الموسيقى التقليدية بموريتانيا.. تراث مهدد بالاندثار
تَتَحَسَّسُ الفنانة الشابة كرمي منت آبَّ أوتار معزفها “آردين” (آلة العزف الخاصة بالنساء في موريتانيا) فتداعبها بعد سنوات من الغياب، تسرح مع الذكريات فتدندن مرددة أبيات نسيب علقت بذاكرتها من زمن يوم كانت تتهجى الموسيقى والغناء في محيط أسرة والدها الفنان سيداتي ولد آب.
تعود بها الذاكرة إلى ماض وحكايات طالما سمعتها في البيت، كلها احتضان من المجتمع للغناء وأهله، ربما لم يبق من مضامينها سوى القليل، بفعل عوامل أفرزتها تحولات عميقة عرفها المجتمع الموريتاني، عصفت أو تكاد بالموسيقى الموريتانية آلاتٍ وممارسين.
الموسيقى الموريتانية التي تتوارثها شريحة معينة تسمى “إيكاون” تغير الكثير في واقع المجتمع الذي أنتجها وتراجع دورها؛ فانعكس ذلك سلبا على حياة الأسر الفنية (إيكاون)، ومع ذلك لا تبدو كرمي نادمة على الارتباط بهذه الموسيقى، فهي بالنسبة لها “جزء من الذات، وركن تأوي إليه الروح فتعيش في قمة السعادة”، حسب تعبير كرمي في حديث للجزيرة نت.
الموسيقى الموريتانية التقليدية شفاهية لم تخضع للكتابة بعد، ولا تزال محصورة في أسر محدودة تتوارثها وتتعلمها بالتلقين والمِران والممارسة، ويشعر المهتمون بها بتحديات تواجهها وتهددها بالاندثار، في ظل تراجع الاهتمام بها وغزو الآلات والأنماط الموسيقية الغربية.
ثراء فني
ونظم المكتب الموريتاني للموسيقى في الفترة بين السابع والتاسع من مايو/أيار الجاري بنواكشوط “أسبوع الموسيقى الإثنية”، بهدف إعادة الاعتبار لهذا التراث، ونفض الغبار عنه، وتقديمه للجمهور الشاب الذي يكاد يكون في قطيعة معه.
ويقول مسؤول الأسبوع أحمد ولد آبَّ للجزيرة نت إن هذا النشاط الذي تضمن ندوات وأمسيات فنية وأدبية يهدف إلى “تسليط الضوء على هذه الموسيقى الغنية التي لعبت ولعب ممارسوها أدوارا غاية في الأهمية، وحافظت على صفحات مشرقة من تاريخ وأمجاد هذا المجتمع”.
ورغم شفاهية الموسيقى الموريتانية التقليدية وعدم تقعيدها كتابة، فإنها “تتميز بثراء لا نظير له، وتشكل جزيرة نغمية خاصة، تتداخل فيها المقامات السباعية والخماسية”، وفقا للباحث الموريتاني محمدو ولد أحظانا.
ويقول ولد أحظانا في حديث للجزيرة نت إن “قدرة الفنان الموريتاني على تأليف الألحان، وما أتيح له من وجود على تخوم حضارات متعددة، أديا إلى ميلاد موسيقى غنية، تتألف من مئات الألحان الموقعة أو غير الموقعة، تبلغ أحيانا أكثر من سبعين معزوفة ولحنا في المقام الواحد”.
ورغم اقتصار ممارستها على شريحة “إيكاون” التي تتوارثها فقد كان توظيفها الاجتماعي كثيفا، واقترنت بالمكان والزمان والحدث -حسب تعبير ولد أحظانا- فخلدت البطولات، وكانت الذاكرة الجمالية والوجدانية فاحتضنت الأدب، وحركت العواطف، ووحدت الأذواق.
تحديات كثيرة
لكن تلك الموسيقى، وإن احتفظت ببعض هذه الأدوار، لم تعد ذلك “المُنتَجَ المُدَلَّل” المُحْتَضَن من الإمارة أو الزعامة القبلية، مما يجعل المنشغلين بها يجدون صعوبة في التمسك بها والمحافظة عليها.
وترى كرمي منت آبَّ أنه “رغم تراجع الاهتمام بالفن، فالفنان لا يزال موضع تقدير كبير في الأوساط الاجتماعية، وهذا ما نلمسه في كل مناحي الحياة، وما شعرت به من تعاطي الجمهور معي خلال فترة انقطاعي عن الغناء واستقباله لي الليلة بهذه الحفاوة”.
لكن أحمد ولد آبَّ يرى أن الموسيقى التقليدية تواجه جملة من التحديات، من أبرزها رحيل كبار الفنانين الذين يتقنونها، وتغييب الفنانين عن تصور السياسات الثقافية للحكومات، وغياب أي رعاية أو اهتمام من الدولة بهذا الجانب من تراث البلاد، فضلا عن موقف ديني غير متصالح مع الفن.
ويرى الكثير من الباحثين أن التعاطي مع هذه التحديات يتطلب حتما تدخلا رسميا من الدولة من خلال تبني إستراتيجية تدمج بعدي الحماية والتطوير، وإنشاء معاهد لتدريس هذه الموسيقى.
المصدر : الجزيرة