الشامي… مدينة للبحوث و التطبيقات العلمية؟! /الولي ولد سيدي هيبه

في الصين الشعبية طبقت القيادة العليا سياسية “الوزن و المقياسين” الصارمة منذ عقود حتى تمكنت من الخروج ببلاد المليار و الثلاث مائة مليون نسمة من دائرة التخلف و سطوة الإقطاع و طموحات التيارات الرجعية إلى فضاء التقدم العلمي و المنافسة الاقتصادية من الإبرة إلى الصاروخ و من الجزر الصناعية إلى الفضاء المأهول. و بالطبع فقد اعتمدت عمليا هذه السياسة الفريدة على فتح المدن، المطلة على المحيط الهادئ كـ”شانغهاي” إلى “تيانجين” المحاذية للبحر الأصفر، على الاقتصاد العالمي و الشروع في تحويل التقنيات و كل أوجه التكنولوجيا الحديثة، و من ثم التأسيس فرفع قواعد البنية الاقتصادية في كل ولايات العمق بحسب مقدرات كل منها و في تكامل متقن و تجانس لعملية التنمية الشاملة.

و فيما يغط أهل هذه البلاد الليالي في سبات التخلف الشديد و يستيقظون على الخلافات السياسية العقيمة و معزوفة “الماضوية” الجامدة المقيدة و المراجعات الاجتماعية على غير ما هدى أو منهجية و هم يولون بناء صرح الوطن الدبر و يواجهون الجد بالهزل و يتحاورون بلغات بائسة توقفت تراكيبها اللفظية و دلالاتها على وقع عصور غابرة طمرتها لغة العلم المشرق الناصعة و العلوم الإنسانية البناءة، يتغامزون و يتلابزون في فضاءات الخشونة المتجاوزة؛ و فيما هم على تلك الحال تمخر أمم الدنيا من حولهم عباب بحور العلم و الإبداع و سمو النفس و ترفعها عن جهالات و اعتبارات القرون الماضية و ظلاميتها و تتنافس على استغلال المعارف للوصول بالإنسان فيها إلى قمة الرضا و منتهى العطاء.

هي أيضا حقيقة أخرى ماثلة أمام سكان هذه البلاد شاءوا أو تعمدوا رفض النظر إليها تجعلهم أمام تحديات تتعلق باستمرار كيانهم في عالم متحرك و متغير بالعلم و تطبيقاته و بالإبداع و تجلياته على أرض الواقع.

و قد أوحى هذا المنعرج إلى عديد دول العالم بحراك جديد نحو إفادة أممها من العلم و جعله بديلا للخلافات حول أمور وقفت طويلا حائلا أمامها و الرخاء رغم ما تمتلكه من موارد متنوعة محفوظة بكرا في أحضان كل طبيعتها و تضاريسها صحراوية كانت أم جبلية أم غابة أم أحراشا أم نهرية أم بحرية، فاتجهت إلى بناء مدن للعلم تؤوي جامعات بمستوى عال و مختبرات للتجارب العلمية و معاهد للهندسة و صروح بحثية تستقبل الالمعيين و المبدعين. و هي المدن التي نجحت و تحولت إلى مؤسسات و كيانات مستقلة في العديد من الدول النامية و لا حقا دولة من اللاحقين بالركب بعدما ظلت حكرا و في سرية تامة على الدول الغربية و اليابان. فبعد ما حذت الصين و من قبلها كوريا الجنوبية حذو الولايات المتحدة الأمريكية التي آوت مدينة “السيليكون فالي” العلمية، المخبرية في كل العلوم و على راسها علوم الحاسوب و تطبيقاته، قامت الهند بتشييد مركز تكنولوجي يضم أكثر من 1500 شركة تكنولوجية في مدينة “بـنغالور” و تقوم الاكوادور في أمريكا اللاتينية بتشييد مدينة مماثلة ستضم جامعات و معاهد من أحدث و أرفع طراز و مستوى و مماثلة في احتواء كل العلوم للتي سبقتها في العالم المتقدم و حتى ينهل من علومها و يستفيد مواطنوها و منها و يقام بناء الدولة العلمية الحديثة على أسس جديدة و الامثلة كثيرة في آسيا في دائرة دول النمور. و قريب منا تقوم السنغال بالتجربة ذاتها لتأطير طاقاتها العلمية و الاستفادة من مستوياتها البحثية العلمية و الإبداعية في شتى العلوم و هي التجربة التي بدأت تؤتي أكلها حيث التصنيع من القاعدة يعرف تطورا مضطردا بعقول و سواعد سنغالية محضة علاوة على عقولها من علماء و مهندسين و اقتصاديين التي تشارك عبر العالم في رسم مستقبل معرفي علمي لبلدهم.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

هو توجه عالمي نابع من قناعة حكام هذه الدول و مثقفيها و متعلميها و صناعييها و رجال أعمالها و سياسييها و فاعلي مجتمعها المدني، قناعة بأن العلم حصانة من التخلفين الحضاري و المادي حيث أنه شعاع يطرد بضوئه الوهاج جحافل ظلام الخرافة و يبدد قوى القهر النفسي و الجسدي. و هي أيضا القناعة التي تطلبت من أهلها نبذ جملة من “الكوابح” النفسية و العقبات الاجتماعية، و صرامة في تنفيذ المشروع بما أوتي أصحابها و الساعون إلى تجسيدها على أرض الواقع من الوسائل القائمة و لكن أيضا بما هو متوفر من خيرات البلد في استدراك واعي لضرورة تقنين استخراجه و استخدام جزء منه لقيام هذه الصروح التي من أهم أدوارها أنها ستذيب حتما جليد كل الاعتبارات المناقضة لمسيرة التنمية.

