في ذكرى الأربعاء الأدخن

كان ذلك صباح الأربعاء الرابع من فبراير العام الماضي، حينما ذهبت كعادتي إلى الثانوية التي أعمل فيها منذ سنوات، لاحظت فور وصولي أن التلاميذ متجمهرون أمام الثانوية مع أن الثامنة زادت بدقائق؛ دلفت من الباب الجنوبي الذي لا يدخل منه إلا الأساتذة عادة، وجدت مديري الدروس والمراقبين العامين والأساتذة يقفون في الساحة.. الإدارة وجميع الفصول لما تفتح بعد!

استفسرت مدير الدروس صيدو باه عن السبب؟ بحكم معرفته الدقيقة بالتلاميذ وبحكم تسييره للمؤسسة حال غياب المدير قال لي إن مجهولين كسروا المسامير في جميع الأقفال وختموها بالشمع الأدخن – أكرمكم الله – والجرس لم يعد موجودا وقد اتصلنا بحاكم المقاطعة وقائد الدرك وسيحضران بعد قليل، جلست وزملائي في ظل الإدارة نبحث عن السبب ونطرح فرضيات شتى تمليها ظروف المؤسسة وواقع التلاميذ، ولعل من أطرف تلك الفرضيات وأكثرها سطحية وسذاجة؛ تلك التي تعتبر أن سحب مركز التفتيش التابع للدرك الوطني من المدينة كان سببا مباشرا لتحرك التلاميذ، وكان قرار سحب جميع مراكز التفتيش قد تزامن مع ذلك اليوم.

حضر الحاكم المساعد وقائد الدرك، أمر الحاكم العمدة المساعد والأمين العام للبلدية بإحضار مندوبين ثلاثة عن التلاميذ بينما عاين الدرك مسرح الأحداث؛ في تلك الأثناء حضر المدير العام للثانوية وبحكم سلطته التقديرية أمر بفتح جميع الأبواب واستقدم لتلك المهمة لحاما من داخل القرية.

بدأ فل الحديد بالحديد وما إن فتح الباب الرسمي حتى تدفقت جموع التلاميذ داخل المؤسسة وبدأت قذائف الحجارة تغازل رؤوس الأساتذة وتقبل أقدامهم بكل تلهف بعد أن باءت جهود مبعوثي الحاكم بالفشل.

لم نكن نعتقد أننا مستهدفون نظرا لكوننا تحملنا مشاق “الغربة” من أجل تلامذتنا ولكوننا – كذلك – نعتبرهم إخوتنا الذين لم تلدهم أمهاتنا؛ حيث نحضر جميع أنشطتهم الثقافية والرياضية تأطيرا وتشجيعا وإدارة، وحتى الثامن من مارس كنا نلبي الدعوة ونساهم في أنشطته ماديا ومعنويا؛ لأننا كنا نتحمل في سبيل رسالتنا كل الأذى، ولأننا نضع نصب أعيننا “انتظر الإساءة ممن أحسنت إليه”، لم نبال بتلك الهجمة الشرسة.

طلب المدير من الحاكم ان يأمر قائد الدرك بالتدخل لحماية الطاقم بعد أن طوق التلاميذ المؤسسة، لكن القائد تذرع بعدم وجود غازات مسيلة للدموع لديه؛ إذ لابد أن يعود إلى المقاطعة “امبان” ليستجلب معه الغازات وبعض الأفراد، ذلك أنه لم يأت إلا بعنصرين أعزلين ترك أحدهما أمام الثانوية وأدخل الآخر إليها في خطة تكتيكية لم يسبق لها.

تولى الثلاثة ساعة الزحف وغادروا ساحة المعركة المدير والحاكم والقائد، وبقينا نحن تحت رحمة الشمس والحجارة، نساق سوقا إلى حيث يضعف مفعول الحجارة فتأتينا من حيث لا نحتسب فنعود أدراجنا وهكذا.

فجأة اعتلى سور الثانوية دركيان يبدو أن أحدهما بحكم تسييره للأشخاص ورئاسته – أحيانا – لمركز التفتيش؛ ظن أن الأساتذة عناصر لديه، حين أمر أحدنا أن يمسك له تلميذا ليريه كيف يكون كذا وكذا؟.

دخل التلاميذ الساحة بعد أن كسروا الأبواب والنوافذ متوجهين إلى العلم الوطني! وهنا أحيي زملائي الذين واجهوهم وردوهم صاغرين صيدو باه والخليفة ول الفتى جالو الشيخ عبد الكريم ول الحر، وإن كنت فعلا قد تقاعست عنهم فلأنني أعتبر أن الشجاعة في مثل ذلك الموقف تهور ولأنني أرى أن عناصر أربعة من الدرك الوطني إذا لم تستطع حماية طاقم المؤسسة فهي – على الأقل – كفيلة بحفظ العلم الوطني وحمايته من عبث العابثين وهو واجبها وإلا لما كان لوجودها في الثانوية مسوغ.

أصيب أحد أفراد الدرك في ركبته، وفر أحدهم ليلتحق بركب الأساتذة المطاردين وبقي واحد يقاوم ويتوعد، بينما الرابع يتابع مهمته خارج المؤسسة بجد وتفان وفي صمت..

بدأ التلاميذ يرددون بلكنتهم ورطانتهم ‘اليوم لا شاي ولا خبز ولا حتى ظل’ و ‘من تعجبه قوته فليأتنا ومن لا تعجبه فليأتنا بوكيله’ تأكدنا بعد الترجمة أن هنالك شيئا ما مسكوتا عنه؛ إذ يبدو من لهجتهم أن حسابات ما قد حان وقت تصفيتها دون أن نكتنه تلك الحسابات ولا أن نخمنها حتى!!

عاد قائد الدرك؛ ها قد عاد.. عاد ولم يأت بالغاز المسيل للدموع! ولم يأت بالمدد وبدأ يتجول داخل المدينة يدخل مع هذا الزقاق ويخرج من ذلك الشارع وكأنه في رحلة استجمام واستكتشاف.

بعد برهة قصيرة دخلت على الخط قوة من الدرك الوطني برجالها وسلاحها وسيارتها قادمة من المقاطعة المجاورة بابابى ودخلت الثانوية ونزل أفرادها وتقدم قائدها إلى الحاكم المساعد وحياه ودار بينهما حديث ودي على ما يبدو.
ربما كان للتلاميذ ظهير إعلامي، من يدري؟ فما إن اقترب دركيو بابابى حتى بدأت فلول التلاميذ تنسحب من الثانوية وفي قمة المواجهة بدأوا يتسللون قبل دقيقتين فقط من دخول الدرك للثانوية! أهي الصدفة؟ أم أن الأمر منظم ومدبر؟ الله تعالى أعلم.

دعا الحاكم المساعد إلى اجتماع عام في الثانوية يحضره أئمة المساجد والمنتخبون والوجهاء ومكتب آباء التلاميذ المعطل منذ سنوات؛ كان ذلك حدود الساعة الثانية عشرة ظهرا بدأ الحاكم والمدير يجوبان شوارع المدينة بسارتيهما الشخصيتين بحثا عن إمام هنا أو منتخب هناك أو وجيه هنالك..

التأم الاجتماع حدود الواحدة زوالا تحت رئاسة الحاكم المساعد الذي طلب من حارسه الشخصي الترجمة إلى البولارية، قبل أن يتطوع مدير دروس الثانوية صيدو باه بالترجمة الفورية.

الحاكم المساعد شاب رزين ومتئد يحز في المفصل يسمي الأشياء بمسمياتها دون أن يجرح كبرياء أحد وقد يكنو إذا عن له ما قد يساء فهمه إذ أن للضفة خصوصياتها كما هو معروف.

كان قائد الدرك يدخل بين الفينة والأخرى فهو ملزم بحضور الاجتماع وملزم كذلك باعتقال الضالعين في أعمال الشغب تلك والمتورطين فيها، كان يدخل دقائق ويتغيب عشرات الدقائق والمحصلة هي اعتقال صبي وشابتين قيل فيما بعد إن وراء اعتقالها أهدافا أخرى أكثر معقولية من مشاركتهما في الإضراب، وفي المساء اعتقل أربعة شبان بإيعاز من الدركي الذي كان يعمل في صمت وهدوء..

بعد الكثير من القيل والقال والأخذ والرد ومداخلات الأئمة والمنتخبين والأساتذة دخل الحاكم المركزي ويبدو أنه قادم توا من انواكشوط إذ أن طول الطريق وسخونة الجو قد وسماه بميسم خاص لا تخطؤه العين.

حيا الحاكم المركزي الحاضرين قبل أن يقول لهم نحن لم نتدخل بالقوة ضد أبنائكم وكان بإمكاننا فعل ذلك، مؤسستكم هي الوحيدة في الولاية من حيث اكتمال الطاقم وحضوره فما بال أبنائكم يسببون الفوضى ويضربون أساتذتهم؟ أهذا هو الجزاء الأوفى؟ لو تكرر المشهد غدا أو بعد غد فسيكون للأحداث مجرى آخر.. اصلحوا ما أفسده أبناؤكم من أبواب ونوافذ وغدا صباحا لا يأت لهذه المؤسسة تلميذ إلا وأمامه وكيله.

رفعت الجلسة بعد أن اعتذر لنا الحضور عما فعله أبناؤهم وأبدوا انزعاجا وحرجا زائدين معتبرين أن ‘سكابه’ لم يراعوا في ‘جينكنابه’ إلا ولا ذمة لم يراعوا فيهم حقوق الجار ولا حقوق المعلم ولا حقوق الضيف حتى! كان لكلماتهم صدى ووقع أنسياني مرارة الموقف السابق يالطيبوبة أولئك الشيوخ وتيرنوات.

بعد أن رفعت الجلسة تعهد الحاكم المركزي تلبية لطلب مدير الثانوية بأن قوة من الدرك سترابط في المؤسسة غدا صباحا تحسبا لأي تحرك محتمل، وهو ما تعرقب فيه السيد الحاكم المركزي الذي حول نفس اليوم الخميس إثر اجتماع مجلس الوزراء حاكما لإحدى مقاطعات لعصابة.

عدنا إلى المنزل بعد يوم مشهود، كان ذلك أول يوم أرى فيه رأي العين تلميذا يدوس كرامة وهيبة أستاذه!! تلميذا يضع الرهبة والرغبة جانبا ويعتبر أستاذه ندا له، سبحان الله العظيم؛ يا للسخرية ونسبية الأشياء في هذا الزمن الزنيم..

صباح الخميس حضرت كمتفرج لأن حصتي ستبدأ الساعة العاشرة مع 6C جلست مع المدير في ساحة الثانوية قرب سارية العلم كنت أريد أن أعرف منه سبب تحرك التلاميذ، وما الذي جعل الحاكم لا يفي بوعده؟ وأيضا لأعرف سر تأخر الإدارة الجهوية للتعليم عن زيارة مؤسسة تابعة لها تعيش فوضى عارمة، لكنني تأكدت من أنني لن أظفر منه بأي معلومة فهو لا يريد صب الزيت على النار إطلاقا، وعلمت بعد ذلك أنه اتصل هاتفيا بالجميع لكن ذلك الجميع لم يكن بحجم مسؤولياته.

المدير وإن لم يجبني على أسئلتي العالقة، إلا أنه وتحت إلحاحي قال لي والاستغراب باد عليه إن من بين التلاميذ من يعرف نتائج مداولات اجتماعنا المنصرم! وفعلا كان مجلس الأساتذة قد عقد اجتماعا قبل ذلك بيومين أو ثلاثة للبت في نتائج امتحان الفصل الأول؛ علما أن ذلك الاجتماع كان تحت رئاسة المدير ولم يحضره إلا الأساتذة، حتى عامل الدعم جنك الذي كان يقوم بتوزيع كؤوس الشاي لم يسمح له بالدخول إطلاقا مما يعني أن مداولاتنا يجب أن تظل طي الكتمان تحاط بالسرية التامة.

في استراحة العاشرة أخبرني أحد الأساتذة أنه رمي بالحجارة داخل الفصل! ذلك أن التلاميذ كانوا متحفزين مغمورين بنشوة النصر التي جعلتهم يحاولون استفزاز الأساتذة بشتى الطرق بيد أن الأساتذة وإن كانت أعصابهم مشدودة ومتوترة إلا أنهم استطاعوا جميعا ضبط أنفسهم والسيطرة على أقسامهم وابتلعوا الهزيمة مع أن المعركة لا تعنيهم في شيء، إلا أنهم صدموا من الأسلوب الفج الذي عاملهم به الحاكم المركزي وقائد الدرك حين أطلقا سراح معتقلي الأمس الذين هم من حرض التلاميذ في اليوم الثاني لتكون بقية ذلك الأسبوع مثيرة شدا وجذبا وصراخا وضحكا واستفزازا.

يرى المتابع البسيط مثلي ومثل بقية الزملاء أن ضعف نتائج امتحان الفصل الأول وتردي المستويات كانا وراء ذلك الإضراب، لكن هذه الفرضية مرفوضة جملة وتفصيلا وليست لها أي وجاهة خصوصا أن نتائج العام الماضي كانت أسوأ بكثير منها هذا العام ويومها لم يحرك التلاميذ ساكنا..

وترى صحافة الضفة المختصة أن هنالك أسبابا غير مباشرة أولها أن مكتب الإحصاء ببلدية باكودين معطل منذ خمسة أشهر، وأن قاضي مقاطعة امباني لم يحضر هو الآخر منذ ما يزيد على ستة أشهر، وأن موظفي التعليم أساتذة ومعلمين كانوا يستأجرون منزلا بمبلغ معتبر في تلك المنطقة، وأن الأهالي منحوهم منزلا بالمجان وهم يتقاضون رواتب وعلاوات يجب أن ينفقوا منها على سكن يؤويهم… كل تلك المعطيات ألقت بظلالها على إضراب تلاميذ الثانوية وأصبح كل أحد يفسر أسباب ذلك الإضراب حسب تصوره الخاص ومن زاوية رؤيته للأمور.

تعامل الإعلام مع الحدث بشكل حذر وإن كانت مواقع مثل موقع الأخبار وموقع صحفي للأنباء وموقع السراج قد واكبته من بدايته حتى أصبح في خبر كان، لهم منا جزيل الشكر ووافره وكامله، وفي المقابل أطلقت بعض المواقع العنان للشائعات والعناوين المثيرة من قبيل “متمردون يحرقون العلم الوطني” نعتب على مثل هؤلاء ونأمل منهم الدقة والتحري والمهنية في قادم الأيام.

دقت النقابة المستقلة لأساتذة التعليم الثانوي ناقوس الخطر وأصدرت بيانا يساند الأساتذة ويطالب بحمايتهم ويندد ويشجب تعامل السلطات الإدارية والتربوية في الولاية مع الإضراب والمضربين ويحملهما مسؤولية حماية أساتذة الثانوية؛ كما أصدرت المنسقية الجهوية لنفس النقابة في ولاية لبراكنه بيان مساندة لنا، في حين اتصل بنا قياديون في تلك النقابة، كما اتصل بنا بعض الزملاء في ألاك وبوكي وكيهيدي وروصو وانواكشوط للإطمئنان على سلامتنا أولا وليطلبوا منا البقاء في المنزل إلى حين استتباب الأمن في المؤسسة وعودة المياه إلى مجاريها.

ولأننا لم نكن نريد أن يتعطل سير المؤسسة بسبب حدث عابر كهذا شكرنا الجميع وقلنا لهم إننا انطلاقا من مسؤولياتنا ووعينا إياها لن نخذل الإدارة في هذا الظرف العصيب الذي تمر به بل سنذهب إلى المؤسسة صباحا رغم ما في ذلك من مخاطرة، وإن كان بعضهم أبدى امتعاضه من قرارنا هذا حرصا منه على سلامتنا فإن البعض الآخر تفهم الموقف.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى