ازويرات : مدينة من حديد / تحقيق

تقول مضيفة الموريتانية للطيران إن درجة الحرارة خارج الطائرة 38 درجة مئوية، وتتمنى للمسافرين مقاما سعيدا في مدينة ازويرات.

لم يتوقع المسافرون برودة النسيم في تاسع أيام الثريا صيف 2015 لكنها أرض تيرس مناخها غير تابع للتوقعات المعتادة.

هنا مطار جديد لم يدشن بعد. سيارات تابعة لشركة اسنيم وأخرى خصوصية تنتظر في الداخل، سمح لها بالدخول في حائط المطار لاستقبال مسافرين مميزين، وأخرى تنتظر في الخارج. عناصر من الشرطة يرابطون عند البوابة لمنع المستقبلين من الدخول يسمحون أحيانا للبعض بعد مشادة سريعة.

تحنو كدى تازاديت بهيبة ووقار كالأم على المدينة الصغيرة، منازلها تتراءى من بعيد في حضن الجبل، مترامية في البطاح، بطاح ازويرات.

وكالة صحفي للأنباء تجري تحقيقا ميدانيا للوقوف على أحوال الناس. كيف يعيشون، ماذا يأكلون وماذا يشربون وماذا يلبسون وما هي اهتماماتهم، وكيف يمارسون السياسة والثقافة والاقتصاد في هذه المدينة المنجمية الجميلة ؟
لا تقل إنها جميلة، بل قل إنها رائعة.

  • 1 – ماذا تشربون ؟

مساء الجمعة ثاني أيام رمضان في حي شعبي قرب محطة 100 لافتة كتب عليها “نقطة باردة – ماء افديرك البارد”.

هنا يباع ماء افديرك ؟

كان يباع هنا لكن لم يعد يباع

لماذا ؟

بما أن مياه ازويرات مالحة فتح أحدهم هذا الدكان لبيع مياه افديرك العذبة بسعر 100 أوقية لقنينة 20 لتر، لكن التجربة فشلت وبقيت هذه اللافتة.
فشلت التجربة لسببين رئيسيين أحدهما ثقافي والثاني اقتصادي. الأول هو أن الناس ينزعجون من فكرة بيع كميات صغيرة من الماء، ويعتبرون ذلك إفراطا في حب التحصيل، والثاني هو أن سكان الحي أغلبهم فقراء، يحاولون الحصول على الماء مجانا من المنشآت والمنازل التابعة للشركة، ويحملونه بما أمكن إلى منازلهم,
في البداية كان الإقبال كبيرا على هذا الماء العذب الذي يباع بسعر زهيد مقارنة مع أسعار المياه المعدنية في السوق، وبعد ذلك حدثت أزمة حادة في المياة العذبة أدت إلى أن صاحب الدكان لم يعد قادرا على توفير الماء بكميات تجارية، ثم اتبعت السلطات خطة مستعجلة لتوفير الماء البارد بدأت تؤتي أكلها وأصبح الماء متوفرا في الصهاريج التي تزود كل شهرين.
ولد باية هو من فرض على شركة اسنيم جلب 700 طن يوميا من ماء بولنوار في صهاريج يجرها القطار المعدني في رحلته الطويلة إلى نواذيبو ذهابا وإيابا. وقد خصصت شاحنتان تابعتان للبلدية لتوزيع تلك المياه مجانا على السكان.

يساعد توفر الكهرباء في المدينة على حل مشكلة ضخ الماء داخل المنازل غير المشمولة بشبكة التوزيع، فالعديد من المنازل مجهزة بمضخات كهربائسة، يزعجك صوتها لدى ضخ الماء من الحنفيات.
الناس هنا لا يشربون نفس الماء. فتجد عينات مختلفة من المياه في المنازل أسعارها مختلفة، منها ما هو ملح ومنها ما هو عذب ومنها ما هو خليط بينهما.
ازويرات مدينتان إحداهما غربية ذات التصميم الغربي تابعة للشركة والأخرى موريتانية غير مشمولة بشبكة توزيع المياه.
مدينة اسنيم تسقى من الخليط بين ماء ازويرات وبلنوار وهو متوفر بكميات كافية في شبكة توزيع جيدة.
أما باقي أحياء المدينة فسكانها يشترون ماء الصهاريج التي تزود بالمجان من نقطة وفق اتفاق مع البلدية… يرمى إلى تخفيض الأسعار 1000 أوقية للطن.
منهم من يشتري ماء افديرك العالي الجودة بسعر 35 ألف أوقية للصهريج 10 أطنان، وهنالك ماء أعذب وهو ماء لمهوده يتزود منه بعض العمال الذبن يحملونه في قنينات في سياراتهم الشخصية ولا تجده يباع في المدينة لبعد مسافته 35 كلم.
طعم الشاي في مدينة ازويرات تابع لطبيعة الماء، هو المشروب المفضل وتفسده ملوحة الماء. الناس هنا يختارون لصنعه العينات ذات اللون الأصفر، تلك التي تتناسب مع الملوحة كأزواد والسهم. أما المياه العذبة فتناسبها العيينات التي تميل إلى الحمرة.

  • 2 – ماذا تأكلون ؟

هنا في المدخل الشمالي للمدينة شاحنات متوقفة على حافة الطريق، محملة بالبضائع القادمة من الصحراء، تباع بأسعار منافسة. ازويرات مدينة تعاني من أزمة بعد مصادر التموين، فهي غير مرتبطة بطريق معبد، لا مع ميناء العاصمة نواكشوط، ولا مع نواذيبو، وذلك ما جعل سوقها يبقى مفتوحا على البضائع القادمة من الجزائر عبر الصحراء.

هنالك بضائع تأتي من نواكشوط وأطار ونواذيبو كالأسماك، والتمور، والأقمشة والأثاث، لكن كلفة النقل تضيف غلاء على ثمنها الأصلي.
لحوم الإبل وألبانها هي الغذاء المفضل لدى السكان الميسورين، عمال الشركة يشترون فصيلا من الإبل يتقاسمون ثمنه ويخزنون اللحم في الثلاجات ليغنيهم عن التسوق اليومي لكن الانقطاعات المتكررة للكهرباء في الآونة الأخيرة أفسدت عليهم تلك العادة. أما الأحياء الفقيرة فتفرض عليهم الظروف الاعتماد في معاشها على المواد التي تباع في حوانيت التضامن أو تلك القادمة من الجزائر عن طريق الصحراء.

  • 3 – ماذا تركبون ؟

100 أوقية هي سعر سيارة الأجرة.

في جميع تقاطعات الطرق يرابط عناصر من أمن الطرق، يفرضون طوقا أمنيا مشددا على المدينة، يفرضون حزام الأمان داخل المدينة، فوحدها ازويرات من جميع المدن الموريتانية يفرض فيها حزام الأمان داخل المدينة ولا أحد يدري لماذا.
لا يعرف بالتحديد ماذا يراد بأمن الطرق ؟ هل كانت الطرق غير آمنة ؟ أم هو أمن التحصيل ؟ هل تعوض البالغ المتحصل عليها من الضريبة على السيارات المخالفة نفقات التجهيز للسيارات رباعية الدفع والزي العسكري والرواتب والمحروقات.
رأيناهم في نواكشوط برعوا في حل أزمات الاكتظاظ وزحمة السير، لكننا لم نجد لهم فائدة في المدن الصغيرة، إلا إذا كانت السلطات تسعى إلى إظهار قدرتها على إحكام السيطرة الأمنية على المدينة الحدودية رسالة ضمنية إلى الجارتين الكبيرتين المتصارعتين الجزائر والمغرب.

كان الناس قبل قدوم فرقة أمن الطرق يعيشون كثيرا من حرية التنقل في سيارات بدون أوراق، لكن الأمر تغير وجاءت فرقة من 150 عنصرا لا هم لهم سوى مطاردة السيارات المخالفة. أصحاب سيارات النقل يقولون إن عناصر أمن الطرق أصبحوا أكثر من اللازم.

نعم أكثر من اللازم لأنهم عندما شددوا الخناق على السيارات التي ليست لها أوراق اضطر أصحابها إلى بيعها بأسعار زهيدة، ولم يجدوا لها من شراة إلا عناصر أمن الطرق أنفسهم، فقد تحول بعضهم في الليل إلى سائقي سيارات أجرة بدون أوراق.

  • 4 – ماذا تقرأون ؟

هذه سيدة كبيرة لديها مصحف عتيق، ورثته عن أجدادها. هو مصحف سلمى بنت آفلواط ولد مولود وهبه لها زوجها لمجيدري ولد حبب الله، وقد بقي عند شقيقها حيلاهي ولد آفلواط، وبقي يتوارث إلى أن وصل إلى مريم الحسن والدة أهل الشيخ الحسن ولد البربوشي المالكة الحالية التي تسكن الآن في مدينة ازويرات عند وقفة 100. مريم بنت الحسن شيخة كبيرة لم تعد قادرة على الصوم لكنها تقرأ القرءان.
من أغرب شيء في هذا المصحف هو الجودة العالية لورقه الذي ما زال بياضه ناصعا رغم القدم.

  • 5 – أين تسكنون ؟

هنا 600 مسكن قيد البناء، مشروع جبار تعول عليه الحكومة للمساهمة في حل مشكلة السكن التي تتحمل شركة اسنيم عبئها في المدينة، فهي التي توفر السكن لجميع الموظفين الكبار، اسنيم هي المعيل للإدارة في ازويرات، توفر لهم السكن والماء والكهرباء وتساعدهم في النقل. الشركة تتحكم في الأرزاق ولا أحد في ازويرات يقف في وجهها ..
111-17.jpg
هي التي تصعق كل يوم آذان السكان بدوي انفجار هائل، وتمطرهم بغيمة من الغبار المشبع بألياف الحديد الضارة للتنفس، لكنها ضرورة الإنتاج.

أهل ازويرات يضحون بكل شيء من أجل إنتاج الحديد، يضحون بالصحة والتعليم، حتى أنهم يضحون بلغتهم وثقافتهم من أجل شركة يقول اسمها إنها وطنية، لكنها تبقى قلعة من آخر معاقل الاستلاب الثقافي والانبهار المضحك بأسلوب الحياة في الغرب.

  • 6 – ماذا تضحكون ؟

تلبس ازويرات زي المدن الكبيرة، تظن أنها باريس، أو توكيو، لكن حقيقتها أنها مجرد معسكر منجمي صغير، غير منسجم مع واقعه. هي كالطفلة الصغيرة التي تتوهم أنها أمرأة، تلبس الملحفة وتأخذ حذاء في حضنها لترضعه وتقول “أنا فلانة”. أو كالطفل الصغير، يلبس فضفاضة، ويضع العمامة ويجهر بالصوت “هيا اصمتوا، أنا بابا”. لديهم بضعة أمتار من الطرق وضعوا في كل مترين منها ضوءا أحمر من الشكل الرديء وفرقة من أمن الطرق ينتظرون مرور سيارة.
مدينة اسنيم مدينة تعيش درجة من الاستلاب الثقافي والحضاري، يجعلها مدعاة للسخرية. هذه لافتة مضيئة كتبت عليها عبارة لـَ تازاديت بلغة فرنسية عريقة، قد يتوهم من رآها أنه في بوردو أو نيس أو باريس، حيث أسماء الحانات والمقاهي والمطاعم، تأتي مسبوقة بإحدى أدوات التعريف الثلاث المحددة في اللغة الفرنسية للجنس والعدد. هذه مسألة راسخة ومتأصلة في الثقافة الفرنسية، ومن أراد أن يحاكيها في قلب الصحراء فلن يقبل التاريخ منه ولا الجغرافيا إلا أن يكون مجرد مهزلة. مهزلة تبدأ من لام التعريف المفرد المذكر هذا أمام تازاديت ليكون اسمها عندنا “التازاديت” ونحن قوم لا ندخل التعريف على أسماء الأعلام، ثم تجدها في إشارات المرور المزعجة بعد كل عشرة أمتار، ضوؤها يخطف البصر ولولا أنهم اكتفوا بتشغيلها أوقات الذروة لكان أرفق بالسائقين والمارة.
لغة الرسائل الإدارية في الشركة لغة رديئة وجامدة، عبارة وأسلوبا. مقاييس الكفاءة مقاييس عرجاء، فالمقياس المعتبر هو القدرة على التعبير باللغة التي فرضتها ميفرما أيام التأسيس، وبقيت الأجيال تتوارثها دون وعي.
يعاني ذوو الكفاءات العالية من الذين لم يدرسوا في بلدان ناطقة بالفرنسية في الشركة من عقدة اللغة الفرنسية، يمارس عليهم رؤساء عمل عاجزون علميا وفنيا لكنهم يغطون على ذلك العجز بالبراعة في التمثيل ورفع الصوت بعبارات فرنسية منقرضة. جميع الشركات العاملة في مجال المعادن لا تستخدم إلا الانجليزية، ودلائل إصلاح الأعطاب للآليات الثقيلة باهظة الثمن والتي هي عماد الإنتاج في استخراج الحديد، جميعها باللغة الانجليزية.

مسألة الاستلاب الثقافي في مدينة اسنيم لصيقة بقضية أخطر بالنسبة للشركة لأنها مرتبطة بالإنتاج ألا وهي الهدر. هدر الموارد البشرية والكفاءات. الشركة تفرض اللغة الفرنسية في جميع المراسلات وهو ما يحرمها من الاستفادة من الكفاءات التي أصحابها لا يتقنون اللغة، ويلجئون إلى استأجار مساعدين هامشيين لترجمة التقارير و إعدادها، أو يستخدمون قوالب فرنسية جاهزة يغيرون فيها – بالقص واللصق – بعض العبارات بشكل آلي دون تفكير. الوجه الثاني للهدر هو أن الكوادر المكونون بالغة الفرنسية وحدها – وهم كثر في الشركة – لا يجيدون التعامل مع الوثائق الفنية ودلائل استخدام الأجهزة الحديثة بالغة التعقيد والتي لا تنفع معها اللغة الفرنسية، وهذا يؤدي إلى زيادة في تكاليف إنتاج طن الحديد.

  • 7 – من سيدكم ؟

سيدنا ولد باية
كيف ؟
هو الرجل القوي في المدينة، يحظى بثقة الرئيس ولديه المال والنفوذ لدى الدوائر العليا للسلطة، يفعل ما يشاء، ويخشاه الجميع.
هو عمدة المدينة ؟
نعم هو العمدة، لكنه لا يمكث في مكتبه ولا يعرف أحد متى يأتي ولا متى يغادر، جميع أسفاره محاطة بالسرية التامة ولا يعرف الناس عنه الكثير.
ماذا عن شخصية الرجل ؟
هو شخص غريب الأطوار، يعشق السفر خارج المدينة مع صديق أو بمفرده، لديه سمعة طيبة، يسعى لمساعدة الناس في حل مشاكلهم الكبيرة، هو الذي توسط بين الشركة والعمال خلال الإضراب الأخير الذي كاد يعصف بالشركة.

هل ينوي الرئيس ترشيحة للرءاسيات القادمة ؟
كثر قائلها لما يعتقده الناس من متانة العلاقة بين الرجلين.

سيد احمد ولد مولود
ازويرات، يوليو 2015

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى