الـزراعـة تـأكل أبنــاءهـا
بدأت أعداد متزايدة من مزارعي الأرز الموريتانيين هجر مزارعهم، فيما فضلت أغلبيتهم تقليص المساحة التي يزرعونها، دون مغادرة القطاع، على أمل حدوث تدخل حكومي يضع حدا للمأساة التي يعيشها القطاع وأهله.
وعلى كثرة من سألناه، خلال الأسابيع الماضية، لم نعثر على أي مزارع تجرأ على زراعة المساحة التي كان يزرعها عادة، قبل أزمة القطاع الحالية، ما عدا حالة واحدة، تتعلق بصاحب مصنع لتقشير الأرز، لم يقلص المساحة التي كان يزرعها، لأسباب ليس من الصعب إدراكها.
وتعود أسباب نكبة القطاع الزراعي، إلى تـنصل الحكومة من مسؤوليتها، في ضمان تسويق للمحصول الوطني، يحفظ للمنتجين الحد الأدنى من مصالحهم، التي تسمح لهم بمواصلة هذه المهنة.
فلم يتعرض المزارعون، في الحملة الخريفية الماضية، إلى أهون الشرين، وإنما تعرضوا للشرين معا، حيث تراجعت الانتاجية إلى نصف ما كانت عليه، لأسباب شرحناها في مقال سابق، كما انهارت الأسعار إلى نحو 70.000 أوقية للطن، بدلا من نحو 103.000 أوقية قبل الانسحاب الحكومي المفاجئ.
وبدا الأمر وكأن حكومتنا مشلولة تماما عن الحركة، لا تملك من أسباب العلاج إلا المسكنات. “أيام تخديرية”، تتبعها أيام أخرى “تخديرية”. الأولى حول الأرز، والثانية حول الخضروات، أما الأيام التقريرية، فتلك غائبة عن المعجم الحكومي هذه الأيام.
وهذه الكارثة المزدوجة التي حلت بالمزارعين، خلال الموسم الماضي، ولدت أزمة مديونية حادة، مع صندوق الإيداع، حيث عجز أغلب المزارعين عن سداد ديونهم للصندوق، مما يعني أن طريقهم إلى بوابة السجن أصبح مفتوحا، بمجرد صدور إشارة من المدير العام لصندوق الإيداع.
وآخر عراقيل هذه المؤسسة المالية، أمام الزراعة، حرمانها المزارعين الذين دخلوا هذه الحملة برغم الصعوبات، من حقهم في شراء الأسمدة من سونمكس بما استدانوه من التجار، ما لم يتمكنوا من سداد جميع ما عليهم من الديون للصندوق. وبذا أصبحت مزارع كثيرة مهددة بالتلف، بسبب هذا المنع، إضافة إلى مزارع أخرى مهددة، بسبب تراجع مستوى المياه، في عدد من فروع النهر.
تلك هي الوضعية العامة للمزارعين في هذه الحملة، التي لا نتوقع أن تزيد مساحتها عن ما بين 40 و 50% من المساحة التي زرعت في صيف العام الماضي.
لكن مندوبية زراعة الكذب في ولاية اترارزة، المتخصصة في رفع التقارير المضللة، قادرة بدون شك على قلب هذه الحقائق، في تقاريرها عن حملة الأرز، كما قلبتها في تقاريرها عن حملات القمح.
ولجعل مهمة صناعة الكذب أصعب، فإننا ننصح وسائل الإعلام بزيارة أكثر مناطق الزراعة كثافة، خلال الحملات الماضية، حتى يستطيعوا أن يكتشفوا حجم ازدهار “موسم الهجرة إلى الشمال”. فليسلكوا الطريق المعبد، بين ارقيوات وكيدقار، الذي يمتد نحو 8 كيلومترات، حيث لن يجدوا مزرعة واحدة غير مهجورة.
وليواصلوا من كيدقار إلى بغداد، نحو 6 كليومترات. ثم ليعودوا من بغداد إلى كرمايدكا، نحو 3 كيلوترات، وسيجدون أن المساحات على طول الطريقين، تكاد تكون خالية تماما من الزراعة. بل إنهم سيلاحظون، إذا ما مروا متمعنين المساحات العديدة، المهجورة حتى على الطريق المعبد بين روصو وارقيوات، رغم أن نسبة معتبرة من هذه المنطقة زرعت.
أما إذا عرجت قافلة الإعلاميين المقترحة على امبورية، فهنالك ابتلي المزارعون وزلزلوا زلزالا شديدا..!
إنها محنة حملة الشهادات، الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت، بعد أن أعجزتهم المردودية المتدنية، وانهيار الأسعار، عن سداد ديون القرض الزراعي. وأصبحوا ينتظرون صدور مذكرات إيداع في السجن، بمجرد تحويل ملفاتهم إلى القضاء، وذلك طبقا للمادة (11) المشئومة، في القانون المنشئ لصندوق الإيداع، والتي تنص صراحة، على أن من حق المدير العام لصندوق الإيداع، سجن أي مدين يتخلف عن سداد ديونه، بغض النظر عن الأسباب التي أعجزته.. !
وأمام جبروت السلطة التنفيذية، بأعلى مستوياتها، التي تحتشد لضمان تنفيذ هذه المادة، لا يبقى للقضاة هامش يذكر للمناورة، مراعاة للظروف القاهرة، المحيطة بتخلف هذا المزارع أو ذاك عن السداد.
والاستغلال السيئ لهذه المادة السيئة أصلا، هو الذي جعل الأغلبية الساحقة من المزارعين، تهجر صندوق الإيداع، إذ لم يتقدم من الخصوصين لطلب تمويلاته، في أية حملة من الحملات، منذ إنشائه، أكثر من بضعة عشر، من أصل مئات المزارعين الخصوصيين العاملين في الميدان.
وأصبح هؤلاء الخصوصيون يلجأون إلى أحد الاحتماليين السيئين: ترك الزراعة، أو الاقتراض من التجار في السوق، بفوائد سنوية خيالية، تتراوح بين 60 و 120%. لكنهما خياران يظلان خيرا من السجن، لأن مهنة الزراعة مهنة محفوفة بالمخاطر، ولا يمكن ضمان نتائجها.
وللتذكير، فإن حملة الشهادات يتألفون من مجموعتين: المجموعة الأولى، وتضم 125 مزارعا. والمجموعة الثانية التي تضم 60 مزارعا. وتلخص وضعية المساحة المهجورة لدى المجموعتين، ما وصل إليه القطاع في ظل السياسات الحكومية الحالية.
فمن أصل 8 مناطق (8 Brigades) تملكها المجموعة الأولى، هجرت بشكل كامل زراعة 6 مناطق، هي المناطق أرقام: (1-2-3-12-13-14) بينما زرعت بشكل شبه كامل منطقتان هما رقما: (15 و 16).
أما المجموعة الثانية، فتملك أربعة مناطق (4Brigades)، هجرت منها اثنتان إلا قليلا، هما رقما: (7 و8)، وزرعت اثنتان إلا قليلا منهما: (19 و20).
وكل الذين زرعوا تقريبا اعتمدوا على الاقتراض من التجار.
هذه هي حال المزارع القريبة من روصو، شرقا وغربا، والتي يوجد أغلبها على شوارع معبدة، فما ظنك بالمناطق البعيدة النائية؟.
وإذا كانت الأرقام الحكومية، تقول إن مستوى الفقر في وسطنا الريقي، يصل إلى 59.4% (حسب بحث أجري عام 2008)، فإلام سيصل هذا الرقم، إذا استمرت السياسات الحكومية الحالية، في إلقاء عشرات الآلاف من المزارعين تحت مستوى هذا الخط المشئوم؟
هل يعقل أن نظل، بعد 55 من الاستلال، نتفرج على هذا النهر، ذي المياه الذهبية، يمر من أرضنا، وكأنه ضيف غريب، لا نكاد نستفيد من كنوزه شيئا؟
إلى متى نظل نستورد الأرز من تايلندا وباكستان، والقمح من أمريكا وكندا، والخضروات من السنغال والمغرب، برغم وجود أكثر من نصف مليون هكتار من الأراضي الخصبة، ونحو 98.000.000.000 متر مكعب من المياه الجوفية، ونحو 22.000.000.000 متر مكعب من المياه السطحية، تمر عبر النهر سنويا؟
فأي إخفاق تنموي فوق هذا؟
بعد 55 من الاستقلال، تمكنا أخيرا من امتلاك القدرة على فقس بيض الدجاج، كما بشرتنا مشكورة بنت اصوينع، فأي
إخفاق تنموي فوق هذا؟
بعد 55 من الاستقلال، ما زال مزارعو الزراعة المطرية عندنا، يزرعون أصنافا بدائية من الحبوب، مجهولة الهوية، لا يعلم أحد عن صفاتها الوراثية شيئا، ولم يسمعوا عن حراثة الأرض أو تسميدها.
فأي إخفاق تنموي فوق هذا؟
بعد 55 من الاستقلال، ما زالت بلادنا من دون أية زراعة للأعلاف الخضراء، فكل صولة للجفاف، نفقد معها نحو ثلث أو نصف ثروتنا الحيوانية، التي تعتمد في غذائها بشكل كامل على الأمطار؟ (في مصر تعتمد الحيوانات بنسبة 65% من احتياجاتها الغذائية على الأعلاف الخضراء المزروعة).
فأي إخفاق تنموي فوق هذا؟
بعد 55 من الاستقلال، ما زلنا لا نعرف من زراعة الفاكهة، إلا النخيل، ونستدين لنستورد إنتاج ما عداها.
فأي إخفاق تنموي فوق هذا؟
بعد 55 من الاستقلال، ما زلنا لا نعرف من أنظمة الري الزراعي، إلا أقدمها وأسوأها على الإطلاق: نظام الري بالغمر.
فأي إخفاق تنموي فوق هذا؟
إ
ننا ببساطة، هنود الزراعة الحمر، مازلنا نعيش معزولين عن التطور الزراعي في هذا العالم، كما كان الهنود الحمر أيام رحلة كولومبوس الاستكشافية.
فمتى يقيض الله لنا كولومبوس آخر، يربطنا بهذا العالم، الذي تقدم كثيرا على سفينة العلم، وبقينا وراءه في سبات عميق؟
ومتى يقيض الله لهذه البلاد، من أبنائها، من يستخرجون كنوزها الزراعية، ليحولوها من فقر إلى غنى، ومن استيراد إلى تصدير؟
ألا تقرأ حكومتنا التاريخ، لتعلم أن أمما سمت، عندما نهضت الزراعة فيها، كما حدث للولايات المتحدة، التي قامت ثورتها الصناعية، على أكتاف نهضة زراعية، كما هو معروف في التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة؟
ألا تعلم حكومتنا أن حضارات بادت، عندما انهارت الزراعة فيها؟
ألم يكن سبب انهيار حضارة المايا في أمريكا -كما يقول الباحثون- انهيار الزراعة، بسبب تردي خصوبة التربة، الناتج عن استمرار زراعة محصول وحيد، مجهد للتربة، هو الذرة، على مدى مئات السنين؟
ألم يكن انهيار الحضارة البابلية، بسبب انهيار الزراعة، الناتج عن تزايد ارتفاع ملوحة الأرض، كما هو معروف في مراجع التاريخ؟
وأقرب من هذا وذاك، أليس الفرق بين تجربتي الجزائر المتعثرة، والمغرب الناجحة، خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، هو مدى العناية بالزراعة؟ ففي الوقت الذي كان فيه أبو مدين يشيد المصانع، كان الحسن الثاني منشغلا ببناء السدود “لزراعة الطماطم”، كما يقول هو نفسه في كتابه: ذاكرة ملك.
وكانت النتيجة إخفاقا تنمويا في الجزائر، قاد إلى حرب أهلية، برغم الموارد البترولية الهائلة، ونجاحا اقتصاديا في المغرب، قاد إلى استقرار سياسي، برغم الموارد المالية المحدودة.
فمتى نعتبر من تجارب الأمم، ونستفيد من المثل الشعبي لدى إخواننا في المشرق: “إللي إجرب المُجَـرَّبْ عقلُ امخرب” (من يجرب أمرا جرب قبله فهو مجنون)؟.
عسى الله أن يأتي بالفتح، أو أمر من عنده..!
بقلم: يحيى بن بيبه
رئيس رابطة التطوير والتنويع الزراعي