الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (ح8) أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ

(حقائق – تساؤلات – تحليلات – تصويبات – وثائق)

سيتم في هذه الحلقة، بحول الله، ذِكْرُ نماذج ومواقف لبعض القادة والعلماء الذين أفتوا أولَ الأمر بوجوب الجهاد والهجرة على أهل هذه البلاد، ثم تبيَّنَوا لاحقا خِلافَ ذلك، فراجعوا بشكل جذرىّ آراءَهم الأولى ومواقفَهم من إخوانهم القائلين بمشروعية مهادنة الفرنسيين ومداراتهم للأسباب والمسوغات المفصَّلة في الحلقات السالفة.
مقدمة:
العلامة سيدي مُحَمَّد بن أحمَد بن حَبَتْ الغلاوىّ؛
العلامة عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسىّ؛
الشريف بن حمادِي بن الصبار المجلسي؛
العلامة محمد حبيب الله ابن مايابى الجكنىّ؛
العلامة محمد الخضر ابن مايابى الجكنىّ؛
خاتمة.

مقدمة
ليس الرأي رأيَ الشيخ سيديَ بابه وحده، ولا رأيَ الشيخِ سَعْدِ أبيه وحده، وليس خاصا بمنطقة دون أخرى، وإنما هو رأي أكثر مشايخ وقادة وقبائل البيضان والسودان، كما سبَق بيانُه. إلا أن مِن هؤلاء مَن أعلنه ومنهم من لم يعلنه؛ ومنهم من اتخذه ولم يَشتَهر رأيُه أو لا يُذكر اليوم؛ ومنهم من أعلنه ثم رجع عنه في ظل الملابسات والترددات الناتجة عن تعقُّد المسألة وصعوبةِ جمْع المعلومات والتصورات الكافية حولها، كالأمير سيد أحمد ولد أحمد ولد عيْدَّه، والزعيمِ الكُنتي محمد المختار ولد الحامدْ، والعلامة الشيخ سيديَ بن الشيخ أحمدُّو بن سليمان الديماني وغيرهم.

ومنهم مَن رجَع بعد حين وكاتبَ الفرنسيين، مثل الأمير أحمد ولد الدَّيْد ومحمد ولد الخليل الرقيبي وأبناء بَكَّارْ ابن اسويدَ اَحمد والزعيمين الغيلانييْن: سيدَ اَحمد بن تكدي، ومحمد ابن بوبوط، والعلامةِ سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ، والعلامةِ عبدالقادر ابن محمد بن محمد سالم المجلسيّ، والشيخ الفتى الطالب اخيار بن الشيخ ماء العينين، والسيد بن المختار بن الطالب بن المختار بن الهيبه الأبيارىّ، وغيرهم ممَّن يصعُب تَصوُّرُ أن يكون رجوعهم بدافع الجُبن أو الطمع أو التقاعس عن الجهاد ونصرة الكفار على المسلمين!

ثم إن المعامَلة المباشرة مع النصارى المستعمرين لم تكن مقصورة في يوم من الأيام على الجانب المهادن للفرنسيين، وإنما كان للطرف الآخر معاملات قديمة وحديثة مع الفرنسيين والإسبان والألمان وأضرابهم؛ وقد سبَقت ذلك كلَّه معاملاتٌ ومعاهداتٌ متينة ربطت بين هؤلاء وبين كبار الأمراء وبعض الزوايا والملاك التقليديين.

وإذا كانت معاملة القادة والعامة مع المستعمر تختلف من شخص لآخر، حسب الظروف والمسؤوليات والتحديات والمؤهلات العلمية والدينية والأخلاقية، فإن المسألة، على العموم، أبسط وأهون كثيرا مما تُطرح به اليوم. إذْ أن من المراكز والمسؤوليات القيادية ما يجر صاحبه تلقائيا إلى التعاطي سلبا أو إيجابا، والتعامل مع مختلِف المجتمعات المحيطة والأمم المهيمنة على الدنيا. «والمرءُ لا يستطيع اختيار جاره»، كما يقول أحد الحكماء.

ويكفي المرءَ في هذا الصدد أن ينظر إلى قيادات وحكومات الدويلات الإسلامية المشتَّتة اليوم. فعلى الرغم من كونها مستقلة نظريا ومَحميةً بقوانين دولية، ولها جيوش وشرطة وميزانيات وخيرات، إلا أن علاقاتها بالدول الغربية والعالم المسيحي، بل وبالعالَم اليهودي أيضا، مُهينة ومُذلة.

وقد وصف الشيخُ سيديَ بابه نفسُه واقعَ الأمة المزريَ بكل مرارة، وأنبأ ذلك الوصفُ عن وعي عميق وحُرقة بالغة وحزن صادق لأوضاع الأمة وتحريف الملة، وعن الارتباط الوثيق بين التمكين وبين العودة إلى المنابع الصافية للدين الحق، فقال: «وقد حادت هذه الأمة، أقال الله عثرتها، عما كان عليه سلفها الصالح، فاتبع الأمراء الشهوات وابتدع العلماء والصالحون البِدع، وطلبوا الدنيا بالدين، وبقيت العامة حَيَارَى لا يجدون مرشدا ولا يهتدون سبيلا، فتخلف النصر عنها وظهر عليها مخالفوها فلا ترى شبرا من الأرض منذ حين فتحه المسلمون، ولا تزال ترى إقليما فتحه النصارى. ولا يزال ذلك ما لم تراجِعِ الأمةُ دينَها وتُخلِصِ اتباعَ سنة نبيها عليه الصلاة والسلام»[[1]].

العلامة سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ

من المعلوم أن القارئَ الفقيهَ سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ كان من أول وأشهر العلماء الذين أفتوا بوجوب جهاد المستعمر الفرنسي. لكنْ، ونتيجة لظروف ومسوغات شرعية وواقعية، عاد وكاتب الفرنسيين في يوليو 1909م. وقد كانت بينه وبين الشيخ سيديَ بابَه مراسلاتٌ مملوءة علما وأدبا وحسنَ ظنَ، مع العلم أن جدَّه وسميَّه كان ممن أجازه الشيخ سيديَ الكبير.

جاء في آخر رسالة كتبها الشيخ سيديَ بابَه إلى سيدي محمد بن أحمد بن حَبَتْ لثلاث بقِين من جمادى الآخرة عام سبعة وعشرين وثلاثمائة وألف ما يلي: «وغير مستحيل على الله تعلى وقدرته أن يؤيد دينه بالمخالفين أو يقودهم إلى الدخول فيه، كما فعل بالديلم والسلجوقيين وبني عثمان، والله على كل شيء قدير. وإنه لا يخفى عليَّ أنك لم ترد بهذا الأمر أكْلَ مال ولا اكتسابَ منزلة، ولكن أرى أنك لم تُمْعِن النظر في أحوال الزمان والمكان؛ ومثلُك إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، والله تعلى يوفقني وإياك وسائرَ المسلمين، آمين. فأرى أن ترجع عن هذا الأمر وتجعل ذلك قربة إلى الله تعلى، فقد ضاع فيه من دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم ما لا يحصى، وإنَّ مثلك مَن نظَر للمسلمين، وقاد العافية إلى المساكين. وقد كلمت نائب فرنسا هنا في أمرك فآمنك ولله الحمد، وأمر أن تأتيه في ثمانية أيام ولا تتأخر عنه، فتلتقيان وتقرران كيفية الصلح والعافية، فأرى أن تفعل ذلك عاجلا، فهو خير في العاجل والآجل إن شاء الله تعلى».[[2]]

وقد علَّق على هذه الرسالة بعضُ حمَلة الأقلام من المتحاملين القدماء أمثال محمد يحيى بن حبيب الله (ولد بيلاهي)، الذي أفنى جُلَّ عمره وأهدر طاقته وأثبت إبداعَه في محاولة إقناع الموريتانيين والليبيين وغيرهم بعَمالة الشيخ سيديَ بابَه والشيخِ سعدِ أبيه ومعاداتهما للجهاد وحُبهما للكفار وحقدهما على المسلمين وعقوقهما لآبائهما، قائلا: «هذه رسالة من الشيخ سيديَ بابَه إلى السيد العالم المجاهد سيدي محمد بن حَبَتْ يطالبه فيها بالتخلي عن الجهاد والالتحاق به من أجل إبرام الصلح بينه مع النصارى». وذلك في أحد ملاحق كتاب له نشرته مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي سنة 2006م؛ سماه: “الحركة الإصلاحية في بلاد شنقيط (موريتانيا) بين الاستجابة للاستعمار الفرنسي ودفاعه من خلال بعض الفتاوى والوثائق”.

إن مثل هؤلاء الكُتَّاب لا يتهمون الشيخ سيديَ بابَه ومَن حذا حذوَه بمعاداة الجهاد والمجاهدين وتثبيط همَمِهم، بقدر ما يتهمون هذا القارئ العالم وأضرابَه بالسذاجة والتولي عن الجهاد وسوء الخاتمة وغير ذلك من الموبقات… وكذلك يفعل مؤرخو نوفمبر بأحمد ابن الديد وأبناء بَكَّار ومحمد ولد الخليل وغيرهم من عشرات الأمراء والأبطال الذين يذكرون نُتَفا من تاريخهم ويتركون جُلَّ أعمارهم تذهب سُدى، كأنما يقولون لهم: “عاقبتُكم تُحرجنا ولا تُشَرِّف الوطن ولا يمكن ذكرها في طاولات عيد الاستقلال”، مع أنها هي خياراتهم التي اختاروها عن وعي ومسؤولية وخدموها بأقلامهم ومدافعهم وأفنوا فيها بقية أعمارهم.

فعلى سبيل المثال، قاوم الأمير البطل أحمدُ بن الديدْ الفرنسيين من 1905 إلى يناير 1910م، بينما رأى صواب مكاتبتهم والمعاملة معهم من يناير 1910 إلى أن توفي في أكتوبر 1944م. فهذه أربع وثلاثون سنة تقريبا يلزَمون حيالَها الصمت المطبق! والأمثلة كثيرة. فما السبب في عزوف هؤلاء المؤرخين عن استكمال تاريخ أولئك الأبطال والأعيان؟ أم أن تاريخنا يجب أن يبقى كلُّه مَلْحَمِيًّا بطوليا، بعيدا عن الواقعية وأحكامها والعقلانية وضوابطها واختلاف الآراء والاجتهادات؟ أمَّا حاضرُنا فيجب أن يكون مترهِّلا متهالكا بائسا مسكينا، لا جهاد فيه ولا مقاومة ولا دفاع!

جاء في مذكرات القائد الاستعماري غورو ما يلي: «في يوم 5 يوليو 1909، قام ثلاثة شيوخ كبار من أهم الأعداء السابقين بتوجيه رسائل إلى كل من غورو والشيخ سيديَ يعلنون فيها مكاتبتهم للفرنسيين هم: سيدي محمد ابن حبَتْ، أحد نبلاء قبيلة الَاغلال، صاحب التأثير الواسع، وكان قد ذهب إلى الشيخ ماء العينين عند السمارة فور وصولنا آدرار، ليعود مؤخرا؛ ومحمد ابن بوبوط، شيخ أولاد سِلَّه، من أولاد غيلان؛ وسيد احمد بن تكدي، شيخ أولاد نغموشة من أولاد غيلان (…) وفي يوم 19 يوليو 1909، بعد الظهر، قدِم سيدي محمد ولد حبَتْ، بعد أن أُعطي الأمان بناء على طلبه الآنف الذكر، مكررا نفس العبارات التي كتبها في رسالة 5 يوليو 1909، ومُبيِّنا لنا كيف حارَبَنا ظنا منه أن دينه يفرض عليه ذلك، وطالبًا الأمان».[[3]]

العلامة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسيّ

كانت لهذا الشيخ المعروف بتبحُّره في العلم وورعه قصةٌ عجيبة مع رسالة الشيخ سيديَ بابَه الموجهة إلى الزوايا بشأن مشروعية مهادنة الفرنسيين قصْدَ حماية الدين والأنفس والأعراض والأموال. وقد كان للشيخين قبل ذلك وبعده علاقاتٌ متينة، وقد سبَق للشيخ سيديَ بابَه أن زار حضرةَ أهل محمد بن محمد سالم وقرَّظ كتُب عبدالقادر الثلاثة: الثِّمان ونُزهة الأفكار والمباحث الجليلة منوها برسوخه في العلم وفضله وعراقته في ذلك. كما رثى الشيخ سيديَ بابَه عبدَ القادر وأرخ لوفاته بمرثاة مؤثِّرة مطلعُها:
يا للشريعة من إحدى دواهيها
هو العشير لها ترضى بعشرته

لقد أصيبتْ بمُفتيها وقاضيها
وطالما كان بالإحياء يرضيها[[4]]

وكان الشيخ عبدالقادر قد عارض أول الأمر رسالة الشيخ سيديَ بابَه المذكورةَ، ولم ير من الجائز مهادنة النصارى، وهاجر إثرَها إلى الشمال وأرسل مجموعة من ذويه للمشاركة في قتال الفرنسيين بآدرارْ، إلا أنه سرعانَ ما راجع موقفه، مستصوبا فتوى الشيخ سيديَ بابَه ورسالتَه تلك بعينها ومكاتبا للفرنسيين. وهو الذي دعا من منزل أهل بيروكْ بوادْ نُونْ إلى مناظرة أىّ عالم يقول بوجوب جهاد الفرنسيين على أهل هذه البلاد، فلم يتصدَّ لذلك أحد على وجه الإطلاق. وقد قيلت في ذلك أشعار مشهورة.

وسيلاحظ القارئ في قصة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم التالية أمرين: أولُهما حِرصُه على الهجرة بدينه والجهاد في سبيل الله حين تبيَّن صوابَ ذلك وإمكانَه. والثاني نزاهتُه العلمية والدينية وحسنُ ظنه بأهل العلم وإنْ خالفوه في الرأي. والقصة موَّثَّقة في مراجع مكتوبة، ومروية أيضا من طُرُق صحاح؛ وهذه إحدى رواياتها وأسانيدها:

حدثنى القاضي الفاضل أحمدُ بنُ إسَلْمُو بْنِ محمد يحيى بنِ أحمدَ بنِ عبدِالقادر بنِ محمدِ بنِ محمد سالم المجلسىُّ، قال: «حدثنى القاضى محمدُ الأمينُ بنُ بَلَّاهِى بنِ عبدِالقادِرِ بنِ محمدِ بنِ محمد سالم (عمُّ الوالدة وخالُ الوالد)، عن أبيه محمدٍ عبدِالله (بَلَّاهِى) أن والدَه عبدَالقادر بنَ محمدِ بنِ محمد سالم، لما وصلته رسالة الشيخ سيدىَ بابَه بنِ الشيخ سيدىَ الموَّجَّهَةُ إلى الزوايا بشأن التعامل مع الفرنسيين قَصْدَ تحقيق شيء من حفظ الدين والأنفس والأعراض والأموال، وغير ذلك من المقاصد المعروفة، أنه، يعنى عبدَالقادر بنَ محمدِ بْنِ محمد سالم، لما قرأ الرسالة قال: “إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد أصابت الفتى عينٌ: يدعوني أنا لموالاة النصارى، وقد بلغتُ هذا العمُرَ !”بالحسانية: “إنا لله وإنا إليه راجعون! أَلَّ حَالتْ اطْفلْ ظَرّْتُ العَيْنْ: يَهْنَ عَنِّ آن إلى اليومْ ؤُ يِدْعِينِى لموالاة النصارى!”. وكان عُمره يومَها قد تجاوز التسعين عاما.

ثم هاجر الشيخ عبد القادر وجماعتُه، إثرَ ذلك مباشرة، إلى الشيخ ماء العينين بنِ الشيخ محمد فاضل في السمارة. وبعد مدة قصيرة، بلغ الشيخَ ماءَ العينين أن الفرنسيين احتلوا مدينةَ أطارْ، فجيَّش جيشا لتحريره، وأمَّر عليه ابنَه الشيخَ الولىَّ، وكان ممن ذهب فى ذلك الجيش جماعةٌ من أهل محمد سالم، منهم جَدى بَلَّاهِى بْنُ عبدِالقادر ومحمد (ابُّوكُ) بنُ محمد خويَا[[5]] ، (الأديب المشهور) ومحمذن فال بنُ أشفقَ الطاهر ونعمة وبَتَّاحْ، ابنا أحمدُو ابنِ محمد سالم وآخرون غيرهم ممن لا تحضرنى الآن أسماؤهم. وأثناء المسير عَرَضَت للجيش ضالةُ إبل لقبيلة إِديْبُسَاتْ، وقد نفِد زادهم، فاستشاروا الأميرَ في أمرها فرأى أن يتزودوا بها، لكن جماعة أهل محمد سالم رأت أن لا سبيل لهم عليها ولم يأكلوا من لحمها شيئا.
وصل الجيش إلى اكصير الطرشان، فبدءوا تنظيمَ الصفوف والتأهب للمعركة؛ وأرسلوا رجلا من “لكدادره” ليأتيهم بأخبار الجيش الفرنسى فى أطارْ، ومع وصول المبعوث إلى معسكر الفرنسيين (الصنكه) استعرضوا قواتهم، فانبَهَر انبهارا شديدا بما رأى. ثم رجع بعد يومين، فسأله الشيخ الولىُّ والجيشُ عما رأى، فقال لهم: إنه الموت! إن هؤلاء الناس (يعنى الفرنسيين) عندهم قنابل يرمونها (اكْلَيْـزَاتْ ايْشُوطُوهَ)، ولا تكاد تَمَسُّ شيئا حتى يشتعل؛ وعندهم مدافع تصِل مبلغ الصوت (يَخبْطُو من اعْيَاطْ)، وعندهم أخرى تصل مبلغَ البصر (يَخبْطُو من شَوْفَه)، وعندهم مدافع تصبُّ رصاصها دفعة واحدة كالمطر… فقال بلَّاهى بنُ عبدالقادر، مخاطبا الشيخَ الوليَّ : ماذا عندنا يا شيخُ من العتاد؟ فوزع الشيخ عليهم السلاح، معطيا لكل واحد منهم (اكْشَامْ واتْمَوْكِينْتَيْنْ).[[6]]

قال بلَّاهى بنُ عبدالقادر: ما هذا بالجهاد المشروع: أولُه استحلال ضالة إديْبسات، وآخِرُه (اكْشَامْ واتْمَوْكِينتيْن) لكل مقاتل، وذلك فى مواجهة هذا الكمّ الهائل من السلاح والذخيرة عند العدو. وإن كان اللهُ قد أمر بالجهاد ورغَّب فيه، فإنه أمر أيضا بالإعداد له، فقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيۡلِ﴾، وما عليه الجمهور أن التوازن ينبغى أن يكون فى حدود النصف الوارد فى قوله تعلى: اْلآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفٗا فَإِن تَكُن مِّنْكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِنْ يَّكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوٓاْ أَلۡفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾. ثم طلب (أىْ بَلَّاهى بنُ عبدالقادر) من أمير الجيش، الشيخِ الولىِّ بنِ الشيخِ ماءِ العينين، أن يأذن له فى الانسحاب مع جماعته، فأذن له الشيخ، على شرط الانسحاب متفرقين فرادى، وأن يكون ذلك بليل، وأن لا يصبحوا قريبين من المكان الذى يرابط فيه الجيش. فانسحبت جماعة أهل محمد سالم برئاسة بَلَّاهى بن عبدالقادر، وبقى منهم أفراد، مثل ابُّوكُو بنُ محمد خُويَا ومحمذن فال بن أحمد سالم ابن أحمد بن ألْفَغَ الطاهر وأهل أحمَدُو بن محمد سالم… كلهم تلاميذ صوفية للشيخ ماء العينين.

تحرك الجيش نحو أطارْ، حتى إذا وصلوا “زِيرتْ تَمَسْ” (بفتح الميم وتفخيمها) تلقاهم جيش الفرنسيين بوابل هطِل من الرصاص، فقُتل من قتل وجُرح من جُرح وفَرَّ مَن فَرَّ وأُسِر من أُسِر وأصيب الشيخُ الولىُّ فى الفخذ، ثم طلب الفرنسيون من الباقين أن يستسلموا ويرفعوا الأعلام، ففعَل ذلك من بقي منهم في ساحة المعركة.
عاد الجماعة إلى السمارة وحكوا لأهلها الخبر، فقال عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم: “أَعطونى رسالة الشيخ سيديَ بابَه لأقرأها مرة أخرى” (اعْطُونِي رسالة بابَه نقراهَا مَرَّه اخْرَى، الشيخ سِيدِيَ وأهلُه زاكِينْ مع المسلمين). ثم انطلق هو وجماعته إلى آدرارْ، فنزلوا بوادي “البيْظات”، وكاتبوا الفرنسيين وصالحوهم على عدم المساس بالدين والأنفس والأموال، مقابل الشروط المعروفة. ووثيقة المكاتبة موجودة».[[7]]

وللأديب المشهور محمد (ابُّوكُ) ابن محمد خويا حكاياتٌ مَروية وألفاظٌ طريفةٌ تلفَّظ بها أثناء تلك المعركة. وذكر العلامة ابَّاه بن محمد عالي بن نعم العبد المجلسيُّ في كتابه: “الجليس المؤنس في تاريخ وأنساب المجلس”أن الشيخ الوليَّ تلقاه جيش الاحتلال مرةً عند “إكنينتْ التِّيكِّويتْ” فأرسل ابُّوكُ بن اسويد احمد وودادْ بن المحجوب السمسدي طليعةً (شَوْفْ) على ناقة، فلما عاينا طلائع الجيش شاهدا كثيرا من الذخيرة يغطي وجه الأرض فرجعا مُغِذَّيْنِ السيرَ، فقال “ابُّوكُ” في ذلك:
عَلَّمْنِ مُلاَنَ يَخوفْ
ؤُزُفافْ امعاهْ ازَيْزُوفْ
يَذَاكْ الَّ مَوْكَفْ لكوفْ

لاهِ اوَدِّ منَّحْنَ شوفْ
ارديفْ اعْلَ بَكْرَ وَحْدَ
للقَلبْ ؤُلِكْلَ والكَبْدَ

وقد اشتمل كتاب “الجليس المؤنس”على كثير من الأخبار ذات الصلة، خصوصا في الجزء الثاني، من الصفحة 1067 إلى الصفحة 1071. من ذلك قولُه: «يحكى أن العلامة بابَه ابن الشيخ سيديَ كان يستشير بعض علماء ورؤساء ووجهاء القبائل في مكاتبة واستقدام النصارى لهذا البلد لتهدئة الأوضاع فيه؛ وممن استشار على ذلك من قبيلة المدلش سيد احمد بن محمذ بن الصبار وأشار إليه بأنه يرى أن ذلك من الصواب (عن الشيخ ابن الشريف بن سيد احمد بن محمذ بن الصبار). وأرسل بابَه رسالة إلى العلامة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي يستشيره في ذلك أيضا، فرد عليه بعدم أصوبية ذلك في نظره وأنه يرى استقدامهم ومكاتبتهم من أعظم الأخطاء، وقد هاجر بفصيلته متوغلا في الشمال، ثم ظهر له بعد ذلك أن الصواب مكاتبتهم فكاتبهم هو ومن معه (عن حمادٍ بن السعيدي ومحمد الأمين بن بلاهي بن عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم)».[[8]]

الشريف بن حمادِي بن محمذن بن الصبار المجلسي

وكان قد ألف في وجوب الهجرة عن هذه البلاد ونظم من الشعر المقاوم والمناضل الكثير. ثم ذهب مهاجرا إلى أرض الحجاز سنة 1903م، لكن عارضا عاقَه بأرض الحوض عن الوصول حيث مكث نحو ثلاث سنوات، فتبعه أخوه الشيخ محمد عبدالحي بأمر من أبويه ومعه جماعة، ولم يزالوا به حتى أقنعوه بضرورة العودة معهم، وذلك بعدة وسائل، من بينها رسالة أبويه، وإثبات أن المستعمر لا يتعرض للناس في دينهم، فرجع بعد أن طالت عليه الغربة وأرقه تذكر الأوطان والأهل والأحباب، فقال في ذلك قصيدة مشهورة، جاء فيها:

برق يلوح على الأوطان أحيانا
ما هيَّجَ الشوقَ برقٌ لاحَ مِن قِبَلَ الْــــ قد هاج للصب بعد النأي أحيانا
ــــــــــــأحباب ما هيَّج البرق الذي بانا

إلى أن يقول:
يا أيها الركب إن السير قد حانا
من كان فيها يحل الأمن ساحته
بآل أحمد من دامان قد حليتْ
فاق الزوايا وحسان المقيم بها

إلى البلاد التي قد كن مثوانا
وفي سواها يرى للأمن فقدانا
بها أجادوا لرَبْع الدين أركانا
من الزوايا أولي العليا وحسانا9]] إلخ

الشيخ العلامة القارئ محمد حبيب الله بن مايابى الجكني

تبادل الشيخان: سيديَ بابَه ومحمد حبيب الله بن مايابى قصيدتين من عيون الشعر. وقد أرسل محمد حبيب الله عدة رسائل إلى الشيخ سيديَ بابَه، يبدو أن بعضها قد ضاع، كما ضاعت رسالة أو اثنتان أرسلهما له أخوه العلامة محمد الخضر، الذي كان يبعث أيضا بالسلام والتحايا للشيخ سيديَ عن طريق أخيه محمد حبيب الله. وهذا نص أولى رسائل الشيخ محمد حبيب الله ابن مايابى إلى الشيخ سيديَ بابَه:

«الحمد لله الذي جعل الأقلام، عوضا عن المشافهة بالكلام، والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه الكرام. أما بعد، فسلام يحل المودة والسرور، وتنشرح به على نأي البلاد الصدور، إلى أُبيِّ القرآن وعثمانه، وأحمدِ الحديث وسفيانه، ومالك الفقه ونُعمانه، وعليِّ القضاء وسليمانه، شيخنا الذي تعلمنا منه دون ملاقاة، وعمَّتنا نفحات علومه ونِعمت النفحات، العالم العلامة، الجِهبذ الدَّراكةِ الفهَّامة، الجامع بين الحقيقة والشريعة، من له في كل مكرمة وفضيلة شريعة، الشيخ سيديَا بن الشيخ سيدي محمد ابن الشيخ سيديا، رحم الله الجميع، وأولاه ما يناسبه من كل مقام رفيع.
أَوجَبَه أن مُكاتبكم المتسمِّى آخرَه أحبكم دون ملاقاة وقد عاجلته الهجرة عن تلك البلاد دون ذلك، وقد كاتبناكم على لسان ابن عمكم السيد بن المختار بن الهيبة، وقد عاجلتنا الهجرة أيضا إلى المدينة المنورة قبل مراجعتكم، وقد دعونا الله تعلى لكم في هذه البقاع الطاهرة ونسأل الله لكم وصولكم لها حاجِّين مقبولين. ولما وجدنا في هذه السنة حجاجا من آل سنغال، وكان منهم واحد يدعى (انجاي ديوف) وهو يزعم أنه تلميذ لكم قصدت أن أرسل معه كتابي هذا لكم، وأروم منكم أن تشرحوه لأني أراكم أهلا لذلك وأرسلت لكم بصحبته رسالة باتصال سند المصافحة بلصقها ذِكْرُ بعض مصنفاتي لتطلعوا عليها، ومن أهمها شرح الموطإ بالصفة المذكورة هناك، وقد أرسلت لكم أذرعا من ثياب الكعبة مع الرجل المذكور، وهو الذي أرسلت معه نظمي هذا المسمى “دليل السالك إلى موطإ الإمام مالك”، فإن وصلكم، سواء شرعتم في شرحه أم أحجمتم لعذر ما فأفيدوني بالجواب في ذلك، فإني مقيم بالمسجد الحرام. وعنواني الذي يكتب في ظهر غشاء المكتوب:
“محمد حبيب الله بن مايابى الشنقيطي المدرس بالمسجد الحرام بمكة المشرفة”. وأرسلنا لكم تقاريظ لبعض علماء الحرمين لهذا النظم، ومن جملتهم أخونا الشيخ محمد الخضر لتطلعوا عليها، وعسى قريحتكم السنية تسمح بأبيات له تقريظية، وشرحُكم الأولى وأولى، وتعجيل جوابي على العنوان المذكور هو المرجوُّ من جنابكم الأعلى، وبعدَه تكون المكاتبة بيننا إن شاء الله.
سلموا لنا على ابن عمكم السيد بن المختار وأبنائكم الكرام، ومن يجمعه مجلسكم من الفِخَام، وعلى العلامة الهمام سيدي محمد ابن داداه، ولا تنسونا من صالح أدعيتكم، كما لا ننساكم من ذلك في وقت الطواف وفي ختم الدروس بالمسجد الحرام، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم به وفي دار السلام. كتبه عبد ربه وأسير ذنبه محمد حبيب الله بن سيدي عبدالله بن مايابى الجكني، عامله الله بلطفه الخفي.

إلحاق: وحبذا لو كانت نسخة هذا النظم وما معه بالخطوط المغربية، لكن الوقت أعجلنا لسرعة سفر الحجاج عن ذلك، فأرسلناها لكم بالخط المشرقي، ولا شك أنكم تقرؤونه بسهولة، فتأملوا في النظم غاية، لأنا لم نقابله حق المقابلة، فأصلحوا ما لعله فيه من الفساد مما طغى به القلم أو كاد. كاتب أعلاه».[[10]]

فرد عليه الشيخ سيديَ بابَه التحايا والسلام والأشواق والتزكية شعرا، وربما نثرا أيضا
حَيَّا الإلهُ حَبِيبَ الله مَن لَزِمَا
إن الزمان إذا يَابَى وُجُودَ فَتًى
ما زالَ يَدْأَبُ في عِلْمٍ وفي عَمَلٍ
حتَّى أباحَ حِمَى العَلْيَاءِ في زَمَنٍ
بِالْعَشْرِ يَقْرَأُ آياتِ الكِتَابِ، كَمَا
مشفوعةً من أحاديث الرسول بِمَا
إن الذي أمسكَتْ كَفَّاهُ مُعتصِما
طابتْ أُرومتُهُ قِدْمًا ومَحْتِدُهُ
يسعَى مساعيَ آباءٍ لهُ سَلَفُوا
لا يَرتضِي أنهُ لا يُرتضَى خَلَفًا
أبدى تصانيفَ قَرَّتْ عينُ ناظرِهَا
أو روضةٍ من رياض الحَزْنِ طَيِّبَةٍ
يسمُو إلى الحرميْن الطاهريْن، فما
إنَّ المكارمَ أرْزاقٌ مُقَسَّمةٌ
نَهْوَى الوصولَ إلى أرض الحِجاز فَمَا
لكنَّما الخلقُ مَجْبُورٌ تُصَرِّفُهُ
وربَّما تُسْعِدُ الأيَّامُ آوِنَةً
رَشَدْتُمُ أيها الساداتُ إنكُمُ
أرْضَى سِواكُم قعودُ الخالفِينَ، وما
بُوركْتُمُ وجُزِيتُمْ كُلَّ صَالِحةٍ
بجاه سَيِّدِنا المختارِ مِن مُضَرٍ
عليهمُ صَلَواتُ الله، ثُمَّ عَلَى

بَيْتَ الإلهِ وحَيَّا الْبَيْتَ والحَرَمَا
مِثْلِ ابنِ ما يَابَ لَمْ يُعْدَدْ مِنَ اللُّؤَمَا
يَقْفُو بِأَعْمَالِهِ آثَارَ ما عَلِمَا
قَلَّ الْمُبِيحُ مِنَ الْعَلْيَاءِ فِيهِ حِمَى
قَدْ كان أنْزَلَها رَبُّ الوَرَى حِكَمَا
قدْ كان صَحَّحَهُ الحُفَّاظُ والعُلَمَا
بِذَيْنِ قَدْ أمسَكَتْ كَفَّاهُ معتصَما
والفرع إن كرُمتْ أعراقُه كَرُما
ساعِينَ للمجد سَعْيَ السادةِ الكُرَمَا
ومَن يُشابِهْ فَعَالَ الأصْلِ ما ظَلَمَا
كالدُّرِ يحسُن منثورا ومنتظِما
غَنَّاءَ جادَ عليها الغيثُ وانسَجَمَا
تَثْنِي عزيمتَه العُذَّالُ إذْ عَزَمَا
بينَ البريَّةِ مِمَّن يَبْرأُ النَّسَمَا
ننْفَكُّ نذْكُرُ ذاكَ الْبَانَ والعَنَمَا
أيْدي المقاديرِ مُضْطَرًّا ومُعْتَزِمَا
فيُدْرِكُ المرءُ آمالاً لَهُ، رُبَمَا
أعمَلْتُمُ للإلهِ النُّجْبَ والهِمَمَا
زالتْ نَجَائبُكم تَسْمُو بكُم قُدُمَا
دُنْيَا وأخْرَى ودامَ الشملُ مُلْتَئِمَا
وسائرِ الأنبياءِ السَّادَةِ العُظَمَا
تَالٍ سبيلَهُمُ بدْءًا مُخْتَتَمَا

انتهى.[[11]]

ويُحكى أن الشيخ محمد حبيب الله كان يضع البيتين التاليين في مقدمة إجازاته لطلابه فى القرآن والحديث، لمعرفته ببراعة قائلهما في هذين الأصلين وعلومهما، وكان يقول: لقد أجازنى الشيخ سيديَ بابه في القراءات العشر، وفي الحديث:
بِالْعَشْرِ يَقْرَأُ آياتِ الكِتَابِ، كَمَا
مشفوعةً من أحاديث الرسول بِمَا

قَدْ كان أنْزَلَها رَبُّ الوَرَى حِكَمَا
قدْ كان صَحَّحَهُ الحُفَّاظُ والعُلَمَا

ومن أجمل ما في تلك المراسلات والأشعار أن الشيخ سيديَ بابَه، على الرغم من مخالفته لفتوى أبناء مايابى بوجوب وأولوية الهجرة عن البلاد المحتلة، فإنه كان يعتبرهم مهاجرين إلى الله، بناء على اجتهادهم ونياتهم:
يسمو إلى الحرمين الطاهرين فما
………..
رَشَدْتُمُۥ أيها الساداتُ إنكُمُۥ
أرضى سواكم قعودُ الخالفين ومــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تثنى عزيمتَه العذالُ إذ عزَما
………….
أعمَلْتُمُۥ للإلٰهِ النُّجْبَ والهِمَمَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
زالت نجائبكم تسمو بكم قُدُما

فهم جميعا علماء مجتهدون مأجورون بإذن الله، لا يُلزم أيًّا منهم اجتهادُ الآخر، كما قال له الشيخ محمد حبيب الله في قصيدته الجوابية:
وليس مُختارُ حِبْرٍ لازِمًا عَمَلاً

لذي اجتهادٍ رأى بالشَّـرْعِ ما فَهِمَا

بل صرّح بأصوبية مذهب الشيخ سيديَ بابَه الذي ذهب إليه في تلك النازلة التي حارت فيها عقول العلماء والحكماء، مُشِيدا بما أبداه من حجج متسمة بالحق والصواب، وواصفا مسعاه وما أفتى به في حق أهل التلصُّص والحرابة بأنه كان هو جزاءَهم الأوفى:
أبقيْتَ عِزَّكَ في دَهْرٍ بهِ بُهِتَتْ
فكنتَ تَدْفَعُ بالمال التِّلادِ ومَا
وَذَا التَّلَصُّصِ جازَيْتَ الجزاءَ عَلَى

أجِلَّةُ العُقَلاَ مِمَّا لهُمْ دَهِمَا
أبْدَيْتَ من حُجَجٍ بالحقِّ مُتَّسِمَا
طِبْقٍ فَحَكَّمْتَ فيه السيفَ والقَلَمَا

كما صوَّب الشيخ محمد حبيب الله بقاءَ الشيخ سيدِيَ فى البلد وترْكَه للهجرة:
ومُكْثُكُمْ نَفْعُهُ للناس قَاطِبَةً
فمَن نَحَا علمَكم نالَ المرادَ، ومَنْ
ومن نَحَا بَحرَ عِرفانٍ يموجُ أتَى

لَمْ يستطعْ جَحْدَهُ الحُسَّادُ واللُّؤَمَا
عَنْهُ الدِّفَاعَ نَحَا صُنْتُمْ له الذِّمَمَا
بَحْرًا خِضَمًّا مِنَ الأَنْوارِ مُلْتَطِمَا

إلى آخر ذلك من مسوغات بقاء الشيخ سيديَ بابَه فى البلاد. وفيه ردٌّ على القول بوجوب الهجرة وقتَها في حق كل أحد من أهل هذه البلاد؛ إذْ من الناس مَن نفعُ بقائه أعمُّ وأعظم من عبادة خاصة لا يتعدى نفعها إلى غيره. ويجدُر الانتباه هنا إلى قوله إن هذه المكانة ليست جديدة، خلافا لمَن يرى، تحاملا وتجاهُلا، أنها مستمَدّة من علاقته بالمستعمر!:
قدْ كُنتُمُۥ كعبةً في أرضكمْ شَمَخَتْ
مَن أمَّها جانيًا نالَ النجاةَ ومَنْ

عِزًّا ويُمْنًا فكانت للورى حَرَمَا
بها استجارَ نَجَا مهْما بها احترما

بل يشير إلى ما تميَّز به الشيخ سيديَ بابَه عن أبويه، من صعوبة الزمن والظروف، وتفوقه بسبب ذلك:
نِعْمَ الخليفةُ بَعْدَ الوالديْنِ فَكَمْ
بلْ فُقْتَ في زمَنٍ صعْبٍ برَزْتَ به

أحْيَيْتَ من سُنّةٍ جلتْ بها حكمَا
كالبدْرِ وَسْطَ السَّمَا بَلْ فُقْتَ ذا حِكَمَا

على نحو ما ذهب إليه بعض مَن مدَح الشيخ سيديَ بابَه مِن كبار معاصريه من العلماء، أمثال العلامة محمذ فال ابن محمد مولود المبارَكيِّ، المشهور بالدَّدَو الذى قال:
على أبويه زادَ، وأيُّ مَرْءٍ
فَـــدَعْ خيرَ القرونِ وفَضِّلَنْهُ

يُطاوِلُ غيرَه قُنَنَ الجبالِ؟
على مَنْ بَـعْـــدَ ذاك مِن الرجالِ

وهذا نص قصيدة الشيخ محمد حبيب الله المفعمة رقة وشوقا وصِدقَ عاطفة. وقد ذكر في الرسالة المصاحبة لها أنه أعاد إرسالها مرَّتين ولم يدْر أوَصلتْ أم لم تصل:
حَيِّ البلادَ وخصصْ روضة الكُرَما
وحيِّ مِن ساكني أرجائها عَلَمًا
بالشيخ سيديَ يُدعى وهْو من صِغَرٍ
حتى أباح حريمَ المجد واقتُبستْ
يا كوكب العلم يا من زانَه أدبٌ
جاءت جواهرُ من أشعاركم دُرَرًا
فخامرتْ قَلْبَ ذي حُبٍّ به لعبتْ
فهيَّجَتْ مثلَ بَرْقٍ لامعٍ سَحَرًا
فاشتاقَ رؤيةَ شمسٍ بالهدَى طَلَعَتْ
قالوا: أئِنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ يَوْمَئذٍ؟
أنَّى لنا زمنٌ نلقاكَ فيه ضُحًى
فَأَكْؤُسُ المجدِ والأنْوارِ تَالدة
حُزْتُمْ علوما بها فُقْتُمْ مُعَاصِرَكُمْ
أَبَى الزَّمانُ إمامًا كُفْؤَكُمْ حَسَبًا
قَدْ حُزْتُمْ قَصَبَ السَّبْقِ الْجَمِيلِ عَلَى
ما دُمْتُمُ فَلِوَاءُ المَجْد مُرْتَفِعٌ
ومُكْثُكُمْ نَفْعُهُ للناس قَاطِبَةً
فمَن نَحَا علمَكم نالَ المرادَ، ومَنْ
ومن نَحَا بَحرَ عِرفانٍ يموجُ أتَى
ومن نَحَا كَرَمًا طبْعا فَدَيْدَنُكُمْ
قدْ كُنتُمُۥ كعبةً في أرضكمْ شَمَخَتْ
مَن أمَّها جانيًا نالَ النجاةَ ومَنْ
نعم الخليفة بعد الوالديْنِ فَكَمْ
بلْ فُقْتَ في زمَنٍ صعْبٍ برَزْتَ به
مِنْ أينَ للبدْر ما قدْ حُزتَ منْ حِكَمٍ؟
لمَّا ادْلَهَمَّتْ حُرُوبُ الدَّهرِ كنتَ بِهَا
أبقيْتَ عِزَّكَ في دَهْرٍ بهِ بُهِتَتْ
فكنتَ تَدْفَعُ بالمال التِّلادِ ومَا
وَذَا التَّلَصُّصِ جازَيْتَ الجزاءَ عَلَى
وليس مُختارُ حِبْرٍ لازِمًا عَمَلاً
إني أُحَيِّيكَ يا ابْنَ الأكْرَمِينَ على
لَوْلاَ وُجودُ المُنَى بِمَكَّةٍ ومِنًى
ما كنتُ أرضَى بمُكْثٍ دونكم أبَدًا
وحُقَّ لي قَوْلُ جِدٍّ جاعِلاً بَدَلاً
“إنَّ الزمانَ إذا يَابَى وُجودَ فَتًى”
فأنتمُۥ بالثَّنَا أَوْلَى فإنَّ لكُمْ
وأينَ لِي بابْتِكَارِ مِثْلِ ما سَمَحَتْ
إنّا وإن أَبْعَدَتْ مِنَّا الحُظُوظُ لِمَا
فربما أسْعدَتْ يوما بكمْ بِمِنًى
أرض بها بيتُ ربِّ العالمين ومَا
لا يمكن الظالمَ الجافي لصولته
أرضٌ بها مَدْفِنُ المُختارِ مِن مُضَـرٍ
صلَّى عليه إلٰهُ العرش ما وَخَدَتْ

واسفَحْ دموعكَ من شوق العهود دَمَا
حاز السيادة عن أنظاره العُلمَا
وصفُ السيادة يَنْمِي فيه ما انْفَصَمَا
منه المعارفُ وانقادت له العُظَمَا
يَصْبُو له الأصمَعيُّ الشَّهْمُ لو عَلِما
لو فاخرتْ شعرَ غيلانٍ لها احتشَما
بواعثُ الشوق في أرضٍ بها جَثَمَا
دَفِينَ أشْواقِ ذِي وَجْدٍ له كَتَمَا
في مغربٍ حيث شأنُ المجد قد عظُما
فقلتُ: ذِي شَمْسُ عِلْمٍ قد هَدَتْ أُمَمَا
كيْ نشربَ العذبَ من أَسْراركمْ شَبِمَا؟
من راحَتَيْكُمْ تَعَاطَى صَفْوَها النُّدَمَا
وفُقْتُمُ العُلماءَ السَّادةَ القُدَما
كَمَا أَبَى مِن قَدِيمٍ مِثْلَكُمْ كَرَمَا
عِزٍّ بِكُلِّ مَجَالٍ رامَهُ الْكُرَمَا
في الجوِّ يَخْفقُ فِي أُفْقِ السَّمَا عَلَمَا
لم يستطعْ جَحْدَهُ الحُسَّادُ واللُّؤَمَا
عَنْهُ الدِّفَاعَ نَحَا صُنْتُمْ له الذِّمَمَا
بَحْرًا خِضَمًّا مِنَ الأَنْوارِ مُلْتَطِمَا
بدون مَنٍّ مدى الأَيَّام مُلتزَما
عِزًّا ويُمْنًا فكانت للورى حَرَمَا
بها استجارَ نَجَا مهْما بها احترما
أحْيَيْتَ من سُنّةٍ جلتْ بها حكما
كالبدْرِ وَسْطَ السَّمَا بَلْ فُقْتَ ذا حِكَمَا
وأينَ للبدْرِ ما أنفقتَهُ كَرَمَا؟
شَهْمًا شُجاعًا لدى الهيْجاء مُبتَسِمَا
أجِلَّةُ العُقَلاَ مِمَّا لهُمْ دَهِمَا
أبْدَيْتَ من حُجَجٍ بالحقِّ مُتَّسِمَا
طِبْقٍ فَحَكَّمْتَ فيه السيفَ والقَلَمَا
لذي اجتهادٍ رأى بالشَّـرْعِ ما فَهِمَا
شَوْقٍ بكُمْ طالَمَا مِنْهُۥ بَكَيْتُ دَمَا
ودارِ هجرةِ مَنْ للرُّسْلِ قدْ خَتَمَا
كَلاَّ ففي القَلْب وَجْدٌ شَفَّنِي سَقَمَا
مِمَّا به كُنتُمُۥ ألْقَحْتُمُ الْهِمَمَا
كالشيْخِ سِيدِيَ “لَمْ يُعْدَدْ مِنَ اللُؤَمَا”
في كُلِّ مجْدٍ أَثِيلٍ تَالِدٍ قَدَمَا
بِهِ قَرَائِحُ منكُمْ أَعْيَتِ القُدَمَا؟
كُنَّا نُرَجِّي من اللُّقْيا لِتُغْتَنَمَا
كمثلِ شمس الضُّحَى تَجْلُو لنا الظُّلَمَا
تحويه مِن مَشْعَرٍ بالأَمْن قدْ وُسِمَا
ظلمٌ لذي الضعف فيها فهْيَ خيرُ حِمَى
وجِلَّةٍ مِن صِحابٍ بينهُمْ رُحَمَا
لَهُ المطايا عليها أنْجُمٌ عُظَمَا

انتهى.[[12]]

وهذا متْن إحدى الرسائل المصاحبة للقصيدة: «بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء، وجعلَ منهم خواصَّ نِسْبَةُ غيرهم لهم كنِسْبة العوام للأولياء، والصلاة والسلام على من بعث بأشرف الشرائع وتتميم مكارم الأخلاق وعلى آله وأصحابه الحائزين من المكرمات والديانات قَصَبَ السباق.

أما بعد، فمِن كاتبِه عبدِ ربِّه محمدٍ حبيبِ الله بن الشيخ سيدي عبدالله بن مايابى وفقه الله، إلى عالم العلماء، وولي الأولياء، وذكي الأذكياء، وأديب الأدباء، وصوفي الفقهاء، وأقرإ القراء، وأبلغ الشعراء، فائق النظراء، بل عديم الشكل في الأحياء، الجامع بين الشريعة والحقيقة، مَن له في كل فن وكلِّ مكرُمة أعزُّ طريقة، مركزِ دائرة المعارف والعلوم، الجامع بين علم الحقائق وعلم الرُّسوم، الأستاذِ العالم الكبير المحدث الكامل الولي العارف ذي الفضائل الجمة والفواضل الشيخ سيديَ بن العالم الولي البليغ الألمعي، خاتمة الأدباء ذي الذوق السَّني، الشيخِ سيدي محمدٍ بن الولي الكامل الأكبر، مَن كان وجود مثله في الدنيا أعزَّ من الكبريت الأحمر، الشيخ سيديَ، رحم الله الجميع، وجمَعَنا وإياهم في أعلى الجنات في أشرف مكان رفيع، سلامٌ تزداد به المحبة والسرور، وتنشرح به مع تَنَائِي البلاد الصدور، سلام ألذُّ من منادمة الأذكياء، ومحادثة الأدباء الظرفاء، سلام يناسب جلالة المسلَّمِ عليه، وسيادَتَه وما انتمى من الفضل والمجد التالد إليه.

أوجبه أن كاتب الحروف لا زال محبا لكم بالدوام وداعيا لكم بسعادة الدارين والختم بالإيمان، في جوف البيت الحرام. وأرجو الله أن لا يَحْرمنا من لقائكم في دار الدنيا الفانية، وأن يجعلنا على سرُر متقابلين في دار الجنة الباقية، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وقد كتبت لكم كتبا مرتين أو ثلاثا ولم أتحقق وصول شيء من تلك الكتب، ومع اثنين منها قصيدة في ذكر بعض مآثركم الجمة، وهي شعر طالبٍ متشاعر لا يوازي شعر خنذيذ ماهر. ولم تكن إشارتي الآن لعدم تحققي لوصول الكتب لقصد تكليفكم بالكَتْبِ بل مرادي أن تأمروا من يكتب لي بوصول الكتُب لكم إن كانت وصلت أو عدمِه إن لم تكن وصلت. وإن كان في تمتُّعي بنظر خطكم البهي غذاءٌ للأرواح، أعذبُ وأشهى من غذاء الأشباح، واقتباس نوراني تَلقَح منه القلوب وتُمْحَى بسببه عن ناظرِه الذنوب.

وقد كتبت لكم عام أولَ، ولا أظنه وصلكم، أنَّ محبتي لكم قديمة، وأني كنت عازما قبل هجرتي عن البلاد على زيارتكم والاقتباسِ من علومكم الشريفة، والتأدب بآدابكم الكاملة المنيفة، فشغلتني عن ذلك معاناة تكرار مختصر خليل حتى فات ذلك الغرض بسفر الهجرة. وكم عطل ذلك المختصر من خليل عن خليل، لاسِيما من رام إتقانه، وقطع فيه زمانه. فكنت أقول: لا أذهب عن شيخي أحمد بن أحمد بن الهادي رحمه الله حتى لم تبق لي في المختصر مشكلة، وحيث تم هذا الغرض أرتحلُ لزيارة الشيخ سيديَ، وهكذا حتى تُوفي شيخي فجاء الأمر الذي ألجأ لهذا السفر المبارك إن شاء الله. ولم تزل تلك الأشواق في القلب كامنة، وإني إن لم أحظ برؤية طلعتكم البهية في السابق، فإني أحمد الله على محبتي إياكم والتفاتكم إليَّ في اللاحق.

والمرجوُّ من الله تعلى أن تكونوا شرحتم نظمنا: “دليل السالك” حسبما وعدتمونا به مساعدةً لطلبي ذلك منكم سابقا، ولست شاكًّا في أنه لا يمنعكم من إنجاز الوعد بشرحه إلا عدم الصحة والضعفُ مع الأشغال النافعة، قَوَّاكُم الله تعلى وأعانكم، وأصلح في الدارين شانَكم، ويسَّر لكم شرحه على المراد، حتى ينتفع به في هذه الديار وتلك كثيرٌ من العباد، وحتى يكون باعثا على تقديم الموطإ على غيره من كتب الحديث كما هو الحق وإن تتابع المتأخرون على اختيار ابنِ الصلاح ومن تبعه كابن حجر العسقلاني لتفضيل الصحيحين عليه، وكأنهم لم يطلعوا على رجوع الحافظ ابن حجر عن ذلك في نُكَتِه على مقدمة ابن الصلاح حيث ساوى بين صحيح البخاري وموطإ مالك دون فرق بينهما. ولم يتأملوا الأدلة التي جمعناها في دليل السالك وغيره، وهي لا تخفى على أهل الذوق والإنصاف.

وإذا كتبتم عليه وبقيت مواضع منه مبيَّضةً حيث لم تجدوا الكتب المأخوذة منها في بلدكم فأرسلوه لي فإني أضع نقول تلك المواضع في محالها بلفظها، وأسعى إن شاء الله في طبع شرحكم هذا حتى يطبع. والمقصود أن يكون حَليا له وبركة تعود عليه. وقد كتبت على جميعه هوامش كالشرح، لكني لا زلت لم أمزجها به حتى أعرف هل شرحتموه أم لا، والمرجو شرحكم له.
وأسلم على أخيكم الأبر صاحب الأنوار وأبنائكم البررة الأخيار وسائر أقاربكم وتلاميذكم زاد الله في مددكم وأسراركم، وعمنا بنفحات أنواركم، حفظكم الله وأنجالَكم، وأسعدكم في الدارين بما هو أنجَى لكم. كتبه في 13 شعبان سنة 1341 محمد حبيب الله بن مايابى وفقه الله آمين». انتهى .[[13]]

وهذه رسالة أخرى كتبها الشيخ محمد حبيب الله قبل وفاة الشيخ سيديَ بابَه بأشهر:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد ربه محمد حبيب الله بن سيدي عبدالله بن مايابى إلى أستاذ المشايخ، ذي المجد الباذخ، والفضل الراسخ، من صدَق فيه قول الشاعر الذائقِ الماهر:
تجاوزَ قَدْرَ المدْحِ حتى كأنهُ–بأحسنِ ما يُثنَى عليه يُساءُ
سلامُ مُحِبٍّ مُخلِصِ الوداد، مُستمِدٍّ من فتوحكم وأنواركم أكملَ الاستمداد. وإني مُسَلِّمٌ غايةَ السلام التام على أنجالكم السادة الأفاضل الكرام، وأخبركم بأني ما تركتُ الدعاء لكم بالختم بالإيمان واجتماعِنا على سُرُر متقابلين في غُرَف الجِنان. وإني دعوتُ لكم بكل مُراد في هذه السنة في وسط بيت الله الحرام، وفي زمزمَ والمقام، وعلى الصفا والمروة وفي عرفة والمشعر الحرام. والمرجوُّ من جَنابكم العالي وفيضكم المتوالي أن لا تنسوني من صالح أدعيتكم في خلواتكم وجَلواتكم. وإن كنتم كتبتم شرحا أو بعضه على نظمي دليل السالك، فبشرونا بمكتوب فيه بيانُ ذلك، والله تعلى هو المرجو لما هنا وما هنالك. هذا وقد أرسلت لكم مرتين هذه القصيدة التي هي شِعْرُ متشاعر لا يقابَل بشِعْر خِنذيذٍ ماهِرٍ، ولم أفهم من أحد ممن كتب لي من جهتكم وصولَها لكم إلى الآن وحتى الآن. ولما كان المقصود من إرسالها إظهار إخلاص المحبة لكم طبقا للواقع، كرَّرتُ إرسالها ثلاثَ مرات لعلها في المرتين لم تصِل.

ويسلم عليكم أخونا العلامةُ الشيخ محمد الخضر، حفظه الله، وقد أرسل لكم مكتوبا في السنة الماضية مع مَكاتبَ مني، ولم ندْرِ هل وصل ذلك أيضا أم لم يصِل. هذا وإنه قد طُبع بأرض الهند المستدرَك للحاكم، وبهامشِه مختصر الحافظ الذهَبي له وتعقُّبُه عليه في بعض المواضع وجاء لمكة منه نحوُ الرُّبُع، فإن تمَّ وجاء هنا اشتريتُه وأرسلتُه لكم، وهو كتابٌ عجيبٌ، من طالعَه يطَّلع على أن الصحيحين تركا من الصحيح كثيرا مُهِمًّا، ويطَّلِع على أنه لم يتساهل غالبا، عكسَ ما قاله العراقي وغيره، بل هو كما سمَّوْه الحاكمَ حاكمٌ، وكثيرا ما يسلِّم الذهبيُّ كلامَه بقوله: صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه. والسلام على سيادتكم بدْءا وختْما. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين إلى يوم الدين. كتبه في وقت استعجالٍ غايةً انسلاخَ ذي الحِجة سنة 1341. محمد حبيب الله بن سيدي عبدالله بن مايابى». انتهى[[14]] .

هذا مع العلم أن ما دار بين أبناء مايابى الجكنيين والشيخِ سيديَ بابَه من تبادُل للمدائح والهدايا وحسن الظن والتبجيل، لا يستغربه مَن اطلع على ما سبقه من مدح الشيخ سيديَ بابَه لعموم الجكنيين وخصوصهم؛ وبيتُه الجامعُ فى مدحهم مشهورٌ، وقد عدَّه بعضُ العارفين بالشعر قصيدةً كاملة لبلاغته وحسن تأتِّيه وجمْعِه المعانيَ الكثيرة:
عِيدُ الوفود لدى اللَّأْواءِ جَاكَانُ

وليس ذاك حديثَ العهد بل كانوا

ولم يزَل علماء الجكنيين وأعيانُهم على ذلك. وقد كتب العلامة والقائد الجكنىّ المرابط ابن أحمد زيدان[[15]]url:#_ftn15 رسالة طويلة نسبيا إلى الشيخ سيديَ بابَه يقول فيها: «موجبُه أني جعلته (يعني الشيخ سيديَ بابَه) أبًا متى جعلتُه». ثم يذكر فيها محبة قبيلة تجكانت للشيخ سيديَ بابَه وتقديرَهم له ومكانتَه العظيمة عندهم. ويضيف قائلا: «ولم يُخيِّب هو لهم رجاءً، بل مدحَهم في صدر الناس، وكان يوصي لصغيرهم إذا قدم عليه ويرحَم كبيرهم إذا حلَّ به ويتعهد نصرهم». ويختم المرابط رسالته قائلا: «فمَقامُك عندنا فخرٌ وحصنٌ وصدرُك فينا ذِكرٌ حسنٌ ودِينُك عندنا وعْظٌ وأمْنٌ. والسلام كما بدأ يعود».[[16]]

وقد تأثر تلاميذ المرابط وتلاميذ تلاميذه برأيه هذا ونهجه، حتى إن العالم الجليل المتفنن محمد بن البخاري السباعي، الذي تصدّر على يد محمد المصطفى ابن اعلي امبطالب، أحد كبار المتخرجين على يد المرابط، أثنى مرةً على الشيخ سيديَ بابَه، فردَّ عليه أحد الحاضرين منتقدا الشيخ سيديَ بابَه وناسبا إليه مآخذ شنيعة، فقال له ابن البخاري: «إذا كان الشيخ سيديَ بابَه قد قال بذلك، فاعلم أن الشريعة تقول به!»[[17]] .

وقد أورد العلامةُ المؤرخ هارون بن الشيخ سيديَ في موسوعته “كتاب الأخبار” (الجزء المتعلق بتجكانت) أن المرابط بن أحمد زيدان بعث إلى الشيخ سيديَ بابَه الفتى النبِهَ محمد بن سيدي الرمظاني، الذي أصبح فيما بعد شيخا صوفيا، يلتمس منه رأيه الفقهي في نازلة محلية كثر الخلاف بشأنها في ناحيتهم. فاستجاب له الشيخ سيديَ بابَه بفتوى راقت للمرابط وأطربتْه، فصار يقول: “لو كان عمري يسمح لي بالرقص لفعلت ذلك طربا لما وردني من هذا الشيخ”. كما يذكر الشيخ هارون أن الرسول إلى الشيخ سيديَ بابَه، محمد بن سيدي، قال مرة في حضرته الجكنية إن العلم، كما يقال، كان جكنيا قبل أن يولد هذا الرجل، يعني الشيخ سيدي بابه، وأنه هو نفسه عاقد العزم على الارتحال إليه ليتعلم عليه، غير أنه خبر وفاة الشيخ سيديَ بابه جاءه قبل أن يرحل.

أما الإمام المفسر العلامةُ الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار، صاحبُ أضواء البيان، المشهورُ فى بلادنا بآبَّه ولد اخْطورْ، فكان إعجابه بالشيخ سيديَ بابَه معروفا، وقد وقف على قبره في البعلاتيه بأبى تلميت عام 1386هـ (1966م)، وقال: «لله درُّك ما أحظاك بالسُّنّة حَيًّا وميتًا!». ولفظُه باللهجة الحسانية: «مخْ لمَّكْ ما اعِقْدَكْ في السنّة حيّْ أميِّت!» يشير إلى أنه لم يُبْنَ على قبره مشهد ولا مزار. وقال إن تلك المقبرة ذكَّرَتْه يوم رآها بمقبرة البقيع. وذلك لما كانت تتسم به يومئذ من بساطة وتواضع.

العلامة محمد الخضر ابن مايابى

يقول الشيخ محمد حبيب الله في اثنتين من رسائله التي وصلت الشيخ سيديَ بابَه: «يسلم عليكم أخونا العلامة محمد الخضر». وذكر في إحداهما أنه (أيْ محمد الخضر) أرسل له رسالة، ولم يدر هو الآخر أوصلت إلى الشيخ سيديَ بابَه أم لم تصل؟
ومن ورع الشيخ محمد الخضر أنه أرسل من المغرب إلى الشيخ سيديَ بابَه يطلب منه أن يسمح له ما كان صدر منه تجاهه من اتهامات ومآخذ على فتاواه وموقفه المهادن للفرنسيين. ذلك بأن نظرته للأمور قد تغيرت بعد اطلاعه على جانب من أحوال الأمة مشرقا ومغربا، ورأى بعينيه إبادة الفرنسيين للجيش المغربي قرب مدينة فاس.

وهذا التراجع مما يُعرِض عنه أكثر المتحدثين فى حوارات نوفمبر جهلا أو تجاهلا، بينما تقتضي الأمانة العلمية والتاريخية والفكرية استكمال آراء العلماء والأبطال وغيرهم من الشخصيات التي بتناولونها في طاولاتهم. خصوصا إذا كان المرءُ عالما، لأن العالمَ إنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من أقواله، كما يقول الأصوليون فى مبحث ناسخ السنة ومنسوخها. فما استقرّ عليه رأيه، وترجَّح لديه مما يعارض أقواله السابقة، فهو مذهبُه وموقفه الحقيقيّ الذى ينبغي أن ينسب إليه. وإنما يُذكر الأول من باب الأمانة والتاريخ، أو إذا كان تاريخ أحدهما أو كليهما مجهولا.

ونحن فى هذه الحال نعرف يقينا أن تراجع هؤلاء الأجلاء عن مخالفة الشيخ سيديَ بابَه متأخر عن مواقفهم المخالفة له. فما الجواب عن هذا الإعراض المتعمد والتجاهل المقصود، أو الجهل بحقيقة موضوع يتناوله المتحدث أمام السامعين؟

حدثني العلامة الشيخ عبد الله ابن بَيَّه في قَدمته الأخيرة إلى نُواكشوط من أرض الحجاز يوم 7 يناير المنصرم من هذا العام 2015م، قال: «سمعت شيخنا (يعني والدَه الشيخ المحفوظ) يقول: إن محمد الخضر بن مايابى[[18]] حضر معركة عظيمة بين الجيش الفرنسي والجيش المغربي بقيادة السلطان مولاي عبدالعزيز، الذي كان يقول لمحمد الخضر: “ادع الله يا شيخ كلما سمع أصوات المدافع الهائلة”. ولما انتهت المعركة بمقتلة عظيمة في صفوف الجيش المغربي، هال ذلك محمد الخضر لما رأى من سفك دماء المسلمين، ثم أرسل مع محمْد أحِيدْ بنِ مَحَمّْ التركزي رسالةً إلى الشيخ سيديَ بابَه يطلب منه فيها أن يسمح له ما كان صدر منه تجاهه».

ويضيف الشيخ عبد الله: «كان محمْد أحِيدْ هذا صديقا لشيخنا (الشيخ المحفوظ) كثيرَ الذِّكر له مشهورا بالعقل والتجربة والشعر الحساني، وقد عميَ في آخر عمره. وكان تلميذا للشيخ ماء العينين، فلما عاد إلى موريتانيا ذهب إلى ابن أخيه الشيخ التراد في الحوض، فكان كثير التردد بين الشيخين: التراد والمحفوظ.

ذهب محمْد أحِيد بنُ مَحَمّْ التركزي مرة إلى أهله في البراكنة حيث وَفَد في وَفْد من أهاليها إلى الشيخ سيديَ بابَه في ضائقة ضاقت بإحدى المجموعات هناك، فكانت مفاجأتُه أن التفت إليه الشيخ سيديَ بابَه وقال له: “أين الرسالة التي أرسلها لي معك محمد الخضر ابن مايابى؟” فردَّ مُحمْد أحِيد قائلا: “الرسالة ضاعت عليَّ، لكني أتذكر فحواها: يسلم عليك محمد الخضر ويطلب منك أن تسمح له ما كان بدر منه تجاهك”. فأجابه الشيخ سيديَ بابَه قائلا: “لم يَبِتْ ليلة واحدة إلا وهو في حِلٍّ مني، لكنْ حمدًا لله على اطلاعه على ما كان ينقصه الاطلاع عليه”. بالحسانية: “الحمد لله اللِّي زالْ عَنُّ لِغْبَا». وختم الشيخ عبدالله ولد بَيَّه كلامه قائلا: «أنا لا أكتم عن أحد استصوابي لموقف الشيخ سيديَ بابَه من الاستعمار، وكذلك كان الوالد – يعنى الشيخ المحفوظ – الذي لم يكن يعدِل بالشيخ سيديَ بابَه أحدا».[[19]]

خاتمة

أوْرَدت هذه الروايات هنا بطولها لأهميتها، ولما يتمتع به أصحابها من مصداقية في هذا المجتمع الذي ننتمي إليه جميعا. فهل من المستساغ أن يكون عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم، المعروف بعلمه وورعه ودرايته بأحوال المجتمع، خصوصا أهالي إنشيري والترارزة وآدرارْ وتيرس، قد تعمَّد من غير داع يلجئ إلى ذلك تصويبَ فتوى خاطئة وإبطالَ هجرته إلى الله والتخلفَ عن الجهاد بنفسه وأبنائه وحضرته، بعد أن تجاوز التسعين؟

هل يتصور عاقلٌ أن يكون قارئ ومحدث وفقيه من حجم محمد حبيب الله بن مايابى، قد وصف مِن بيت الله الحرام مَن يعتقد فيه العمالة أو الكفر أو النفاق بعالم العلماء وولي الأولياء وذكي الأذكياء وأديب الأدباء وصوفي الفقهاء وأقرإ القراء وأبلغ الشعراء فائق النظراء بل عديم الشكل في الأحياء الجامع بين الشريعة والحقيقة، مَن له في كل فن وكلِّ مكرُمة أعزُّ طريقة، مركزِ دائرة المعارف والعلوم، الجامع بين علم الحقائق وعلم الرُّسوم، الأستاذِ العالم الكبير المحدث الكامل الولي العارف ذي الفضائل الجمة والفواضل الشيخ سيديَ…»؟

وقد تم التركيز في هذه الحلقة على علماء معيَّنِين كابن حبت وابنيْ مايابى وعبدالقادر بن محمد بن محمد سالم وغيرهم من الأعيان، لأنهم قد خالفوا الشيخ سيديَ بابَه أول الأمر في موقفه من نازلة الاستعمار ثم وافقوه بعدُ. وعلى كل حال، فإن مكانتهم العلمية والدينية في المجتمع ودرايتَهم التامة بموضوع هذه السلسلة معلومة لا يجهلها أحد.

وإلا فمن المعلوم أن الشيخ سيديَ بابَه مُمَدَّحٌ كثيرُ المدائح جدا، خصوصا من قِبل فطاحلة العلماء المعاصرين له، وتكاد مدائحه ومراثيه تشَكّل ديوانا من أعظم دواوين الشعر العربىّ في المديح والرثاء، ناهيك عن الحساني. فقد مدحه جلة العلماء والأدباء من كل القبائل والجهات من أمثال صديقه وخليله محمد فال بن بابه بن أحمد بيبه العلوي والشيخ محمدُّ بن حنبل الحسنىّ والشيخ محمد أحمد بن الرباني التندغىّ والشيخ أحمدُّ بمبا البكِّي وابنه الشيخ محمد المصطفى ومحمدُّ النانة بن المعلَّى الحسنىّ وأحمد بن الأمين أبي الدين بن عبدالرحمن بن المختار بن حبيب الجكني وأحمد ابن أحمد بن سيد أمين الشقروي وأحمد بن السالم بن محمود وأحمد بن البشير الغلاوي وأحمد بن محمد الإدامي اليعقوبي وأحمد بن حبيب الله بن الفاضل وأحمد بن محمود بن محمد محمود بن فتى والبشير بن عبدالله بن امباريكي والدِّى ابن المصطفى بن سيد الشافعي التندغي والحسن بن محمد بن أبنو ومحمذ فال ابن محمد مولود المبارَكيِّ المشهور بالدَّدَوْ والمختار السالم بن بعبد والمختار بن أحمد بن محمد بن احميد والمختار بن المصطفى بن أحمد مولود الجكني والمختار بن المعلَّى والمختار بن حنبل وحامد بن بدح وحبيب الله بن أحمد بن حبيب الله الحسني وحبيب الله بن محمد بن محمود وسعيد بن عبد الله ومحمد محمود بن اكرامه المجلسىّ الملقب دحمود وسيدي محمد بن المختار وسيدي محمد بن المختار بن المعالي اليعقوبييْن وسيدي بن محمد جد وعبد الله بن محمد بن ءابل وعبد الودود بن حميه الأبيارىّ، ولمهابه بن الطالب إميجن الأجملي، ومحمد المصطفى بن الطالب المسومىّ، ومحمد بن ءابَّوّ ومحمد بن البشير بن سيد أحمد بن الأمين أحمد ومحمد بن حرمه بن أحمد بابه ومحمد بن سيد أحمد ومحمد بن سيد محود بن السالم ومحمد بن محمد بن الحصن ومحمد بن محمد فال بن أحمد بن عباس ومحمد بن يداده الحسنىّ، ومحمد عبد الرحمن بن أبي بكر بن فتى ومحمد فال بن عينينا الحسنىّ ومحمد الأمين بن الشيخ المعلوم البوصادي، ومحمد محمود بن أحمد الواقف المالكي، ومحمد محمود ومحمد عبد الله ابني أحمذيَّه الحسنيين، ومحمد محمود بن الحسن ومحمد مختار بن عبد العزيز ومحمد مولود بن أحمد ومحمذ فال بن أحمد محمود بن أحمد ومحمذ فال بن سيدي مولود وامحمد بن محمد رارَه ومحمد بن الكوري بن محمد خويا المجلسي ومحمد عبد الرحمن ولد المبارك ولد اليمين القناني… إلى آخر القائمة الطويلة؛ وذلك منذ صغره إلى ما بعد وفاته بعقود؛ وربما يكون لهذه المدائح وأصحابها ذكر في مناسبات أخرى إن شاء الله تعلى. ومن الملاحظ أن جل المذكورين من كبار العلماء المعروفين والشعراء المرموقين لذلك العهد. وإذا أتيت إلى المراثى فالأمر أعجب. أما الرسائل فهي أعمُّ وأغزر.

وقد كُتبت هذه الأسماء هنا على نحو ما وُجدت بخطوط أصحابها، الذين يأتون بالاسم تارة دون ذكر القبيلة وتارة يذكرون القبيلة. وبالله التوفيق.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى