الكفر وحده هو الموجب له، مناط القتال هو الحرابة والمقاتلة والاعتداء والبغي وليس الكفر، فلا يُقتل شخصٌ لمجرّد مخالفته للإسلام، إنما يُقتل لاعتدائه على الإسلام والمسلمين، الإسلام لا يجعل الحرب إلاّ آخر القرارات، ونهاية الحلول، ولا يسعى إليها إلا لردِّ حقٍّ، أو دفعِ شرٍّ، أو تأمينِ حياة. ووضع الإسلام ضوابط ووصايا لم يسبق لها ولاتزال وستظل سيدة الاخلاق.
محمد صل الله عليه وسلم رجل الحقيقة الواحدة، خبر القلة والوحشة، في أربعة ثم خمسة ثم عشرة ثم عشرات من أصحابه ومحبيه ومناصريه، ثبت وجهر وصدع بمبدئه الذي لم يتغير يوما، من أول يوم جاء ليقول انا رحمة مهداة، انا نعمة مسداة، انا رحمة ولست عذابا (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين)، انا هداية ونور، وأنا للعالمين، يومها لم يكن للعرب حضارة تفخر بها وليست لها مدنية، أمة متواضعة في إمكاناتها، في شروطها، في عطاياها ومنجزاتها، أكثر من التواضع ذاته، لعلها لم تكن تحسن اكثر من صنعة الكلام، اين علومهم، اين فنونهم، اين فلسفاتهم، اين تقنياتهم، اين فتوحاتهم، لا شيء من ذلك، صناعة الكلام فقط وبعض الماجد من العادات والتقاليد، في مقابل عادات هي الأقبح من القبيح والأشنع من الشنيع (أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام)، جاء صل الله عليه وسلم ليقول لست لكم وحدكم وإنما أنا للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)، (قل يا أيها الناس إني رسول اللّه إليكم جميعاً)، (العالمية) لم تسبق، ولا يمكن ان يقول ذلك قبل 15 قرنا وفي تلك الأمة إلا من ارسله الله بذلك.
في ذلك الزمن كان الناس مجمعون على ان شرف الانسان رهن بشرف آبائه وأجداده، قل ابن من تكون أقول لك من انت، هكذا العرب كانوا، قال محمد صل الله عليه وسلم، ما قاله الله تعالى (ان اكرمكم عند الله أتقاكم)، وعلم فقال (تعلمن ان الناس لآدم وآدم من تراب، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، لينتهين أقوام عن الفخر بالآباء والأجداد أو ليكونن عند الله أهون من الجعلان)، الجعلان أي الخنفساء القذرة والوسخة، جاء ليقول ألا إن أولى الناس بي أتقاهم من كانوا وأين كانوا (إن أولى الناس بإبراهيم)، فكان (سلمان منا أهل البيت) و (بلال منا أهل البيت) و (صهيب منا أهل البيت)، جاء ليجتث ويمتلخ جذور العصبيات في أقوى العصبيات (دعوها فإنها منتنة)، لم يسبق الإسلام أحد لذلك. محمد صل الله عليه وسلم ودينه ظل حربا ضروسا لا تعرف هوادة على الكبر والخيلاء والعصبية والعنصرية. نستلهم منذ 15 قرنا، عليك بتقوى اللَّه في كل حالة، ولا تترك التقوى اتكالا عَلَى النسب، فقد رفع الإسلام سلمان فارس، وقد وضع الكفر الشريف أَبَا لهب.
سأختم هذه الرسالة بأبيات من القصيدة الرائعة (نجوى الرسول الأعظم)، التي اعجبتني كثيرا وأنا أسمع مقاطع منها عند الشيخ كشك أكرم الله نزله في جنات عدن، وعند غيره من الدعاة والخطباء، لأكتشف بعد ذلك بأن قائلها ليس مسلما، بل الشاعر المسيحي جورج ميشيل سلستي
أقبلتَ كالحق وضّاحَ الأسارير يفيض وجهُك بالنعـماء والنور
على جبينك فجرُ الحق منبلجٌ وفي يديك جرت مقاليدُ الأمورِ
فرحتَ فينا، وليل الكفر معتكر تفري بهديك أسداف الدياجير
وتمطر البـيد آلاءً وتُمرِعها يمنًا يدوم إلى دهـر الدهاريرِ
أبيتَ إلا سموّ الحق حين أبى سواك إلا سموَّ البُطل والزور ِ!
ما أنتِ بالمصطفى يا بيدُ مجدبةً كلا ولا أنتِ يا صحراءُ بالبورِ
أطلعتِ من تاهت الدنيا بطلعته ونافستْ فيه حتى موئلَ الحورِ
بوركتِ أرضًا تبث الطهرَ تربتُها كالطيبِ .. بثته أفواه القواريرِ
الدين ما زال يـزكو في مرابعها والنبل ما انفك فيها جدَّ موفورِ
والفضل والحلم والأخلاق ما فتئت تحظى هنـاك بإجلال وتوقيرِ
اشهد ان لا إله إلا الله وأن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه وامينه على وحيه ونجيبه من عباده، ارسله بالحق على فترة من الرسل وطموس من السبل، فهدى به من الضلالة، وكثر به من القلة، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا، صل الله عليه وسلم، اللهم اغفر لي ولوالدي ولوالديهم ومن ولدوا وجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، أيا كانوا، أو لم يكونوا، كلهم سواء. والحمد لله رب العالمين.
Batta122000@yahoo.fr
المهندس محمد أبات الشيخ