مبحث القبلية.. شراك أم مطية / الولي ولد سيدي هيبه من…

من حين لآخر يطفو على سطح الساحة الثقافية الراكدة أحد المراكز البحثية القليلة ـ و آخرهم مركز (مبدأ) و ضيف مميز و أكاديمي متنور “بدي ولد أبنو” ـ بموضوع يعالج من زاوية ما ظاهرة القبلية التي ما زال الحديث عنها “غنائية الوجود” و “مستند العزوف” عن الحراك الذي يقتضيه بناء كيان المواطنة و رفع قواعدها من تخلف و هشاشة و ضعف و عمل بمقتضاها ما زال على أشده في بلد يعاني غياب وعي بناء الدولة و قيام مؤسساتها و بعد رسوخ مفهومها في الأذهان و استحالة ترجمته إلى عمل ميداني يكرس دولة المواطنة. و إنه الموضوع الذي لا يسلم تناوله من حضور سلطته على الذهنية العامة لمتناوليه و متلقيه في آن واحد بحيث يقع الجميع في شراك التناول و تتماها وجهات النظر حول سر قبضتها و سحر تأثيرها على العقول في بواطنها و على ذات الواقع في ممارستها و إن على واقع تباعد و تباين استفادة متعاطيها في سياقها العام و تحت عنوانها الموحد دون اشتراط الألفة و المحبة و المنفعة و الرفعة بين البطون في المفهوم الضيق و بين المكونات و الأفراد في المفهوم الأشمل.

صحيح أن المجتمع الموريتاني مجتمع قبلي في بواديه الشاسعة و حواضره القليلة تحكمه القوانين والأعراف التي تضمن للقبيلة بقاءها ما أشاع في الماضي العصبية على طبقات تناسب الجماعة التي ينتسب إليها كل فرد، فيتعصب داخلها لأسرته على سائر الأسر، والبطن الذي هو منه على سائر البطون تماما كما يتعصب للقبائل التي يجمعها مع قبيلته أب واحد قريب على القبائل التي يجمعها مع قبيلته أب بعيد، وإلى جانب رابطة الدَّم هذه كانت روابط أخرى كالولاء والجوار والتحالف والمصاهرة، وكلها داعيةٌ إلى ضروب من التَّعصب متفاوتة القوة، و هي العصبية التي تقتضي بالنتيجة أمورا تشير إليها أمثالهم وأشعارهم كالدفاع عنها مقدماً على ما سواه من الهموم الخاصة، ولاسيما إذا كان الرجل سيدا في قبيلته.

و لكن صحيح بالمقابل أن القبلية بهذه التركيبة المتماسكة لضرورة بقائها لم تعد قائمة لما أصابها منذ ظهور الدولة المدنية على يد الاستعمار الفرنسي و بروز مفاهيم المواطنة و حقوق الإنسان و العالة الاجتماعية و المساواة و سقوط احتكار القوة و العلم و تفتح العقول على المعارف و فرص الاستقواء بها على منازل الظلم و الإقصاء و الحيف و التهميش. و هي الحقيقة التي تدير النخب لوقائع التحول الفكري حولها الظهر و تلوي عنق المنطق الجديد في ازدواجية الكر و الفر القائمة؛ بمعنى أن المتعلم المثقف الذي وجد نفسه أمام وجوب محاربة الظاهرة هو نفسه الذي يتغذى عليها لإشباع نزعة القوة و نرجسية الذات، فتراه في أغلب مزاولته الفعل المعرفية يعتب عليها و يعري سوءاتها، ثم لا يلبث أن يدافع عن بقائها بما يبين عنه من تشبث بفعالها و تقمص لتجلياتها في ثنائية محيرة و مقلقة.
و لأن الأمر لا يخرج مطلقا في سياق التناول أيا كان المنبر و أيا كانت المقاصد:

– بحثية علمية،
– أو توجيهية اجتماعية،
ـ أو توعية تنويرية،
ـ أو سياسية منهجية،

فإن اختيار المثقفين و الأكادميين الذين يُدفعون – باسم النزاهة الفكرية و الترفع بعالي المسافات فوق حضيض المفاهيم المتخلفة عن سياق العقل المتنور – إلى منصة التأويل الحداثي، يجدون أنفسهم و بين كماشي انتمائهم النابض بالحياة في داخلهم و الغير خافي في سلوكهم ملقين على الخط الأمامي للدفاع ضمنيا بذاك عن مكانتهم القبلية أو رتبتهم الارستقراطية و ما تخوله من جاه و حضور معنوي و مادي و بما اختيروا به هم دون سواهم كذلك من طرف المنظمين للندوة أو التظاهرة أو الدرس المنهجي. فلا تلبث التشكيلة على المنصة تحدث أخبارها حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود من المسافات المتقاربة التي يتخذونها من مستوى الحدث الفكري أمام جمهور يتعامل هو كذلك مع الموضوع في إشكاله بازدواجية استثنائية؛ فيرى الوجه المتقد من التناول يضرم النار و يفند المنطق القبلي و يفكك طلاسم قيامه المختل فيما الوجه الآخر يرتب للجميع مقامه و يحفظ قدره على نسق قول عامر بن الطفيل:

وإني و إن كنت ابن سيد عامر وفـارسها المشهور في كل موكب

فما سودتـني عامر عن وراثة أبـى الله أن أسـمـــو بــــأم ولا أب

ولـكني احـمي حمـاها واتـقـي أذاها وارمـي مـن رمـاها بمنكب

الأمر الذي تكذبه النوائب التي صادت النظام القبلي فمزقت أشلاءه حتى لم يبق منه إلا ارستقراطية أسرية تضيق يوما بعد يوم من ناحية، و أوجدت كياناته التي انفصمت عنه من الإتباع و الدونيين على أرضية التشكل في تجمعات اجتماعية مستقلة و إن وصمت بالشرائحية تجني عليها و إمعانا في قبول استنساخ هذه النظم التي لم تعد تلائم الدولة المركزية الجامعة و المدنية المنظمة لسلوك التحضر الرفيع و إرساء مفهوم الكيان على خلفية دولة القانون و المواطنة من ناحية أخرى.


قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى