فتوى الشيخ محمد سعيد بن بدي بخصوص مشروعية “ساعة الاتصالات”
أثار سؤال فقهي يتعلق “بساعة الاتصالات” طرح على العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو مؤخرا ، نقاشا علميا واسعا بين العديد من العلماء والفقهاء في البلاد ، حيث أدلى كل عالم بدلوه في هذه المسألة الفقهية المرتبطة بالمنحى الاستهلاكي اليومي للناس ،خاصة محدودي الدخل، ونظرا لتعدد وتباين آراء السادة العلماء الافذاذ ، أرتأيت طرح هذه المسألة على العلامة الفقيه الشيخ محمد سعيد ولد بدي المُدرِّس البارز بمحظرة النباغية وأستاذ الفقه وأصوله في جامعة شنقيط العصرية، وهذا طرح للمسألة يليه جواب الشيخ محمد سعيد حفظه الله:
ورد سؤال عن حكم الخدمة التي تعرضها شركات الاتصالات على المشتركين من بيع خدمة الاتصال مقدرة بمدة زمنية محددة كساعة مثلا، ثم تُحدِّدُ لاستيفاء هذه الخدمة أجلا كثلاثة أيام مثلا، فإذا لم يستوف المشترك الخدمة في هذه المدة فإنها تضيع عليه كلا أو بعضا.
فإن بعض العلماء أفتى بجوازها، وبعضهم أفتى بالمنع، واستند المانع في رأيه إلى أمرين :
الأول : أن هذا العقد عقد بيع، لا عقد إجارة، والتأجيل – بساعة مثلا- مناف للبيع ؛ لأن البيع لنقل ملك ذات المبيع من البائع إلى المشتري، والتأجيل يقتضي تعلق ملك البائع بذات المبيع، وهو مناف لنقل الملك. فلا يجوز بيع سيارة –مثلا- بألف على أن المشتري إذا لم يتسلمها في مدة محددة سترجع للبائع، ويضيع عليه ثمنه، فهذا من بيع الغرر المنهي عنه، لأن الغرر يرجع إلى أكل أموال الناس بالباطل.
الثاني : أنه عند الإعلان عن هذه الخدمة تقع زحمة في الخطوط، مما يمنع المشترك من التمكن من الانتفاع بما اشترى، وفي ذلك غرر أيضا.
ما الرأي في المسألة في ما أظهر الله لكم ؟
جواب الشيخ محمد سعيد في المسألة :
رد الشيخ محمد سعيد بن بدي حفظه الله جوابا مفصلا يمكن الرجوع إليه في رسالة مستقلة ستطبع لاحقا إن شاء الله مع جملة من رسائله وفتاويه، وهذا تلخيص لما ورد في الجواب:
“إن العقد على الذوات بيع وعلى المنافع كراء أو إجارة، كما هو معلوم ، وشراء ساعة الاتصال عبارة عن عقد تملك به الشركة العوض في مقابلة تمليك المشتري مساحة ألكترونية يتمكن بها من توصيل كلامه لغيره، وإنما تقدر هذه الخدمة المملكة بالزمن، كساعة مثلا، إذ لا طريق لضبطها إلا بذلك، وإذا كان المبيع خدمة مضبوطة بزمن كان العقد عقد كراء لا عقد بيع، إذ لم يقع العقد هنا على ذات تم نقل ملكها بموجب العقد من البائع إلى المشتري، فالذات التي هي منشأ هذه المنفعة هي الأقمار الصناعية، وهي باقية على ملك صاحبها، وإنما المبيع جزء من منفعتها، وعقد البيع يقتضي ملك المشتري لجميع منافع الذات المشتراة واختصاصه بها ، والمشتري في صورة السؤال لم يملك إلا ما وصل إلى هاتفه، وليس ذلك ذاتا قطعا.
مع أنه لا يُعلَمُ عقد بيع يضبط فيه المبيع بالزمن، فهذا ما لا نظير له، فالأعيان المعقود عليها في البيع إنما تضبط وتنفى عنها الجهالة بأحد هذه الأمور : إما التعيين أو الوصف إن كانت من المقومات، وإما المعيار من كيل أو وزن أو عَدٍّ، أو الرؤية والحزر إن كانت من المثليات. فدعوى أن هذا العقد بيع في غاية الخفاء.
فالظاهر أن عقد الساعة المسؤول عنه عقد كراء، يملك فيه المشتري منفعة مضبوطة بزمن. وعليه فقياسه على بيع السيارة الذي اشترط فيه على المشتري أنه إن لم يستلمها قبل الأجل المحدد سترجع لبائعها ويضيع الثمن على المشتري، فيكون من أكل أموال الناس بالباطل، قياس غير تام.
وإذا كان الظاهر أن هذا العقد عقد كراء لا عقد بيع، فلا يضر احتمال ضياع المنفعة على مشتريها بانتهاء المدة قبل استيفائها ؛ لأن المطلوب من المكري التمكين من المنفعة، وهو حاصل، وأما استيفاء المنفعة فهو إلى المكتري، فإن عطله اختيارا منه مع التمكن فلا تأثير لذلك على العقد صحة ولزوما، لأن الكراء يلزم بالتمكن، قال خليل: “ولزم الكراء بالتمكن”، وفي مختصر ابن الحاجب: “التمكن كالاستيفاء”.
ويدل لذلك مسألة المدونة، ونصها: قلت: أرأيت إن اكتريت من رجل دابة يوما إلى الليل بدرهم، فقال رب الدابة: هذه الدابة، فاقبضها واركبها، فلم أقبضها ولم أركبها حتى مضى ذلك اليوم؟. قال: إذا أمكنه منها فلم يركبها فقد لزمه الكراء، وهذا قول مالك اهـ.
وقد اختصرها ابن يونس في جامعه. وذكرها اللخمي في تبصرته.
وفي كل ذلك دليل على أن احتمال انقضاء المدة المحددة قبل استيفاء المنفعة لا يقتضي منع العقد؛ لأن تمكن المكتري من الاستيفاء كاف في صحة العقد ولزومه.
وأما تعليل منع هذا العقد بأن إعلانات شركات الاتصال عن هذه العقود يوقع زحمة في الخطوط، مما قد يؤدي إلى عدم التمكن من استيفاء المنفعة، فهذا إنما يؤثر على العقد منعا إن كان مدخولا عليه معلوما للشركة والزبناء قبل العقد، بأن يكون الزبون يعلم أنه سيدفع عوضا في منفعة لا يتحقق هل يتمكن منها أم لا؟، والكراء إنما يلزم بالتمكن. فيلزم أكل أموال الناس بالباطل.
أما إن كانت الشركة لا تدخل مع الزبناء على هذا الاحتمال، ولا تعلمهم بأنهم قد لا يتمكنون من المنفعة – وهذا هو الواقع- فلا يخلو الأمر من وجهين:
أحدهما أن يكون المآل هو عدم التمكن من الخدمة، إلا أن الشركة لم تعلم زبناءها عند العقد بذلك، فهذا غرور من الشركة لزبنائها، وليس من الغرر المؤثر فسادا لعدم الدخول عليه، والواجب على الشركة أن توفر الخدمة كاملة على حسب ما التزمت، وحينئذ فهي ممنوعة من أن تزيد في عدد المشتركين زيادة تؤثر في تمكن الزبناء السابقين من الخدمة، ونظير ذلك من الفروع الفقهية أن من استؤجر على رعاية غنم كثيرة لا يقوى على أكثر منها، فليس له أن يرعى معها غيرها. قال خليل: “وليس لراع رعي أخرى إن لم يقو”.
الوجه الثاني أن يكون الحاصل أن الزبناء متمكنون من الخدمة، إن شاؤوا استوفوها في الأجل وإن شاؤوا تركوا، ولا إشكال في هذا الوجه، إذ لا غرر ولا غرور، فلا وجه للمنع في هذا الوجه.
وخلاصة القول أن العقد على ساعة الاتصال – حسب ما ورد في السؤال- عقد كراء لأنه بيع منفعة، لا عقد بيع لأنه ليس فيه نقل ذات إلى المتعاقد , وأن الواقع أن شركة الاتصال والزبناء غير داخلين عند العقد بالتراضي على احتمال عدم التمكن من الخدمة المعقود عليها ؛ كما أن الغالب تمكن الزبناء من استيفائهم المنفعة في الوقت الذي شاؤوا.
وبناء على ذلك فلا وجه لمنع هذا العقد.
والعلم لله تعالى وحده.
كتب : محمد عبد الرحمن ولد أحمد