إلى أين ينحرف قطاع الصيد البحري؟
إن ممارسة أي نشاط في البحر كالصيد مثلا بجميع أنواعه التقليدية الشاطئية والاصطناعية يتطلب التطوير المتزامن والمتوازن لأربعة عناصر أساسية هي: المصادر البشرية، بحارة مؤهلة، آليات الإنتاج، سفن مؤمنة، المخزون السمكي، السمك ومنشئات التفريغ، الموانئ والمصانع، عندما يتم إهمال أي من هذه العناصر الأنفة الذكر أو يكون دون مستوي النظم البحرية فإن النشاط يكون معرضا للخطر أكثر وغير مجدي اقتصاديا وهو ما يحصل للأسف في هذا القطاع الحيوي.
كان قطاع الصيد يشتكي في السابق أساسا من تهالك سفن الصيد الصناعي وهشاشة أمن سفن الصيد التقليدي وقلة منشئات التفريغ وكذلك ضعف تثمين المنتجات السمكية.
فبالرغم من الجهود الجبارة التي بذلها فخامة رئيس الجمهورية في السنوات الأخيرة في سبيل تطوير هذا القطاع عن طريق متابعته الشخصية لإنجاز عدة مشاريع بحرية عملاقة كالشركة الوطنية لصناعة سفن الصيد التقليدي والشاطئي المؤمنة وميناء الصيد التقليدي والشاطئي تانيت وكذلك تقوية وسائل الرقابة؛ وخاصة الإنجاز الاجتماعي الكبير المتمثل في توفير وتوزيع الأسماك على امتداد التراب الوطني والذي سيظل يميز بلا شك تاريخ هذا القطاع.
بالرغم من كل تلك المشاريع فان الإجراءات المتخذة لتطبيق إستراتجية الصيد 2015 ـ 2019 تبدوا عاجزة تماما عن مواكبة واستدامة هذه الانجازات التي تم إنشاءها في زمن قياسي، والتي تستحق في الحقيقة اتخاذ إجراءات مصاحبة أكثر تلاءما مع واقع المجتمع الموريتاني أولاً، ومع حقيقة القطاع ثانياً، والتي تتطلب توجيه جميع الجهود في سبيل تأهيل العنصر البشري وتوفير آليات مناسبة للإنتاج بصفة دائمة.
إن السماح للسفن الأجنبية الولوج المباشر إلى النظام الوطني من دون تغيير دولة العلم الأجنبية يعتبر من الإجراءات التي تتنافي مع مضمون النظرة الشمولية لتنمية مستديمة لهذا القطاع. لأن هذا الإجراء لا يأخذ بعين الاعتبار الدور الاقتصادي الذي يمكن أن يوفره منح دولة العلم الوطني من فرص اقتصادية وتشغيلية لليد العاملة الوطنية حيث إن نظام منح دولة العلم الوطني وتسجيلها في سجل السفن الوطنية له تأثير اقتصادي إيجابي على كافة المنظومة البحرية للدولة؛ فمهما كانت نوعية الصيد التقليدي الشاطئي والاصطناعي وتطبيقا لنصوص مدونة البحرية التجارية المتخصصة في هذا المجال فإن مرتنة السفن الأجنبية تعد الطريقة الوحيدة والمباشرة لتحقيق مرتنة الطواقم.
كذلك وفي نفس الإطار كانت فرصة تجديد الأسطول الوطني المتهالك سانحة وفي متناول الفاعلين في مجال الصيد لو أنه تم اتخذت إجراءات تحفيزية لاقتناء دولة العلم الوطني وشروط يكون منها شرط الولوج إلى النظام الوطني الخاص بالسفن الوطنية. بينما يعتبر عدم تشجيع تغيير دولة العلم الأجنبية للسفن العاملة في مياهنا الوطنية والولوج إلى دولة العلم الوطني تسريحا ضمنيا للعمالة الوطنية المؤهلة وكذالك تقليصا للكثير من المزايا المادية الواردة من مداخل السفن علي كافة مستويات الاقتصاد الوطني.
ويعد هذا الإجراء كذلك الذي يسمح للسفن الأجنبية العاملة في قطاع الصيد بالولوج البسيط والمباشر إلى النظام الوطني من دون قيد أو شرط سلبيا تماما حتى على سيادة الدولة على المخزون السمكي السنوي المعلن عنه دوليا حيث أن جميع الكميات المصطادة على متن هذه السفن الأجنبية تحسب من طرف كافة منظمات الصيد الدولية المانحة والمهنية لحساب دولة العلم الأجنبية التي تحملها السفينة فترة عمليات الصيد وليس لحساب ميناء التفريغ ولا منطقة الصيد وذلك حسب الأعراف والنظم العالمية المعمول بها. وبالتالي فإن كمية وقيمة المخزون الوطني المتعارف عليه دوليا والذي تمنح على أساسه تمويلات المانحين الموجهة لتنفيذ السياسات الاقتصادية المستقبلية لتنمية هذا القطاع الحيوي ستتأثر سلبيا كذلك.
وفي الحقيقة هذا الإجراء يتنافى تماما مع مبدأ مرتنة الطواقم المعلن عنه، ولا يمكن إلا أن يكون خدعة سياسية هدفها التميز والتفوق السريع عن المسيرين السابقين لهذا القطاع في نظر أصحاب القرار عن طريق ملئ خزينة الدولة بصفة مؤقتة بمداخل مثيرة وإتاوات جزافية، ففعلا إن عدم تشجيع الولوج للنظام الوطني والتراخي في تطبيق القوانين والنظم البحرية وتوزيع حصص افتراضية غير قابلة للمراقبة يعتبر أقصر طريق لتحقيق هذا الهدف قصير النظر!
من جهة أخرى فإن أزمة رحيل الصيادين السنغاليين العاملين في قطاع الصيد التقليدي والشاطئ، وضياع ممتلكات الفاعلين الوطنيين الخصوصيين، كان بالإمكان تجاوزها وتفادي نتائجها السلبية على الإنتاج بصفة قانونية لو أن نصوص القانون المتضمن لمدونة البحرية التجارية الوطنية طبقت، ففي الجزء الثاني والكتاب الرابع المتعلق بالنظام الأساسي للسفينة والعنوان الأول من النظام الأساسي الإداري للسفن وبالتحديد المادة 52: “يمكن أيضا مرتنة السفن الأجنبية المستأجرة (هيكل عاري) من قبل مجهز سفن موريتاني أو من قبل شركة خاضعة للقانون الموريتاني وتتولى رقابتها وتجهيزها واستغلالها وتسييرها في البحر”، حيث كان من المفروض فرض تقديم شهادة التخلي عن دولة العلم الأجنبية قبل توقيع أي رخصة استئجار للسفينة وذلك لضمان حق المستأجرين الوطنيين وكذلك فرض القوانين الوطنية المتعلقة بالعمالة عبر رسم خطة لاستبدال العاملين الأجانب بالوطنيين بعد اكتساب الخبرة اللازمة.
بعد كل هذه الإجراءات السلبية في تسيير هذا القطاع الحيوي الذي يعتمد عليه الاقتصاد الوطني نعود لبداية التسعينات وسياسة مرتنة الصيد التقليدي تماما كما قيم به للصيد الصناعي ومع ذلك لقد تم تكوين أكثر من 15000 ضابط وبحار مؤهلين لكي يتم تسريحهم في النهاية، فإلى متى سيظل الرجوع إلى الوراء هروبا من الواقع؟
لا أظن -حسب رأيي الشخصي- أن الحملات الإعلامية تفيد في الدفاع عن إجراءات لم تأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنشطة تزاول في وسط موحش ظل يعاني من عدم فهم مسيريه ضوابطه ونظمه الموحدة دوليا، بل إنني اقترح اتخاذ إجراءات عملية سريعة أكثر ملاءمة للقوانين والنظم البحرية الوطنية، حسب المعايير الدولية المعمول بها، لتصحيح مسار تنمية هذا القطاع الحيوي على المدى المتوسط والبعيد.
وفي هذا الإطار فإنني أدعو فخامة رئيس الجمهورية، الضامن الأول للمصالح العليا العامة للبلد، إلى تفادي انجراف مساره التنموي لهذا القطاع الحيوي وافتتاح أيام تشاورية فنية ومهنية، وتحت إشرافه ومتابعته المباشرة، لإصلاح وتعديل الإجراءات المناسبة لتطوير جميع عناصره بشكل متزامن، وكذلك تنظيم سير جميع المهن والخدمات البحرية التي تعتبر مصدرا مدرا للدخل ورافدا للعمالة وركيزة أساسية من دعائم التنمية المستديمة للاقتصاد البحري.
سيد محمد ولد محمد الشيخ
خبير في الشؤون البحرية
من موقع / صحراء ميديا