و في السعودية تشيد مدينة مماثلة لإعداد السعوديين لمواجهة المستقبل و تخرج طواقم من العلميين القادرين على توجيه دفة التنمية المتوازنة و المستقلة بكفاءات وطنية قادرة على دخول سوق المنافسة و ولوج فضاء التبادل.

و بينما تسير سياسات معظم بلدان العالم النامية في هذا الاتجاه، تظل بلدان أخرى غارقة إلى الودجين في ممارسات من زمن غابر و تُوَلي العلم و التنمية الدبرَ في غفلة لا تحمل من الأسماء و العلامات إلا ما يكون من القبلية و الطبقية و الصراعات العقيمة على السلطة في غياب تام للرؤى التنموية و الخطاب السياسي الموجه لبناء الدولة على أسس متطلبات الحداثة و العدالة و الديمقراطية.

و لأنه من المسلمات أن الوقت يظل أبدا في قبضة “الفعل الحميد” فإن التفكير في مثل هذه الخطوة وارد في بلد يمتلك كل مقومات التنمية و شتى مناحي أوجه العلم التطبيقي من المعادن و الطاقات و الثروات الطبيعية التي تشكل كلها مجالا خصبا للبحث و الإنتاج و التحويل و التصنيع و التطوير والمعالجة و غير ذلك من مجالات الاستغلال و الانتفاع و إثراء عملية التبادل في عالم القرية الواحدة. كما تمتلك البلاد لأجل ذلك ساحلا استراتيجيا متمثلا في موقعها على المحيط الأطلسي و تضاريس ملائمة لقيام مثل هذه المناطق العلمية و الاقتصادية و التجارية كما هو حال إنشاء منطقة نواذيبو الحرة.

و لو كان للفكرة أن تستحق مكانا من التفكير و حيزا من الإرادة الوطنية و حبا في البلد و تشبثا بمستقبله فلا بأس في تحويل مدينة الشامي الفتية ذات الموقع المتميز إلى فضاء مواتي لتجسيد هذه الفكرة إلى فضاء للأبحاث العلمية والتطبيقات التكنولوجية. و لن يطول الوقت في وضع الأسس لها حتى تلفت الانتباه و تغري بنجاعتها كل الصروح العلمية التي من حول العالم قد ضاق ببعضها المكان في بلدانها و تسعى إلى التمدد لكي لا ينكمش أو ينحسر عطاؤها، فتقبل على الشامي المتسعة الفضاء متعاونة و مستثمرة و مستعينة للمضي إلى المستقبل على ساحل رحب الأفق و مضمون العواقب المحمودة.

و هي الفكرة إن تجسدت صرفت حتما عن بعض إدمان التخلف و الانغماس المرضي و الأخذ، في كهوف العقليات السقيمة المنتنة، بدواعي التخلف في حمى نرجسية كاذبة و ادعائية بالالمعية جريئة و استعلائية هابطة و في غياهب ظلامية مغرقة في الخلافات التي ولت عهودها و بطلت مرتكزاتها. كما أنها ستؤمن حتما إدراكا جديدا بقيمة المقدرات التي حبا الله بها البلاد و أولها تلك الدفينة في عرض المحيط و التي في حيزها الترابي و من معادن متنوعة و مصادر متنوعة و هائلة للطاقة لتطبيقاتها العديدة.

فلماذا لا تفكر الدولة بمفهومها الشامل الجامع المانع، أي تلك التي تصغي إلى كل الأصوات المنادية بالنهوض بالبلد من كبوة التخلف و رفض الاستسلام لغياب الرؤية و ضعف الطموح، في تدارس مثل هذه المقترحات و الدفع باتجاه حصول تصورات عن قابلية تجسيدها على أرض الواقع.
و حتى لا تكون الفكرة من باب “الطوباوية” فلا شك أنها تتطلب تأملا كبيرا و إمعان نظر و دراسة و سبر و جمع للآراء و الرؤى و التصورات التي تشكل في مجملها أساس الاهتمام بها و تثمين جانب التفكير فيها. و هذا بالطبع ما هو مطلوب حتى يتجسد على أرض الواقع ما يكون من ضروري الاستعداد الذهني للنظر بعمق في مستحق التنمية و التحول في هذه البلاد الراكدة في بركة التخلف و حتى تتحرك أيضا آلية التطبيق العملية الميدانية لمتناول الأفكار. و مهما كان الوقت الذي تتطلبه هذه المرحلة طويلا إلا نتائجها هي التي ستبطل الحسرة عليه علما بأن ضياعه من قبلها كان أشد سلبية و أقوى نسفا لقواعد بناء الدولة و شموخها في وجه التحولات المتلاحقة.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى