خطاب لمثقفين هوامش لم تخرجهم المدرسة / محمد الأمين ولد أبتي
بين تونس و طرابلس و نواكشوط :
سادتي قراء القرن الحادي و العشرين، ممن أدمنوا ساندويشات الكتابة، و قرروا مقاطعة المدرسة و المكتبة، رويدكم قليلا من الصبر معنا. لكم أكتب و لكم أتعهد بالاختصار ما لم يكن ذلك مخلا. قربوا و ستجدون أستاذا لن يكلفكم “الوقوف و التبجيل”، و لا الجلوس على المقاعد المملة للمدرسة. تصفحوا ما أكتبه لكم و ستقرؤون مؤلفا ديمقراطيا ضعيف الإيمان ب”إمبراطورية المؤلفين”.
أنا اليوم أخرج لكم من “مخازن النسيان” كنزا طمرته فيها منذ 22 عاما. لقد وضعت اللمسات الأخيرة على المخطوط في تونس صيف عام 1997، تحت عنوان “أفول الدولة الوطنية – قراءة في التحولات الإيديولوجية و السياسية الدولية في تسعينيات القرن العشرين”. و كان يفترض بهذا العمل أن يجد طريقه للنشر في طرابلس بالتنسيق مع الدكتور الفيلسوف عبد الله عثمان من ليبيا، لكن الرياح لم تجر بما اشتهته السفن، و لم تتح الظروف أن نتقابل وفقا لما كان مرتبا. و لم يكن حماسي شخصيا لنشر هذه الأفكار أيامها كبيرا، و لم يكن المناخ السياسي – لا في موريتانيا و لا في ليبيا أو تونس – مشجعا على هذا النوع من المغامرات الفكرية، فكان ما كان من حكم ب”الحفظ بدون نشر”.
مع فوكو ضد استبداد المؤلف :
عند هذه النقطة سنقف مع “أستاذنا” – و لو أجاز لي فقهاؤكم لقلت شيخنا – الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل فوكو، سائرا على خطى – فقيهي أنا – الفقيه و الفيلسوف أبي الوليد ابن رشد، في تلقيه للحكمة و العلم عن شيخه أرسطو، “المعلم الأول”. و هذا اللقب إنما أطلقه على أرسطو المسلمون، مقارنة بلقب “المعلم الثاني” الذي خصوا به أبا نصر الفارابي. و لا شك أن الكثير منكم ممن قرأوا كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال” لابن رشد، قد اطلعوا على رده على الأقوام الذين حرموا الفلسفة – التي كانت في زمنه الإطار العام للفكر و العلم – مبررين حكمهم بأن أقواما ضلوا بعد دراستهم لها. قال لهم : إذن عليكم تحريم شرب الماء ما دام في القوم من شربوا الماء فشرقوا و ماتوا.
عندما حل قرار النشر محل قرار الحفظ – لنص كتبت بعض فقراته منذ 29 عاما و يعود أحدثها إلى 22 عاما – شعرت بالحاجة إلى مراجعة الكتاب و وضع تمهيد جديد يربطه بالسياق الذي كتب فيه، لكن “ميشيل فوكو” كان بالمرصاد، لتحذيري من هذا النوع من التآمر على القراء و عدم “النزاهة” معهم، و هذا اللون من “الاستبداد” الفكري الذي يمارسه الكثير من المؤلفين.
“محل الشاهد” في كلام “ميشيل فوكو” نجده في تمهيد كتابه : “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”. كان ذلك عام 1961 عندما طلبوا من الرجل كتابة تمهيد للكتاب الذي كان أطروحته للدكتوراه، التي نوقشت 7 سنوات قبل ذلك، فكتب ما يلي :
“طلب مني أن أكتب تمهيدا جديدا لهذا الكتاب الذي أصبح الآن قديما، و أعترف بأن هذا الأمر لا يروقني. ذلك أنني مهما فعلت، فإنني سأبحث له عن مبررات في شكله الحالي، أو سأحاول إعادة كتابته استنادا إلى ما يحدث الآن. فهل هذا الأمر ممكن أم لا، مستحب أم لا ؟ الثابت أنني لن أكون نزيها. و في جميع الحالات، فإنه لن يكون متناسبا مع ما يجب أن يكون عليه تحفظ المؤلف تجاه كتاب هو كاتبه.
يخرج كتاب إلى الوجود، إنه حدث بسيط، شيء صغير يوضع للتداول. حينها سيدخل ضمن لعبة دائمة للتكرار، ستتناسل حوله و بعيدا عنه كتب تشبهه، و ستمنحه كل قراءة لفترة زمنية ما جسدا وحيدا غير قابل للتحديد. و ستعرف أجزاء منه طريقها إلى التداول، و من خلالها سيستمد قيمته، بل قد يختصر الكتاب كله في هذه الأجزاء، و قد يجد فيها ملاذه الأخير. و ستمنحه الشروح وجوها كثيرة، إنها خطابات أخرى يجب أن يظهر من خلالها باعتباره الصورة الأصلية، و فيها سيعترف بما رفض قوله، و يتخلص علنا من الصورة التي يدعي أنها أصله. إن إعادة الإصدار في زمن غير زمن الكتابة الأولى، و في مكان مغاير، يعد هو الآخر نظيرا من نظرائه : فلا هو خديعة كاملة، و لا هو هوية أصلية تامة.
و لن يستطيع الذي يكتب كتابا مقاومة الإغراء في بسط سلطته على كل هذه الإنبهارات المزيفة، و يحدد لها شكلا و يلصق بها هوية، و يفرض عليها ماركة تمنحها جميعها قيمة ثابتة. “أنا المؤلف، انظروا إلى وجهي أو صورتي، وجه و صورة يجب أن تتشابه معهما كل تلك الصور المضاعفة التي سيتم تداولها باعتبارها أشياء في ملكيتي، أما تلك التي ستبتعد عنهما فلن تكون لها أية قيمة، فقيمتها تقاس بدرجة تطابقها معهما. أنا الاسم، أنا القانون، و السر و ميزان كل النظائر”.
بهذه الطريقة يكتب التمهيد، الفعل الأول الذي من خلاله يبدأ تأسيس مملكة الكاتب، إنه الإعلان عن الاستبداد : يجب أن يكون قصدي هو نبراسكم، عليكم تكييف قراءتكم و تحاليلكم و انتقاداتكم مع ما كنت أود فعله، تأملوا تواضعي : عندما أتكلم عن حدود عملي، فإنني أنوي التحكم في حريتكم، و إذا أعلنت عن إحساسي بأنني لم أكن على مستوى ما كان مطلوبا مني، فإن غايتي من ذلك حرمانكم من التمتع بامتياز الاعتراض على حق كتابي بالتمتع باستيهام كتاب آخر قريب منه، و لكنه أحسن حالا مما هو عليه. أنا عاهل الأشياء التي قلتها و احتفظ بسلطة قصديتي، و سلطة المعنى الذي أردت إعطاءها إياه.
أرغب في أن يكون الكتاب، على الأقل عند الذي كتبه، مجرد جمل هي أساس بنائه، ألا ينتشر في ظلاله الأولى التي هي تمهيد يدعي لنفسه القدرة على بسط سلطته على كل الكتب التي ستولد استنادا إلى ما قدمه هو. أريد من هذا الشيء – الحدث، الذي لا يكاد يرى بين أحداث أخرى، أن ينسخ من جديد و أن يتشظى و يتكرر و يحاكى و ينشطر و يختفي في النهاية دون أن تكون للذي أنتجه فرصة الإعلان عن نفسه ملكا للكتاب، أريده أن يفرض ما كان يود قوله، أو قوله فقط ما يجب أن يكون. و باختصار أود ألا يعطي الكتاب لنفسه صفة النص، و هي الصفة التي ستعرف البيداغوجيا أو النقد كيف يجعلان من الكتاب يتحرك ضمن مداراته، بل يجب أن تكون له الجرأة في الظهور إلى الوجود باعتباره خطابا : معركة و سلاحا في الوقت ذاته، إستراتيجية و هزة، صراعا و جائزة أو جرحا، صدفة أو آثارا، لقاء غير منتظم و مشهدا معادا.
و لهذا السبب، فإنني لم أجب مقابل الطلب بكتابة تمهيد جديد لهذه الطبعة الجديدة سوى بشيء واحد : يجب إذن حذف التمهيد القديم. تلك هي النزاهة. يجب ألا نبرر هذا الكتاب القديم و لا إعادة كتابته، فسلسلة الأحداث التي ينتمي إليها و التي تشكل قانونه الحقيقي لم تنته بعد. أما ما جد من أحداث، فيجب ألا نتظاهر بالبحث عنها فيه باعتباره خزانا سريا، و ثروة لم يرها أحد، فهي ليست مصنوعة سوى من الأشياء التي قيلت عنه و الأحداث التي تم تلقيه داخلها.
– و لكن ها انتم كتبتم التمهيد.
– هو كذلك، و لكنه قصير”
انظر : تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي – ميشيل فوكو – ترجمة : سعيد بن كراد – الطبعة الأولى 2006 – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – الصفحات : 19 و 20.
على خطى فوكو قررت نشر العمل دون مراجعة و لا تعديل، و بنفس الصيغة التي أعد بها للنشر عام 1997. فقط بدل أخذ الوقت لطباعته و نشره كاملا بمعية واحدة من دور النشر، قررت أن أقوم بطباعته بنفسي و نشره للجمهور على حلقات أسبوعية، حي على الأولى منها.
تصدير و إهداء :
حقا إن الكتابة غدت في أيامنا ترفا مضحكا، و ليس السبب الرئيسي هيمنة السمعيات البصرية كما يزعمون، بل لأنه لم تبق في هذا العالم حقيقة واضحة، و لا عاطفة صادقة، يجد الناس الدافع و الوقت لسماعها، مثلما كان الحال أيام العصر الذهبي للفلسفة و الشعر.
لقد بددت أكاذيب الصحافة، و خداعات الساسة و الدبلوماسيين و ألاعيب و بهارج الإعلان التجاري، البقية القليلة من اليقين و الأمل التي كانت ما تزال حية لدى البشرية في العقود الأخيرة. و لم يصمد من الكتاب إلا أولئك الين خضعوا لشروط التجارة و ذلك بأن يكتبوا ما يستجيب لشروط التجارة و يلبي رغبات المنتجين و المستهلكين، و بالتالي : أن لا يكتبوا شيئا، مكتفين بعرض الأزياء و الأجساد العارية ما دامت وحدها تباع و تشترى في عصر موت الضمير و اليقين، أو إخراج الكتب المدرسية و الجامعية التي تشترى و تقرأ تحت ضغط الامتحانات و العمل المهني، لتنسى بعد ذلك مباشرة.
لكن هذا التفسير الباكي على زمان ولى، والغاضب الغيور على أصالة نسيت، و إبداعات إنسانية روحية عظيمة داسها العصر التكنولوجي المادي – هذا التفسير – لا يكفي لفهم أزمة الكتابة و التفكير في هذه الأيام. ثمة سبب هو الأعمق يرتبط بنوعية المعرفة المنتجة في علاقتها بالتوزيعة الاجتماعية العالمية في أيامنا، أي إلى التحول في طبيعة العلاقة ما بين الحقيقة و المثل و الجماهير أو السكان.
إن ثمة قطيعة حقيقية بين النخبة أو الطبقة الأولى التي تشمل أقل من خمس سكان العالم، وبين الأخماس الأربعة الباقية، فخطاب هذه النخبة – التي تملك وحدها زمام المبادرة في تكوين المعرفة و تشكيل الثقافة – يعيش مع طموحاتها و شكل وعيها التاريخي انفصالا كاملا عن واقع خطابات و طموحات و تاريخية فكر مجموع السكان.
في المواجهة تقف مجموعة قليلة من الكتاب – أطمح لأن أكون واحدا منهم – رافضة دفن الحقيقة و الضمير، و تكسير الأقلام، و إعلان العالم غابة أو معملا ينتهي تاريخه بعولمة ثقافة “هوليود” و “طوكيو”. ببساطة لأن قيم المعرفة و الفضيلة تمارس في كل الظروف على الإنسان سلطة تفوق سلطة أية لذة أو رغبة أو مصلحة، أو منتوج تقني، كائنة ما كانت.
و هذا الكتاب هدية مني إلى تلك الكثرة من السكان في العالم الذين يعيشون على هامش الثقافة المسيطرة عالميا، تماما كما يعيشون في هوامش مدن العالم، إنه جزء من الحركة التي تريد أن تعطي للجميع و لطموحات الجميع موقعا داخل الخطاب.
كتابي أهديه إلى عالم يقترب من العام 2000 و هو غارق في المطالب الفردية و الشخصية للأفراد و الدول، عالم لم يعد يفكر، بل يقاتل، يعمل، يغش، يتاجر، و يحلم كل الأحلام إلا الكبير منها. عالم تكاد تختفي فيه مساحة القلوب و العقول.
إنني أقدم هذه الكلمات لتتجاور مع كلمات أخرى كثيرة بدأ يرددها هنا و هناك المثقفون النخبويون، و الساسة اليقظون. يرددها كذلك الكثير من أولئك الهامشيين، الذين لشدة ما طحنتهم و سفرتهم الحروب الأهلية و المجاعات، و أزمات البطالة غدوا مثقفين حقيقيين أكثر نضجا من أولئك الذي خرجتهم المدرسة. لعل هذا المجموع من الخطابات أن يلعب دورا في فتح حوار عالمي سيكون التمهيد لقفزة نحن بأمس الحاجة إليها، بعيدا عن هذا الوضع العالمي الذي ظل يكرر ذاته منذ بداية القرن التاسع عشر، و الذي غدا عجوزا و قبيحا على نحو لا يحتمل.
حوار قد يكون المفتاح لبوابة فكر عالمي مستقبلي نراه الوسيلة الأكثر أهمية على طريق إخماد الحروب الأهلية المستمرة بدون سبب، و المجاعات، و أشكال التمايز الطبقي التي غدت تهدد أمن الجميع، و تمد “حرب الكل ضد الكل” بوقود لا ينفد.
و قبل أن أصحبكم في الرحلة عبر ما قد يتجاوز 300 صفحة في الكتاب لابد من كلمتي إهداء و شكر خاصتين :
– الإهداء هو إلى من لا أستطيع رد جميلها و هي التي أعطتني كل شيء دون أن تنتظر مني مقابلا. إلى والدتي زينب منت الشيخ محمد الأمين. إلى من لها علي دين ثقيل ومن راهنت علي رهانا صعبا منذ أن سمتني على والدها الشيخ محمد الأمين المكنى ب “الديمين”. ذلك العلم الصوفي الذي ووري الثرى في تومبكتو في طريق الحج و السير إلى الله، بعد أن فارق مضارب الأهل في “مكطع لحجار” في أربعينيات القرن الماضي ، و تحرر من المال و النشب، و حمل معه البنين و البنات على ظهور الإبل سالكا طريقا سلكها قبله الكثير من أعلام البلد، و صل الكثير منهم إلى الديار المقدسة و تقطعت السبل بالكثيرين منهم ليستقروا في مختلف مدن إفريقيا و العالم العربي. و كان هو و أبناؤه في تومكتو – حال أعلام شنقيط في السودان و مصر و غيرهما – منارة مشعة بالعلم و الشعر و التربية الصوفية للمريدين و لعامة المجتمع. لذكراه و لذكرى ابنته الوالدة أهدي هذا العمل، راجيا المولى العلي القدير أن يوفقني لتحقيق جزء من رهانها علي.
– و الشكر هو للأخ و ابن العم الدكتور محمد ولد محمد الحسن ولد أبتي، الذي استقبلني في شقته ب”حي المروج” بمدينة عبد الرحمن ابن خلدون و أبي القاسم الشابي تونس، في أغسطس 1997، أيام كان متفرغا للدراسات العليا بجامعة الزيتونة. و قد وفرت لي ضيافته و كرمه شرط التفرغ، الذي تحدث أرسطو عن ضرورته لسمو الفكر و الروح، في قوله : “الفلسفة وليدة الفراغ”. و لابد من التنويه إلى أن محمد ولد أبتي كتب لي بخطه الرائع هذا التصدير و مختلف عناوين العمل، و ما تزال تلك الخطوط جواهر ترصع المخطوطة إلى اليوم.
تونس – أغسطس 1997