التكفير والتفكير
“نصف الكتب لا تنشر. ونصف الكتب التي تنشر لا تباع. ونصف الكتب التي تباع لا تقرأ. ونصف الكتب التي تقرأ لا تفهم. ونصف الكتب التي تُـفهم يساء فهمها.” مثل فرنسي
ـ1ـ
ودّعتُ بالأمس واليوم صباحا عددا من المشاركين في الندوة التي سنختتمها بعد ساعات من الآن في بروكسيل عن “الفلسفة السياسية والأخلاقية عند المسلمين”. ألقتْ بشكل واضح وضعية المسلمين في العالم بظلالها الأليمة على النقاشات. كان عددٌ من المتدخلين يميلون إلى الخروج عن المحاور المبرمجة للحديث عن الأوضاع الراهنة. الأصوات العلمية الرصينة لم تعد تخفي رعبها مما يحدث. فالعنف الطائفي أوـ بعبارة ربما أدقّ ـ المتوكئ على اسثمار الطائفية أو ما يماثلها يبدو الأداة الأكثر توظيفا في موجات العنف التي تجتاح أجزاء واسعة من العالم الإسلامي.
قال أحد المتدّخلين بنوع من الأمثلة االموغلة والتي تعبّر عادة عن مستوى كبير من الإحساس بالحرج “لايوجد في تراثنا الثقافي أي شيء يبرر العنف المشاهد”. ردّ أحد المحاضرين باقتضاب دالّ: “إذا كان الأمر كذلك فواضح أن هذا التراث إما أنه لم يُقرأ أو أنه لم يفهم.” ثم عاد السؤال الدائم حول ضعف مشاركة المسلمين في النقاش السياسي والأخلاقي العالمي، وكأن “الفسلفة السياسية والأخلاقية عند المسلمين” هي أساسا إرشيف ضخم لا يهتم بثرائه وتنوعه إلا بعض المختصين في الجامعات العالمية يعملون ـ بحسب عبارة صديقنا نادر البزري ـ بدقة الإرشيفيين ولكن أيضا بصمتهم.
ـ2ـ
ما الذي يجعل مثلا شابا متوسط التعليم يتوهم أن الاعتداء على الكنائس ودور العبادة والمصلين عملٌ نضالي بطولي يستحق التضحية العليا ؟ سواء كانت الرواية المتداولة بخصوص محاولة شاب من أصول مغاربية الاعتداء على كنائس في باريس دقيقة أم لا فإن السؤال يظل كما هو. يكفي أن نقرأ بعض الأدبيات الأيديولوجية السائدة التي تؤسس لمثل هذا التصرفات لندرك حجم الكارثة. يكفي أن نرى حماس بعض المسلمين لتدمير مساجد ومصليات مسلمين آخرين باسم الاختلاف الطائفي.. يكفي أن ننصت قليلا لـ”دعاة” الفضائيات والأرضيات ولمفردات الحقد التي يشحنون بها يوميا متابعيهم … وأطنان الفتاوي الجاهلة المقزّزة، و”بورصات” التفسيق والتكفير التي تُسلطها الرؤوس الظلامية على غيرها بل وعلى بعضها البعض، وحملات تقويض ما بقي من الحرية، وحروب الملل والأهواء والنحل : حروب الطائفية والعنصرية، التباهي بالقبح، وبالقبح المضاد، الاندفاع الهذياني نحو استعداء كل الشعوب وكل الطوائف وكل الملل، شهوة إلغاء الآخر، بالعنفين الرمزي والمادي، شهوة القتل والقصل والسحل. لم يعد الاسلاموفوبيون يحتاجون إلى مزيد من التخطيط أو الجهد فقد تكفّـلَ المسلمون أنفسُهم بكل شيء. أصبحتْ الاسلاموفوبيا تجد أكثر مما تحلم به حين تكتفي بتسجيل ما يقوم به المسلمون أنفسهم.
ـ3ـ
هل يمكن تفسير العنف الطائفي والديني المتزايد من منظور روحي ديني؟ أي هل يمكن تفسير “الطهرانية” المرفوعة كشعار من قبل المتورطين في هذا العنف من منظور ديني؟ المؤشرات التي يمكن الإطلاع عليها تشير غالبا إلى أن الرصيد الديني للمتورطين، كأفراد وكمجموعات، بالغ التواضع. وأن المعلومات الدينية المستنفرة غالبا لدى هذه المجموعات يتم استنفارها وفق نسق إيديولوجي يلغي البنية الأساسية لمنظومتها المعرفية المؤسِّسة. ويلغي إطارها الثقافي والعلومي. يكفي تفحّص الخطاب السائد في أدبيات هذه المجموعات والنمط العام للمسارات الفردية والجماعية التي تقود إلى تشكل وبروز المجموعات لفهم مستوى القطيعة التي تمثلها مع الإطار الثقافي والعلومي الذي تتوهم أو تعلن الصدور عنه. وينتج أن الفضاء التعددي التأويلي الذي يميز تقليديا عموم المتون الإسلامية لدى كل الطوائف يتمّ إلغاؤه شيئا فشيئا لصالح صيغ هزيلة كاريكاتيرية يتمّ فرضها عبر قوة الضخّ الإعلامي.
ـ4ـ
الواقع أن الطفرة التواصليه الحالية لم تزد أزمةَ الدولة القطرية الموروثة عن الاستعمار إلا تفاقما. وهو ما أظهرتْه بشكل خاص التطورات الدرامية التي عرفها ما سمي بالربيع العربي. تأخذ هذا الأزمة معناها الحدّي على مستوين : مستوى انعكاس الاهتزازات الجيوسترتيجية على الدولة القطرية ومستوى الأزمة القيمية التربوية في المجتّمع الذي تُبنينه هذه الدولة. كنتُ كتبتُ منذ سنوات عما تعنيه هذه الأزمة القيمية في مقال عن تشكل المرجعيات الدينية الجديدة :
يجدر بنا أن نأخذ هنا معطيين بديهيين في هذا الباب على محمل الجد. أولهما أن ترتيب الجامعات العربية ومعظم الجامعات الإسلامية يأتي في آخر السلم العالمي وليست لها أي مكانة تُذكر في البحث العلمي سواء الإنساني أو البحت. وحتى البحث العلمي الذي يَتخذ من العلوم الإسلامية والعالم الإسلامي موضوعه فإن مراكزه الأكثر جدية تحتضنها جامعات وهيئات أكاديمية خارج العالم الإسلامي رغم ما يمكن أن يعنيه ذلك سياسيا.
ـ5ـ
أما المعطى الثاني فيتعلق بالآليات التي تتشكّلُ عبرها معايير التمايز التخصصي كآليات ذات دلالات ثخينة وحاسمة عند المسلمين كما عند غيرهم. يتعلق الأمر تبعا لذلك بمختلف الميكانزمات السائدة الآن في الدول الإسلامية والتي يتم عبرها صراحة أو ضمنا مسلسل التمايز المدرسي والأكاديمي بين فئات الجيل الواحد والتي تُشكل الخلفية المحدِّدة لتوجيه أنماط معينة من التلاميذ ثم الطلبة ثم الدارسين أو الباحثين إلى حقل الدراسات الإسلامية. لا شك أن هناك اختلافات معتبرة وإرثا حديثا متمايزا بين الدول الإسلامية بهذا الشأن ولكن معطيات غير هامشية ودراسات ميدانية متعددة تسمح لنا بالقول بأن أصحاب القدرات العالية وذوي التميز العلمي والكفاءات الواعدة، يتمّ في معظم الأحيان الحرص على توجيههم خارج ميدان الدراسات الإسلامية، ويتم الحرص على ذلك مؤسسيا واجتماعيا بشكل مباشر أو عبر سلالم انتقائية رمزية متعددة الطابع ومتعددة القدرة التوجيهية. ولا يَنتجُ الأمر هنا بالضرورة عن نيات مبيتة أو مخططات مبرمجة بشكل واع ولكن عن ميول عامة تعبر عنها، في مستوى أقرب إلى اللاوعي الجماعي، المجتمعات الإسلامية ككل. وهو ما ينتج عنه في عدد كبير من الدول والجاليات الإسلامية مفارقة لا فتة يجسدها كون الفئات الأكثر قدرة على التأثير في المجتمع أي الأكثر مركزية في إنتاج القيم الروحية والرمزية هي الفئات التخصصية التي لم تتمتع إلا بالتكوين الأكثر هشاشة وفقرا أي بأقل مستوى من عناية المجتمع بالتربية والتكوين مقارنة بالفئات التخصصية الأخرى.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل
beddy.iese@gmail.com