العقيد المتقاعد عمر ولد بيبكر الحــراطيــــن .. منسيو الجمهورية
ما إن تم تأسيس حركة الحر سنة 1978 على أيدي مثقفين حراطين؛ ضحايا، هم أيضا، لظلم نظام “البيظان”؛ على أساس مطالب مشروعة ومسؤولة، حتى تم اختراقها سريعا ثم تحويل وجهتها من قبل السلطة الاستثنائية التي قسمتها إلى تيارين. تيار الانتهازيين الوصوليين ممن يتخذون من النضال ضد العبودية بضاعة للمتاجرة مع النظام الحاكم؛ وآخر للمثاليين يتخذونه سلعة للمتاجرة لدى دول أجنبية. وقد ساهم هذا التنافس الثنائي المصطنع بين التيارين؛ إلى حد كبير، في إنهاك الحراطين.
مع ذلك توجد بين هذين التيارين نخبة جمهورية صامتة، تتشكل من أطر من الحراطين؛ رجال ونساء؛ جادون وأكفاء؛ يرفضون انتهازية هؤلاء ومثالية أولئك وليس لديهم ما يسوقونه غير نموذجهم الخاص في النجاح والذي مكنهم من فرض مكانة اجتماعية أهم من مكانة أسيادهم القدماء. هؤلاء الأطر الوطنيون والمسؤولون هم المدافعون الحقيقيون عن قضية الحراطين. ذلك أنهم فهموا أن خلاص هذه الشريحة الاجتماعية لن يتأتى إلا من المدرسة، والمدرسة فقط.
توجد شخصية أخرى مباركة، ساهمت بشكل بارز في انعتاق ووعي الحراطين من خلال إيجاد ملاذ في القيم الحقيقية للإسلام السني الضامن للحرية والمساواة. إنه الداعية والإمام الخطيب المفوه محمد ولد سيدي يحيى. فهذا المربي العظيم نجح، دون أي شك، في احتواء حالة الاستياء لدى العبيد السابقين، الناجمة عن ممارسات التمييز والظلم الصارخة من أنظمة الحكم الاستثنائية وضاعفت من حدتها قرون من السلب. نجح في تكوين نخبة أخرى مؤمنة، نقية النفوس، ومتحررة من الأحكام الاجتماعية الجاهزة، ستكون بلا شك ـ نموذجا لكل مجتمعنا، يساهم في السلم المدني الذي لا غنى عنه لتنمية بلادنا؛ وجديرا بأن يحتذى به.
لم يصمد الأمر القانوني رقم 234 ـ81 بتاريخ 9 نوفمبر 1981 الصادر عن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، والمنطوق بأطراف الشفاه دون أي إجراء مصاحب؛ وبدفع من منظمات غير حكومية مثل ” وولد فيزيون”؛ في وجه اللوبي الإقطاعي القوي الذي ينبعث على الدوام ويهيمن على اللجان العسكرية وحكوماتها، وكذا السلطة السياسية و التقليدية.
ولعل ردة فعل شيخ شهير، رئيس قبيلة في لعصابه بعد بضعة أشهر على إقرار ذلك الأمر القانوني؛ عندما أعلن رسميا تحرير عشرات من عبيده في ضواحي كيفه فتم التصفيق والهتاف له من طرف رئيس اللجنة العسكرية ووفده أثناء مرورهم لتدشين مقطع كيفه ـ النعمة من طريق الأمل؛ كان خير دليل على ذلك إذ يبين، إن كانت هناك حاجة لذلك، الطابع الدعائي للأمر القانوني المذكور والذي يعاني الوهن منذ المصادقة عليه. ولم تقدم القوانين الجديدة أي شيء لأن النظام الإقطاعي الذي يقتات على الفوارق مازال في السلطة وهو يتقوى.
كان بإمكان النظام أيضا، لو أراد، نزع العُقد وتحويل العديد من الإقطاعيين ذوي صلات القربى بالحراطين إلى انعتاقيين مقتنعين، خاصة بعض الأشراف والأمراء من أمهات جواري وكذا المولدين الآخرين من أبناء النبلاء والجواري. فكاريزميتهم، وكبرياؤهم، وروابط الدم بينهم وبين الضحايا؛ يمكن أن تستغل إيجابيا لإثارة انخراطهم في هذه القضية النبيلة والتي يتمثل هدفها في تخليص أقاربهم في الدم من هذه الوضعية المذلة والمهينة من العبودية؛ سبيلا إلى انسجام وطني أفضل.
يتضمن ذلك الأمر القانوني مفارقة في المادة 2 منه؛ تتعلق بتعويض لفائدة الأسياد بدل الضحايا؛ وهو أمر عكسي النتائج علما بأن العبودية في موريتانيا ليس لها أي طابع مطابق للشريعة نظرا لأصولها المشبوهة فهي نتاج صولات أو حرابة.. ثم إن الاتجار المذل بالسكان السود المسلمين المجاورين؛ المناقضة لتعاليم ديننا الحنيف، سبق أن أثارت في القرن الماضي استهجان عالم ولاته، محمد يحيى الولاتي، وكذا عالم تمبوكتو الشيخ أحمد بابا التومبوكتي؛ اللذين أعلنا حرمة هذه الممارسة المشينة، والتي لم يندد بها علماء السلطة إلا منذ بضعة أشهر كما لو أنهم يسخرون من الجمهورية.
من خلال سعيها لتعويض المذنبين، اقترفت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني نفس الخطإ في التقدير الذي وقعت فيه الحكومات الفرنسية، والتي لم تكن أقل استعبادا؛ إذ على الرغم من كونها ألغت العبودية في المستعمرات طبقا لمرسوم 27 إبريل 1848؛ خلصت في نهاية المطاف إلى منح علاوات لملاك العبيد السابقين، بموجب مرسوم 24 نوفمبر 1849؛ سعيا إلى احتواء استيائهم. واستمر ذلك التراخي إلى غاية 12 ديسمبر 1905، حين صدر مرسوم فرنسي بتحريم الاتجار بالعبيد نهائيا في المستعمرات.
لو أن اللجنة العسكرية منحت ذلك التعويض لضحايا العبودية لتم القضاء نهائيا عليها؛ علما بأن أولئك العبيد كانوا يستخدمون للعمل في مجالات تربية المواشي، والزراعة، والصيد، أو كعمال منازل أو عمال يدويين مأمورين.. ولتمكنت اللجنة العسكرية من تخليصهم، عبر منحهم وسائل إنتاج خاصة بهم في مجالات تخصصهم، وعبر منحهم مساحات من الارض لزراعتها. وكان بإمكان الدولة إبعاد الأسياد القدماء عن الموضوع كي تحول بينهم وبين استخدام تلك الأراضي كوسيلة ضغط من شأنها إدامة هيمنتهم على الحراطين المعتوقين لتوهم.
بخصوص عمال المنازل والعمال اليدويين المأمورين، كان بإمكان الحكومة تكوينهم وإعطاؤهم فرصا للعمل من خلال اكتتابهم كجنود أوكلاء شرطة، أو فراشين، أو وكلاء أمن؛ أو تمول لهم مشاريع صغيرة تتيح لهم الحصول على مهن تضمن لهم اندماجا أفضل في المجالين التجاري والصناعي، في انتظار فرص أفضل. كان باستطاعة الدولة أن تواكب تلك الإجراءات بإقرار التمدرس الإجباري لصالح ذريتهم.
لقد كان بالإمكان الاسترشاد بالحل الذي قدمه أب الأمة لمشكلة النمادي من طرف اللجنة العسكرية من أجل تسوية مشكل العبودية. فلكي يتم وقف الأنشطة المدمرة للغطاء الحيواني والنباتي التي كان يمارسها أولئك المحاربون؛ الصيادون البريون المهرة في الظهر، عمدت الحكومة إلى تحويهلم لمنمين، عبر منحهم بعض المواشي الضرورية لذلك في بداية الستينات وعمدت إلى اكتتاب شبابهم في القوات المسلحة وقوات الأمن. وقد مكنت هذه المبادرة من دمجهم في الحياة النشطة ومن وضع حد نهائي لتك الكارثة البيئية.
لقد ساهم النظام الاستثنائي، كثيرا، في تفكيك مجتمعنا، وفي الإبقاء على العبودية، بتعليقه عمليا لمرسوم إلغاء الرق وبتعزيز سلطة القبيلة التي كان أب الأمة قد أضعفها كثيرا. تلك السلطة القبلية لدى العرب البربر والزنوج الموريتانيين؛ وتتغذى من الكد، الذي نادرا ما يدفع أجره، لأولئك العبيد الذين أجبرتهم السلطات العمومية على التنازل والعفو عن الذين انتزعوهم من جذورهم وما زالوا يرفضون تبنيهم رغم قرون عديدة من التعايش في مناخ يحكمه الإسلام السني.
خلافا للمكونات الوطنية الأخرى ليس للحراطين وطن سوى موريتانيا، ليست لديهم امتدادات في البلدان المجاورة. إنهم ثمرة تاريخنا، وجغرافيتنا، وانحرافاتنا ونوبات جنونها. وبفضل بشرة هؤلاء وثقافة أولئك، يشكلون تناغما لا غنى عنه لتدعيم وحدتنا الوطنية. لم يتأثر نبلهم بكل تلك القرون من الغبن، والإذلال، والازدراء. طيلة تلك الحقب الصعبة كلها، حافظوا على سلامة شرفهم، وكرمهم، وكرامتهم، ونزاهتهم، وفخرهم.
ينحدر الحراطين من السكان الزنوج الأفارقة في المناطق المحاذية التي تعرضت لغزوات خلال القرون الأخيرة من قبل قبائل العرب البربر والزنوج الأفارقة. وبعد سلخهم من جذورهم وتعريبهم بفعل المصير، اكتسبوا مع مرور الزمن هوية جديدة أفرو ـ عربية. كما هو حال آخرين في أماكن أخرى بقارات أخرى تم قطعهم من جذورهم بقوة القدر، حيث تم تغريبهم وتنصيرهم أو تلحيدهم واكتسبوا هويات أخرى أفرو ـ أورو ـ أمريكية.
حين يتخلصون من عقلية الهيمنة لدى العرب البربر والحساسية المفرطة لدى الزنوج الموريتانيين؛ يقودهم إيمان لا يتزعزع، فإن الحراطين يشكلون؛ بلا ريب، همزة الوصل الأساسية بين هؤلاء وأولئك، ومركز جاذبية وحدنا الوطنية، والأمل في مستقبل مشرق للأجيال القادمة في بلدنا، شريطة أن يعوا ذلك.
إن مصير الماتشودوس، عبيد التكرور، والكوم عبيد السوننكي، ومنسيي الجمهورية والحرية؛ ممن لا وجود لهم حتى في أجندة الانعتاقيين، يجب أن يعالج دون حساسية بكثير من الجدية والتحكم. وبما أن هؤلاء لهم نفس لون البشرة وأحيانا نفس الأسماء التي لدى أسيادهم، فإنهم يعطون الانطباع بالعيش ضمن نظام قائم على المساواة؛ بينما هم ضحايا للكثير من مظاهر التمييز المخفية. وجوههم تحمل غالبا سحنات معاناتهم المعنوية والنفسية. لقد تم سلبهم، وترهيبهم، وغبنهم، وحرمانهم من كرامتهم وأراضيهم وأحيانا ممتلكاتهم فباتوا يتعرضون لاستبداد أسيادهم الذين لا يستطيعون الإبلاغ عنهم. بعض هؤلاء مثل الكوم؛ وهي المجموعة الأكثر استعبادا في البلد، أي سوننكي كيديماغا، يعانون من التمييز حتى في الجنائز. ولا يملكون، فيما يبدو، الحق في الصلاة داخل المسجد مثل أسيادهم وبعد موتهم لا يحق لهم أن يدفنوا في نفس المقابر.
يتواصل