نعم للحوار.. لكنْ متى؟ ومع من؟ ومن أجل ماذا؟
الحوار هو التقاء الشركاء، وجلوسهم إلى مائدة التشاور، وخوضهم في بحث ما هم فيه متفقون وما هم فيه مختلفون. وذلك بغية الوصول إلى تفاهم جديد، وتسوية ملائمة للقضايا المختلف عليها؛ تسوية تنبع من ميزان القوة السائد بينهم وتعبر عنه أدق تعبير، وتحفظ مصالحهم العليا المشتركة. والحوار أسلوب حضاري رَاقٍ يُلجأ إليه في الأزمات والصراعات الكبرى والصغرى معا. ويدخل في المجال السياسي ضمن الخطط المرحلية التي تتخذها المجموعات السياسية سُلّما لبلوغ أهدافها البعيدة. وهو غير المناظرة الفكرية، ومساعي الصلح، والتحكيم.
وإذا كان من حق كل طرف أن يبادر بالدعوة إلى الحوار، مع ما تمنحه تلك الدعوة من مكاسب، من بينها على سبيل المثال، إثبات حسن نيته أمام الرأي العام. فإن المعارضة هي – في الغالب – من يبادر بالدعوة إلى الحوار؛ حتى ولو لم تكن هناك أزمة سياسية حادة يتطلب حلها تضافر جهود كل الأمة؛ فتحقق من وراء ذلك تسليط الضوء على برامجها وسياساتها البديلة المقترحة، وتكسب الوقت الضروري لتنمية قوتها وترسيخ قدمها.
وفي موريتانيا دعت كل من المعارضة والسلطة شريكتها في الشأن الوطني العام إلى الحوار بغية الوصول إلى حلول متفق عليها للقضايا الكبرى التي يطرحها التغيير الحتمي المنشود، أو ما تسميه المعارضة الأزمة الناجمة عن الانقلاب على الرئيس المنتخب في 6 أغسطس 08.
متى تكون الدعوة إلى الحوار؟
الحوار أداة سياسية بامتياز. والسياسة ليست شعوذة؛ بل علم وفن اجتماعيان. وحسب قواعد العلوم السياسية فإن قوة الجسم السياسي تتحدد وفق أمرين أساسيين هما: صحة خطه، وقدرته على تعبئة احتياطيه؛ وكلا الأمرين متصل بالحوار. فبواسطة الحوار يقوى ويتبلور الخط السياسي للتنظيم وتتراكم وتصقل تجربته ويقترب أكثر فأكثر من هدفه، وتتهيأ روافده واحتياطاته التي تخرج من دائرة الجمود واللامبالاة إلى دائرة الفعل والشعور- عن طريق مواضيع الحوار- بأنها معنية بما يجري بحثه وعمله بين المتحاورين. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن الوضع السياسي المعيش هو الذي يحدد مدى إلحاح الدعوة إلى الحوار من عدمه. فإذا كانت البلاد تواجه منعطفا تاريخيا ما أو تحديات من شأنها استدعاء إجماع وتجميع الأمة فإن الحوار بين مختلف الفاعلين السياسيين يصبح ضرورة من ضرورات علم الاجتماع. ولعل الوضع الموريتاني الراهن ملائم الآن – من عدة أوجه- لدعوة الكافة إلى حوار وطني تسعى فيه كل القوى الوطنية إلى الاعتصام بحبل الوحدة ورفع التحديات التي يطرحها دخول الوطن في منعطف التغيير الذي بدأت أشراطه تتبلور وتنمو رغم ما يقف في طريقه من عقبات وما يحفها من أخطار.
وليس الحوار غريبا على القاموس السياسي الموريتاني. فنحن إذا نظرنا إلى تاريخنا الحديث نجد – مثلا- أن الأحداث الكبرى والمنعطفات الحاسمة التي عاشتها بلادنا كانت ثمرة حوارات وطنية جادة تمت بين الفاعلين السياسيين في كل منعطف، وأدت إلى حلول إيجابية ومرْضية حققت الاستقلال والتنمية، وصانت الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي (مؤتمر ألاق 58، الطاولة المستديرة في انواكشوط 61، حوار السلطة والتكنوقراط 71، الحوار مع الكادحين 74، الحوار بين السلطة والمعارضة في داكار 2009).
ومع ذلك، فإن حصيلة كل هذه الحقب الغنية بالعبر غائبة عن وسائل وأذهان جل القوى السياسية الراهنة التي يتوقف بعضها عند حد الدعوة إلى الحوار وكأنه حل سحري لجميع المشكلات، وينأى البعض الآخر عنه بجانبه. دون توضيح يذكر من طرفها لأمور مبدئية من بينها:
متى تكون الدعوة للحوار أو لا تكون؟ ومع من يجب أن نتحاور؟ وكيف نمارس الحوار؟ وحول ما ذا يجب أن يدور؟
وقبل أن نتناول بعض تلك الأمور لا بد من التذكير، إلى جانب تجربة داكار الغنية التي عشناها دون أن نستخلص منها ما يكفي من العبر، بمثلين بارزين في الوعي والمرونة:
أولهما كان في 57 و58 حين قام رئيس الوزراء الجديد، ورئيس الحزب التقدمي، المختار ولد داداه رحمه الله بدعوة الحزب المعارض وحركة الشباب إلى الحوار والوحدة الوطنية في سبيل الاستقلال، وتوصله إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع المعارضة، رغم معارضة أوساط واسعة من حزبه لذلك؛ واستمراره في نفس النهج حتى بعد لجوء وزراء المعارضة في حكومة الوحدة الوطنية إلى المغرب.
والثاني تجاوز حركة الكادحين لكافة الشكليات والحساسيات، ودخولهم في حوار غير مباشر مع النظام، واندماجهم في حزب الشعب الحاكم من أجل حماية مكاسب وطنية وتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية تخدم الصالح العام (مراجعة الاتفاقيات الاستعمارية وإنشاء العملة الوطنية وتأميم ميفرما مثلا).
مع من يتم الحوار الوطني؟ ومن أجل ماذا؟
الدعوة إلى مائدة الحوار الوطني ـ مهما كان مصدرها ـ دعوة جَفَلَى موجهة إلى كافة الفاعلين السياسيين والمهتمين بالشأن العام. وتهدف إلى تحقيق أهداف وطنية كبرى وليس إلى تقاسم الغنائم (مؤتمر ألاق مثلا). غير أنه لا يلبي تلك الدعوة ويشارك إيجابيا في الحوار إلا أكثر الفاعلين وعيا وحرصا على المصلحة العامة، ممن لديهم قواسم مشتركة وأهداف متفق عليها مرحليا تنسجم مع المصلحة الوطنية الآنية كما يحددها في الواقع التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي السليم للمجتمع وللعالم في مرحلة معينة. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن ترفض تلك الدعوةَ وتخرج عنها القوى السياسية والاجتماعية التي تتعارض مصالحها مع الأهداف المحددة والمنشودة. وقد يشارك بعض تلك القوى في عملية الحوار بغية عرقلته وتخريبه من الداخل. كما أن بعض القوى ذات المصلحة في أهدافه قد تقاطعه وتنأى عنه بسبب خطأ في التحليل أو خطل في الرأي قد تدفع ثمنه عاجلا أم آجلا.
لقد بدأت في بلادنا بعد انتظار طويل دورة من الحوار الوطني الجاد شاركت فيها معظم القوى السياسية الفاعلة على علاتها. وهذا أمر جيد في حد ذاته. وهاهو ذا الحوار يتقدم ببطء .. لكنه يتقدم على كل حال. ومن المحتمل جدا أن يحقق نتائج طيبة على جميع الصعد. ومع ذلك فعلينا أن نكون متفائلين ويقظين في آن اتجاه سيره والنتائج التي سيسفر عنها؛ وذلك لأسباب عديدة منها:
– أن المهمات والأهداف الوطنية والديمقراطية التي تضعها المرحلة التي نعيشها، وفي مقدمتها إقامة سلطة وطنية قوية ورشيدة تجتث الفساد والاستبداد، وتنهي عوامل القهر والهدر من كبت وجوع ومرض وإهانة وتخلف، وتحقق التنمية في شتى المجالات.. هذه المهمات والأهداف يهدد كل تقدم في طريقها مصالح حيوية لقوى سياسية واجتماعية داخل وخارج البلاد ليست مكتوفة الأيدي ولن تألو جهدا في السعي لعرقلة ونقض الإجماع الوطني. وفي مثل هذا الوضع يجب أن نضع في الحسبان مفاجآت اللحظات الأخيرة المحتملة. خاصة إذا وضعنا في الاعتبار ما يقام به هذه الأيام من مناورات هدفها القضاء على إرادة الحوار والوقوف في وجه توحيد كلمة الموريتانيين حول ما يضمن نجاح تجربتهم الرائدة. ولعل الفتن العنصرية والفئوية والطائفية وحملات تمجيد الفساد والمفسدين والتشكيك في قدرات وحكمة الموريتانيين هي آخر الصَّرَعات التي تفتقت عنها “عقول” قوى الردة والنكوص الآفلة؛ ناهيك عن الأدوار المخصصة للإرهاب والتخريب الاقتصادي والتهريب وتجارة المخدرات والسلاح الخ ..!
– أن هشاشة وانحطاط بعض روافع المجتمع وارتباطها البنيوي بنظام الفساد الذي ما يزال معششا في ربوعنا (أحزاب نقابات صحافة مجتمع مدني) وغياب قوى كان من المفيد حضورها على مائدة الحوار، كل ذلك يزيد من صعوبة مهمة النواة الوطنية المتمردة على الفساد، ويسهل حشرها في الزاوية، وإرغامها على القيام – مكرهة- بتقديم تنازلات لا تصب إلا في الاتجاه المعاكس للتغيير.
وهنا تبقى إرادة التغيير البناء لدى الشعب الموريتاني الذكي وقوة إرادة النواة الوطنية، وما يضيفه إلى ذلك من رصيد الحراك الشبابي الذي بدأ يدخل الساحة السياسية بصورة خجولة، الضمانة الأساسية لوصول سفينة الحوار إلى بر الأمان، وترجيح كفة التغيير.
فلنعتصم بحبل الله جميعا، ونتسلح بالأمل والصبر والحذر!
نشر في عدة مواقع موريتانية بتاريخ 15 /10/ 2011 ثم صدر ضمن كتاب “إلى أحرار موريتانيا” وأعدنا نشره انسجاما مع الظرف الحالي.