مساهمة في توطيد اللحمة الوطنية من أجل بناء دولة القانون

إذا كان الاختلاف والتنوع الفكري والثقافي والعقدي أرضية صلبة لتقارب الشعوب والأمم وعامل مهم لإثراء الحضارة الإنسانية تكاملا لا تصارعا، فإن أسوأ الوحدات الوطنية هي تلك القائمة على الاستعباد والغبن و الإكراه والظلم والاستبداد وغير ذلك من أشكال الحيف والجور، فأي وحدة لا تنطلق من منظور إيجابي للاختلاف والتنوع في المجتمع، ستكون بلا شك وحدة تصادمية، قاصرة عن استيعاب عناصر التنوع والاختلاف، فاشلة في تسويق مخرجاتهما إلى المجتمع، ذلكـ أن حاجة الشعوب للوحدة والوئام الوطنين، لا تقل أهمية عن حاجتها للغذاء والماء.
و إذا كانت الوحدة الوطنية بمفهوم الفكر السياسي المعاصر تعني الاتحاد الاختياري بين المجموعات التي تدرك أن وحدتها تكسبها نمواً زائداً، وميزات اقتصادية وسياسية و تعزز مكانتها العالمية، فإن المتتبع لمسار بلادنا في هذا الخيار، يدرك بجلاء مدى الفشل الذي ظل يطبع سياسات الانظمة المتعاقبة على الحكم في البلد حيال هذه اللحمة من خلال اقصاء ممنهج لبعض المكونات والشرائح، وفي مقدمتها مكونة الحراطين التي تشكل أحدى أهم المكونات الوطنية، و هي التي ظلت تسعى منذ اللحظات الاولى لتأسيس نضالها السلمي والحضري في 5 مارس 1978، ظلت تدعوا لتحقيق لحمة وطنية أساسها المساواة الفعلية الواقعية، بدل الاكتفاء بترديد الشعارات النظرية البراقة التي دأبت الأنظمة المتعاقبة ومن شايعها من القوى الرجعية الظلامية على ترديدها طيلة العقود السالفة.

و كغيره من نماذج الالتحام و التعايش في العالم، يتميز النموذج الموريتاني بعوامل قوة واعتزاز ونقاط ضعف واخفاق، وإذا كان الدين الاسلامي الحنيف الذي هو دين الدولة والمجتمع قد شكل ويشكل اكبر واهم العوامل الموحدة للموريتانيين عموما، لحافظه على لحمة وتماسك نسيج و فسيفساء المجتمع ومنعه إياها من التصادم و التلاشي والتفكك –بل صموده في وجه تيارات التغير الجارفة التي طالت معظم الدول المشابهة- فأن الدولة الموريتانية أخفقت حتى الأن في تكريس لحمة وطنية حقيقية، وهو ما يترجمه فشلها في فرض اللغة العربية كلغة رسمية، لتبقى مثار جدل ومصدر توتر كبير. كما فشلت في إقناع المكون الزنجي الذي يرى في سياسة التعريب طمسا لهويته في ظل غياب الإرادة السياسية للترسيم الفعلي للغات الوطنية، إضافة إلى استمرار بعض الأصوات النشاز المطالبة بحكم ذاتي في مناطق الضفة. يضاف إلى ذلك فشلها حتى الآن خلق في قنوات اتصال بينها و الطبقة السياسية بما يضمن الفعالية والقدرة على إقامة حوار وطني جاد و شامل يخرج البلد من أزمته الحالية، و يطوي عهد الهيمنة والأحادية الذي ميز العقود السالفة، والذي كانت سمته الابرز غياب تام وممنهج لولوج الحراطين مراكز القرار والادارة والقضاء، عبر سياسة الترهيب والترغيب، واختزال تمثيلهم في بعض التعيينات العشوائية قصد التلوين والتمويه فقط لا غير.

كما شكل العامل الاقتصادي أحد أبرز مظاهر اخفاق الدولة الموريتانية كونه لم يوفق في الرفع من القدرات الاقتصادية والمادية للحراطين، رغم اعتبارهم القوة الأكثر حضورا في البلد بتجاوزهم حاجز 90% من مجموع اليد العاملة، ليبقىوا الغائب الأكبر والأقل دخلا واستفادة من الثروة الوطنية سواء تعلق الأمر باليد العاملة منهم في مجال الزراعة أو التنمية، أو تلك المتواجدة في الموانئ والورش أو العاملة في البيوت وإذا كان غياب الإرادة السياسية الجادة هو العامل الأبرز في الحيلولة دون التحسين من الوضعية الاقتصادية للحراطين واندماجهم الفعلي في الحياة النشطة وترقية إسهاماتهم في هذا المجال، فإن نفس الإرادة هي التي حالت دون ولوج أبناء هذه المكونة عالم التجارة والصناعة و الأعمال والحيلولة دون الاستفادة من رخص الصيد والتجارة ومنح القروض والأراضي وحاليا رخص التنقيب وعقود الخدمات ومن الظفر بالصفقات العمومية وصفقات التراضي التي بقيت الاستفادة منها حكرا على أبناء مكونة البيظان دون غيرهم.

وبشكل عام، يبقى الحراطين أكبر متضرر من الوضعية الاقتصادية الحالية، التي يطبعها التوزيع غير العادل للثروة الوطنية وما صاحبه ويصاحبه من فقر مدقع وبطالة وارتفاع جنوني للأسعار، وهو ما تجلت مظاهره في حياتهم اليومية وعجزهم عن التكفل بتدريس أبنائهم، بل ورعايتهم من الناحية الصحية، وفي شكل تجمعاتهم السكنية في الأحياء الهامشية في ضواحي المدن الكبيرة و آدوابه الأكثر تهميشا وتخلفا وافتقارا إلى البنى التحتية و أبسط مقومات الحياة الكريمة.

و لا يقل العامل الاجتماعي أهمية عن سابقه، فقد شكل هو الآخر مظهرا من مظاهر اخفاق الانظمة السياسية في خلق لحمة وطنية تساير المفهوم الواقعي لدولة القانون والمؤسسات، فرغم اصرار النظام على نفي ظاهرتي الرق والتهميش في البلد، فقد حظيت هذه القضية بزخم سياسي وإعلامي على الصعيدين الوطني والدولي بفعل الاستماتة في النضال الحضري المسؤول الذي تبناه الحراطين، الذي توازيه سلسلة الاخفاقات التي مافتئ النظام يتخبط فيها جراء سياساته الارتجالية حيال كل ما يمت بصلة للحمة الوطنية، ويرفع من القيمة المادية والمعنوية للحراطين؛ خصوصا بعد تصريحات رئيس الدولة التهكمية في نوفمبر الماضي بمدينة أنواذيب، وتلك الصادرة عنه مؤخرا في مدينة النعمة، وهي التصريحات التي ووجهت بموجة عارمة من الاستياء والشجب لما حملته من عبارات مسيئة و غير لائقة استهدفت في الصميم مكونة الحراطين، تصريحات تستوجب منا تجديد مطالبة رئيس الدولة بالاعتذار الفوري والعلني لما أبانت عنه من استهزاء لهذه المكونة و من انزعاج علني من وزنها الديمغرافي.

كما حملت أيضا تأكيدا على فشل سياسات الحكومة في القضاء على الرق المستشري وعلى مخلفاته، بل انكار وجوده وتبرير غير موفق لفشل السياسات الحكومية في هذا الصدد. في ظل التساؤل عن المعزى والدافع الذي حمل الرئيس على اطلاق هكذا تصريحات وفي مصلحة من تصب؟، ناهيك عن ما ابانت عنه من تناقض في سياسات الحكومة الاجتماعية والتزاماتها أمام المنظومة الدولية التي ما فتئت تطالب بتطبيق النظام الموريتاني لالتزاماته اتجاه العقود والمواثيق الدولية والاقليمية ذات الصلة بموضوع حقوق الانسان، ولعل التصريحات الاخيرة للمبعوث الأممي المكلف بالفقر المدقع وحقوق الانسان آخر تجلياتها.

هكذا يظهرا جليا معشر الحراطين، أن بلادنا تمر اليوم بمنعطف خطير يستدعي منا جميعا الوقوف صفا واحدا من أجل المحافظة على المكتسبات التي تم تحقيقها من خلال نضالكم و تضحياتكم الجمة، تلك النضالات والتضحيات التي ساهمت بجدارة في خلق تراث نضالي تراكمي، سيكون له بحول الله وقوته الأثر البالغ في خلق وعي وطني بإعادة تأسيس الدولة الموريتانية وفق الأسس والضوابط الناظمة لبناء لحمة وطنية حقيقية تقر التنوع والاختلاف كمصدر قوة واعتزاز و تحترم الخصوصيات مع ضمان المشاركة الفعلية في تسيير دولة القانون والمؤسسات التي يتوق عموم الموريتانيين وفي مقدمتهم الحراطين بشغف إلى بزوع شمسها.

إن دقة وحساسية المرحلة التي تجتازها بلادنا اليوم، تتطلب من الجميع أقصى درجات الحيطة والحذر، لما يحفها من انزلاقات لعل ادناها حملات التطبيل والتزمير التي ما فتئت أبواق النظام تطلقها من حين لآخر بهدف طمس الحقيقة والتغطية على سلسلة الاخفاقات المبينة أعلاه، حملات وقودها وقادتها تحالف القوى الرجعية الظلامية بزمرة المتزلفين والمصفقين الذين لا يعيرون أي وزن و لا يألون أية أهمية لمستقبل الوطن والمواطن ولا هم لهم سوى ملئ الجيوب والبطون بأي ثمن كان.

ومن أجل موريتانيا الغد، موريتانيا مشرقة لكل الموريتانيين، تتقدم حركة تحرير وانعتاق الحراطين “الحر” بالشكر الخالص إلى كل أصحاب الأفكار و الآراء النيرة، و من مختلف الشرائح والمكونات على مواقفهم الجريئة احقاقا للحق، و تشيد بالروح النضالية المتنامية لدى القوى الشبابية عموما و الحرطانية منها على وجه الخصوص، كما تتقدم إلى كافة أصحاب النوايا الحسنة في البلد، بنداء وطني خالص هدفه انتشال اللحمة الوطنية من مأزق الدونية و كافة مظاهر الاحتقار و نزع فتيل الشحناء و التنابز التي تخيم على المشهد الوطني في كافة ابعاده، كما تعلن عن استعدادها الدائم ومد يد العون بهدف العمل سويا على بناء مجتمع متطور ودولة قوية قادرة على توفير أجواء الحرية والانعتاق وظروف العيش الكريم لكافة مواطنيها دون إقصاء أو تمييز، دولة قادرة على مواجهة عبث العولمة و تفادي سلبيات رياح التغيير عبر إدخال إصلاحات جوهرية توافقية قادرة على تحسين وتطوير منظومة الأسس والضوابط المتحكمة في تسيير علاقاتنا البينية قبل فوات الأوان.

عاشت حركة تحرير وانعتاق الحراطين “الحر”

عاش نضال الحراطين من أجل نيل الحقوق المشروعة

عاشت موريتانيا حرة موحدة و مزهرة.

أنواكشوط 17 مايو 2016


إضافة سيد احمد ولد مولود

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى