كـــــرو : فساد إدارة عهد “الدولة الوطنية”
قد لا يعرف كثير من الموريتانيين الذين يمرّون من وسط مدينة كـــرو مرّ الكرام في طريقهم من أو إلى الشرق «الأدنى» أو «الأقصى»، سبب ذلك الزحام الشديد على حد إسفلت طريق الأمل في كرو، بحيث يلزم السائق العابر، أن يهدئ السرعة إلى أقصى حد ممكن، لكي يشق طريقه بصعوبة وسط زحمة السوق، إلى أن ينتهي آخر بيت من المدينة، فيجيلُ نظره شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، فلا يرى سوى الأراضي البُور الكالحة، والصحراء الممتدة المنفسحة، كصفحة الماء أو السماء أو الهواء، إلى ما لا نهاية. والغريب أنه لا حل آخر لأهل المدينة سوى ذلك الزحام الخانق على رقعة جغرافية محدودة جداً، وقد ضاقت للغاية بساكنيها، ما شاء الله. نعم لا حل آخر أبداً، لأن تلك «التـِّـيَّــارْ» والسهوب والسهول والصحاري والفيافي والقفار، مملوكة كلها «على الورق» ملكية «عقارية» من هناك وحتى سن تكانت، شمالاً، وسن لعصابة جنوباً وغرباً، وحتى قرية الطايف وكندرة ومدينة كيفا شرقاً. تخيلوا.. كل حبة رمل على طول هذه المسافة، سجلها ذات يوم حاكم، أو والٍ، باسم «رجل أعمال» أو «امرأة أعمال» أو ربة عيال، أو ذات سوار وأقراص وخلخال. وطبعاً قبض الحاكم أو الوالي مقابل هذا «التسجيل العقاري» المقسوم من الرزق والمال الحرام أو «الحلال»!
والمفارقة أن بعض حكام وولاة الفساد الذين تعاقبوا على المنطقة، وليس فقط المقاطعة، لم يتركوا حتى للدولة، كجهة سيادية، متراً مربعاً واحداً مسجلاً باسمها، كملكية عامة، قد تحتاجها لبناء مدرسة أو عيادة أو مرفق عمومي. ولو افترضنا أن حاكم كرو اليوم حضر إلى مكتبه مواطن موريتاني قادم من بير أم اكرين، أو كرمسين، أو بوسطيلة، وقال له: لقد قررت الاستفادة من حقي القانوني في الإقامة على أي شبر من أراضي الجمهورية الإسلامية، وقد أعجبتني هذه المدينة- الواحة، وأعجبتني أخلاق أهلها، وسألقي عصا التسيار هنا، وعليك أن توفر لي قطعة أرض أسكن فيها، بمقتضى الحق والقانون! لو افترضنا هذا، فلا أعتقد أن حاكم المقاطعة سيحيرُ جواباً، ولن يستطيع تحريك ساكن تجاه طلب المواطن المشروع، لأن الحاكم، حسب اعتقادي، لا يملك اليوم متراً مربعاً واحداً في المساحة الممتدة من مكتب الحاكم جنوب المدينة إلى سن تكانت شمالاً، إلى منتهى كدية لعصابة جنوباً، إلى بلدة لكريّع غرباً، إلى مدية كيفا شرقاً. ولا أعتقد أنه سيفيد المواطن بأكثر من أن يقترح عليه البحث عن قطعة أرض للشراء بأغلى الأثمان، أو أن يحمل عصاه ويرحل إلى أي مكان.
وليست هذه هي المفارقة الوحيدة، فثمة أيضاً مفارقة أخرى أمر وأدهى، هي أن ثمن المتر المربع الواحد، في شريط الزحام المتاح حول الإسفلت، يصل في سعره إلى مبالغ أعلى من سعر المتر المربع في نيويورك وطوكيو وباريس ولندن، ولا تكاد تكون في هذا أبداً مبالغة، فنحن هنا نتحدث عن قطع أرض «نيمروات» بعشرات الملايين. ولم يبق الآن لكثير من أهل المدينة إلا التفكير في حلول «المساطحة» لانعدام الأرض، أو بكلمة أدق لانقراضها، واحتكارها. وبهذه الطريقة يمكن لـ«المساطحة» أن تكون بديلاً عن الزحام الخانق، وتقتضي أن تبني كل أسرة بيتاً من عدة أدوار لإسكان أبنائها، أو لبيعه للغير للسكن، ويكون نصيب الجميع من الأرض وفق قوانين «المساطحة» المعروفة، لدى سكان الأبراج والعمارات العالية في الدول المكتظة بالسكان! تخيلوا..
نتحدث عن هذا في بلاد قفار، أخلى من الربع الخالي وبلاد الجن والعفاريت، ويأجوج ومأجوج. لأن إدارتنا الفاشلة اختلقت من العدم مشكلة مستفحلة هي احتكار الأراضي البور، التي هي أصلاً أكثر شيء متاح، بالمجان، في بلادنا. إنني أكتب هذه التدوينة على وقع ما تنقله الليلة الأخبار عن فاجعة ناجمة عن نزاع عقاري، وقع اليوم في هذه المنطقة التي كان يفترض ألا يتنازع فيها اثنان على الأراضي، لفرط توفرها وكثرتها.
وأنا هنا لا أتحدث عن حيازات القبائل العقارية القديمة السابقة للاستعمار، والموثقة في عهده، مع أن لي فيها رأياً، ولكن تلك الأرض كان الجميع متعايشين فيها، على كل حال، ولم تعرف يوماً الاحتكار في هذه المنطقة التي يسكنها في النهاية نسيج اجتماعي وعائلي واحد، وإنما أتحدث عن كارثة الحيازات العقارية الاحتكارية الملفقة- الموثقة عن طريق فساد إدارة عهد الدولة الوطنية، وخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حيث تغول بعض الجشعين، والطامعين، والحكام الفاسدين، وحولوا حياة سكان هذه المنطقة من الوطن إلى قطعة من العناء، بعدما زوّروا وسوّوروا أراضي بوراً يسفي عليها السافي، وادّعوا ملكيتها، ومنعوا الانتفاع بها على المواطنين، وألحقوا أشد الضرر بالبلاد والعباد، وسببوا الصراعات والشجارات وقطع الأرحام والفتن المظلمة كقطع الليل، ونزاعات القبائل التي تصل فيها الدماء أعناق الخيل، وتزهق الأرواح المعصومة وتثكل الأمهات الحرائر المكلومة، وتعم البلوى اليوم، ويلحق الضرر بالإسلام والمسلمين.
د/ الحسن ولد احريمو