هل فشل ما سُمي بالربيع العربي ؟

ـ1ـ

يخلص ‘لو رانس وايتهيد’ الباحث السياسي في جامعة اكسفورد في دراسته الصادرة هذه السنة: ” عن ‘ الربيع العربي’ : دمقرطة ومواسم أخرى مرتبطة” إلى ثلاث نقاط. أولها أنّ المنطقة العربية لم تشهد إلى الآن ظهور دول نافذة يمكن ان تمثل قاطرة للدمقرطة. فالدول العربية الأكثر نفوذاً الآن ما تزال هي الأكثر تمنعا على الدمقرطة والأكثر عداء لها. ‘وايتهيد’ يقارن هنا المنطقة العربية بمناطق اخرى شهدتْ مسلسل دمقرطة حديثة العهد مثل دول جنوب وشرق أوربا ودول أمريكا اللاتينية ودول جنوب شرق آسيا. ويحاول أن يُثبتَ أن كلّ هذه المناطق عَرفتْ بروز دول ديمقراطية نافذة هي التي مثلتْ القاطرة الديمقراطية بالنسبة للدول المجاورة لها. النقطة الثانية هي أن الخوف التقليدي مما – وممن- يمكن ان تحمله – تحملهم – الانتخابات إلى السلطة لم يزد مع الربيع العربي إلا قوة كعامل من بين عوامل أخرى تجعل التغيير الديمقراطي في العالم العربي لا يتمتّع – عكسا لمناطق أخرى – بأي دعم دولي ولا يتمتع بشكل خاص بأي دعم أوربي أو غربي. بل يواجه بالأساس تحركا دوليا مضادا. أما النقطة الثالثة فهي أن ما عُرف بالربيع العربي قد تمّ فعلا تقويضه مرحليا في المواسم التي تلتْه إلا أن العودة الى ما قبله أصبحتْ مستحيلة، فهناك مسبقات وتابوهات قد انهارت وهناك أجيال جديدة كوّنتْ وعيا متصاعدا بالقوة التي تتمتع بها وأدركتْ حجم ما منتْحه وتمنحه لها التحولات الإعلامية والتقنية الراهنة.

ـ2ـ

من البديهي أن الدول العربية كدول مابعد استعمارية تعاني من الثنائية التقليدية : تغول السلطة وهشاشة الدولة. بل إنها تبدو الأكثر معاناة من هذه الثنائية من بين كل الدول الموروثة عن الاستعمار. وهي هشاشة بنيوية تجد بمقتضاها هذه الدول عجزا وجوديا في التمتع بشرعية مقْنِـعة غير شرعية الأمر الواقع. وبالتالي فهي من جهة تعاني من صعوبة فرض ذاتها بوسائل غير العنف البوليسي. وهي منْ جهة ثانية تميل الى التماهي مع نظامها الحاكم، وهو أمر وصل ذروته في الدول العربية شبه الستالينية التي اتّضح أنه يصعب إسقاط الأنظمة الحاكمة فيها دون إسقاطها هي. أي أنها بلدان قد تماهتْ فيها الدول مع الأنظمة القائمة أو كادتْ. وبالتالي قدْ فقدتْ فيها المؤسسات الدولتية جزءا كبيرا مما يفترض أنه جوهرها العمومي.

من هنا ظلّتْ الاستراتيجية الدعائية القديمة تلحّ على أن الخيار في العالم العربي ليس بين الاستبداد الأوتوقراطي والدمقرطة، ولكن بين الاستبداد القائم والاستبداد البديل. أما بعد ثورات “الربيع”، خصوصا بعد ما حدث في ليبيا وسوريا، فقد تشكلتْ استراتيجية دعائية نصف جديدة تنبني على أن الخيار المتاح هو فقط بين استبداد الأمن و استبداد الفوضى. والأمثلة معروفة : فوضى التفكك الطائفي (سوريا، البحرين) أو التفكك القبلي الجهوي (ليبيا) أو هما معا (اليمن). أي أنها تستعيد وتستثمر على مدى أوسع مفردات التعبئة التي روجَ لها بخصوص الجزائر خلال أزمة التسعينات. وإذا كانتْ الجزائر قد خرجتْ وإن بصعوبة بالغة وبثمن إنساني واقتصادي وسياسي باهظ من أزمة التسعينات فإنّ أحد العومل التي ساعدتْها هي غياب التعدد الطائفي (باستثناءات غير مؤثرة جديا) والنجاح النسبي في احتواء التعدد الثقافي والجهوي.

ـ3ـ

تهتمّ دراسة أعدّتْها منذ سنة الوكالة السويدية للبحث في قضايا الدفاع، بحالتي المغرب والجزائر كاستثنائين لا فتين في خريطة التحولات التي حملتْها ثورات ‘الربيع’. فقد عرف هذان البلدان باكرا تأثير أحداث تونس بحكم عوامل القرب الجغرافي والاجتماعي والثقافي إلخ ولكن أيضا بحكم معطيات سياسية واجتماعية متعددة أحدها وجود هوامش حرية معتبرة نسبيا في البلدين. وبالرغم من أن نظامي البلدين ظهرا أكثر حنكة في محاولتهما تفادي الصدام الشامل مع المظاهرات الشبابية واستباقها عبر بعض “التنازلات” الاحتوائية. وهي “تنازلات” أخذتْ أساسا طابعا اقتصاديا بالنسبة للجزائر التي تمتلك قدرات ريعية كبيرة بينما أخذتْ طابعا سياسيا بالنسبة للمغرب الذي لا يتلك امكانيات اقتصادية مماثلة وله خبرة في تعويض الاقتصاد بالسياسة. ولكن اتضح بسرعة أن الأمر قد لا يتعلق بإجراءات طويلة النفس. السؤال بالنسبة لمعدّ الدراسة (الباحث مايكل أريكسون)، ليس لماذا لم يغتنم البلدان الفرصة لإجراء تغييرات أكثر جدية وهيكلية ولكن لماذا كان ممكنا لهما أن يتفاديا نسبيا دينامية الربيع ـ إيجابا وسلبا ـ بهذه الطريقة؟

ـ4ـ

تحاول الدراسة السويدية أن تردّ على السؤال الأخير عبر التركيز أولا على حالة التنافس الدائم بين البلدين. فهو تنافس خلقَ وضعية من التقوقع الأمني لديهما معا. وكما لاحظتْ دراسات متعددة أخرى فإن حماية المنظومة القائمة و”النخبة” العتيقة الموجَّهة سواء في الجزائر أو في المغرب تجد سندها في عقيدة ضرورة تأبيد التحدي الموجّه للدولة الجارة (أي الذي توجّهُه مثلا الجزائر للمغرب و العكس) كتأبيد لـ “شرعية” الدولة العميقة. وذلك بغض النظر عن اختلاف نمطي الدولتين الموروث جزئيا عن الحرب الباردة. غير أن الدراسة تَخْلص من مقارنة وضعية الدولتين بأوضاع بقية الدول العربية إلى ملاحظة تشير أغلب التقارير في السنوات الخمس الأخيرة إلى وجاهتها. فالمغرب والجزائر تجاوزتا نسبيا عقَـبَة الإندماج الداخلي وأصبحتا تتمتعان بممكنات سياسية واقتصادية على الأمد المتوسط لا تتمتع بهما الدول العربية الأخرى. فالممكنات السياسية مثلا في البلدين ليستْ معزولة عن الممكنات الاقتصادية كما في دول عربية أخرى. لقد أثبتا مستوى من القدرة على إجراء تغييرات سياسية لا تهدد بقاء مؤسسات الدولة، أي تغييرات لا يكون فيها الخيار بين استبداد الأمن واستبداد الفوضى. وهي إجراءت رغم تواضعها الحالي فإنه إذا ما تمّ الدفْع بها أكثر يمكن أن تَستثمر “درس الربيع” ـ في صيغته التونسية ـ وتعطيه مداّ وزخما آخر. فلا معنى لتغييرٍ لا يستطيع الحفاظ على مؤسسات دولتية مرجعية تعطي التغيير مقاسه وإطاره.

ـ5ـ

هل تستطيع الجزائر والمغرب نقل هذه الممكنات إلى مستوى الواقع الماثل ومنح المنطقة نموذجا سياسيا وتنمويا مختلفا ؟ تدلّ مؤشرات متعددة على أن الجزائر والمغرب ما تزالان راهنيا بعيدتين عن لعب مثل هذا الدور الاستراتيجي في العالم العربي بسبب ما وصفتْه الدراسة السويدية عن حقّ بانخراط البلدين في حالة تنافسية استقطابية (لا يمثل الملفّ العويص لقضية الصحراء إلا أحد أبرز مجالات تجلياتها الحدّية) تستنفد الجزء الأكبر من طاقتهما. وينجرّ عن هذا التنافس غير العقلاني حالة انكفاء يدفع البلدان والتكاملُ المغاربي معهما فاتورتها الأكبر. ومع ذلك فالمغرب والجزائر تتمتعان بقابلية للدمقرطة وبنقلة سياسية وتنموية لا تتمتع بها أي من الدول العربية ذات الحجم الديمغرافي المماثل. ولكن استثمارهما لهذه الوضعية يقتضي بناء عقيدة سياسية بديلة. أي يقتضي القطيعة مع إيديولوجية رسمية وشبه رسمية تتوكأ على تأبيد الثنائية القطرية الضيقة والحزازات الصغيرة والعبثية المرتبطة بها.

د. محمد بدي ابنو

* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

beddy.iese@gmail.com

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى