تعظيم الشعائر بالاحتفال ببشرى البشائر

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد وآله وصبحه وسلم تسليما

الحمد لله،

هذا وقد سألني أحد الإخوان عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وقال إنه سمع كثيرا من الخطباء في المساجد ينهون عنه ويقولون إنه بدعة، وطلب مني أن أكتب له فيه ملخصا.

وقد بدا لي أن البحث فيه بحثا معمقا لا يفيد العامة وقد كتب فيه كثير من العلماء الأولين والآخرين بحوثا كثيرة أظهروا فيها أنه عمل شرعي مطلوب ودحضوا مزاعم الناهين عنه وردوا على ادعاء أنه بدعة بأن البدعة المنهي عنها كما قال الإمام الشافعي “ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة والضلالة” وأما ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا فهذه محدثة غير مذمومة.

وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام رمضان “نعمت البدعة هذه” يعني أنها محدثة لم تكن، وإذ كانت فليس فيها رد لما مضى. رواه عنه الحافظ بن عساكر في كتابه: “تبيين كذب المفتري في ما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري بسنده إلى الإمام الشافعي ص 97. ورواه عنه أيضا الحافظ البيهقي بإسناده إليه في “مناقب الشافعي” كما في الحاوي للسيوطي .
وقال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات: “البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة”. عزا ذلك إليه الحافظ السيوطي في الحاوي.

وقسمها الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة مع التمثيل لكل منها، قال والطريق في ذلك أن نعرضها على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فواجبة وهكذا .

فمن البدع المستحسنة كتابة المصاحف وتدوين العلوم الشرعية واللغوية وتأسيس المدارس الدينية وغير ذلك مما لولاه لذهب الدين ولم يبق له أثر.

وعوام المسلمين لا يصبرون على التعمق في هذه البحوث وأحيانا يصعب عليهم فهما لعدم معرفتهم بالأسس التي تنبغي معرفتها قبل الخوض فيها وهي كثيرة، وترهبهم الألفاظ الفخمة مثل “البدعة” فينفرون مما أطلقت عليه. ويرهبهم أيضا الاستدلال بالقرآن والحديث الشريف مع أن المستدل به منهما قد لا يكون نصا في الموضوع، بل قد يكون أحيانا غير ذي علاقة به البتة، ولكن بعض المجادلين يكثرون من ذلك لإرهاب الناس,.

وكما قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعلى في المستصفى: فإن الناس كلهم عوام إلا الأفراد،

قلت: وقد بدا لي أن أخبر هذا السائل بمواقف بعض علماء المسلمين الجِلة ومشايخهم من أمر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليقلدهم في ذلك، فإن العوام شأنهم سؤال العلماء وتقليدهم فيما أفتوهم به .

وقبل أن أدخل في جواب السائل فإني أود أن أعبر عن استيائي البالغ من اشتغال بعض الفئات بإثارة الشغب والتشدد في مسائل فروعية فهموها فهما خاطئا ثم راحوا يحاولون جاهدين فرض فهمهم لها على عامة المسلمين مع أن كافة علماء المسلمين قد أفتوا بشرعية هذا الأمر ودافعوا عنه وباشروه، وكان الأولى بهم أن يخافوا على أنفسهم من الدخول في لهيب هذه الآية: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المومنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا.

وأن يحذروا من هذه الآية الرهيبة إن شانئك هو الأبتر.

وكان الأجدر بهم أن يبذلوا جهدهم في الدفاع عن الدين الحنيف في هذا العصر الذي تداعت فيه الأمم الكافرة وتكالبت على الإسلام من كل وجهة من بابا الفاتكان إلى سخافات الدانمركيين والشريط الهولندي إلى هولاكو خان بل جنكيز خان، أعني بوش، بل لا أظن أن الطاغيتين قد قتلا وشردا مثل من قتل هو وشرد، ولا أفسدا من العلوم والحضارة مثل ما أفسد هو في مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها .

هذا إلى أم الفساد والطغيان والغطرسة دويلة الصهاينة التي يهدد قادتها بحرق الشعب الفلسطيني.
فالأجدر بخطبائنا هداهم الله بذل جهدهم في جمع التبرعات لأسر الشهداء في فلسطين المحتلة وغيرها من البلاد الإسلامية المحتلة. وصب جام غضبهم على أعداء المسلمين، ولكنهم مغرمون بنبش هذه الخلافات وتكرارها على الدوام
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

ولنعد إلى موضوع البحث فنقول:

قد نص العلماء الأعيان على ندبية الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف فقد قال شيخ مشايخ الإسلام أمير المؤمنين في الحديث الحافظ بن حجر أنه بدعة حسنة وينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعلى من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير.

وأما السماع واللهو فما كان منه مباحا يقتضي السرور بذلك اليوم فلا بأس به، وما كان حراما أو مكروها فلا.
ثم قال: وقد ظهر لي تخريجه على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى فيه موسى فصامه موسى فنحن نصومه شكرا لله تعلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه .

فيستفاد منه فعل الشكر لله تعلى على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة .

والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، نقله الحافظ السيوطي في الحاوي، وقال الحافظ جلال الدين السيوطي مجدد القرن التاسع في الحاوي في جواب على سؤال عن عمل المولد: عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط فيأكلون وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع المستحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.

ثم قال :

وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر ـ يعني غير ما ذكره الحافظ بن حجر ـ وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب قد عق عنه في سابع ولادته .
والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذ لك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله تعلى إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلى على نفسه لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالإجماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.

ثم ذكر أن الحافظ بن الجزري إمام القراء له كتاب في التعريف بالمولد الشريف ذكر فيه أن جزاء المسلم الذي يسر لمولده صلى الله عليه وسلم ويبذل في ذلك ما تصل إليه قدرته فجزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم .
ثم ذكر أن الحافظ شمس الدين بن ناصر له كتاب في المولد الشريف، وذكر أبياتا له في تعظيمه.

ثم ذكر أن أبا الطيب السبتي المالكي نزيل قوص أحد العلماء العاملين كان يمر بالمكتب في اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا فقيه هذا يوم سرور اصرف الصبيان. وكان فقيها مالكيا متفننا في العلوم متورعا أخذ عنه أبو حيان ومات سنة خمس وتسعين وستمائة.

ومن من صرح بأن الاحتفال بالمولد الشريف مندوب العلامة الولي المشهور الشيخ محمد المام قال في مطلع قصيدة له في المولد النبوي الشريف:

ندب السرور لمعدن الأسرار

سعد البشائر منبع الأنـــــوار

شهر الربيع الأول انجابت به

قطع الظلام عن أوجه الأقطار

وقد أفتى العلامة الشهير أحمد فال اليعقوبي الموسوي بأن من قلد الشيخ المام في مسألة فهو ناج يوم القيامة، قال:

من قلد المام السري في مسألة

نجا من الحساب يوم المسألة

وممن حض عليه الشيخ أحمد بمب خديم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شهد له علماء زمانه كلهم بالعلم والورع والولاية فإنه عمل فيه قصيدة طويلة عنوانها: جذب القلوب لعلام الغيوب، يقول فيها :

ليلة مولد النبي ليلة محو الريب

ليلة محو التعب وطهر ذي التأثم

إلى أن يقول

مولده معظم مبارك محتـــرم

تعظيمه ينحتم على ذوي التقدم

تعظيمه بالسنـة يقودنا للجنـــة

به ازدياد المنة لمخلص معظم

وممن احتفى واحتفل بالمولد المعظم الشريف الفتى العبقري والشاعر المفلق والعالم الصوفي الشيخ سيد محمد بن الشيخ
سيديا في رائعته التي يقول فيها:

أهلا بميلاد مولود به كملت

بشرى البشائر للبادي وللقروي

أهلا بميلاد من لم يحك مولده

من الظروف مكاني ولا ملوي

وهذا غيض من فيض فإن عدد العلماء الذين ألفوا في المولد النبوي الشريف أكثر من أن يحصى، وقد اجمعت الأمة الإسلامية على مر العصور وفي جميع الأصقاع على الاحتفال به وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن .

سيما أن علماء المسلمين على مرور الأجيال مارسوا هذا العمل وألفوا فيه ودافعوا عنه والله تعلى ولي التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم صلاة وسلاما يوازيان قدره العظيم عند ربه الكريم يدومان بدوام الاحتفال بوجوده رحمة للعالمين .

انواكشوط 6 ربيع النبوي الشريف 1428 من الهجرة الموافق 14/03/2008

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى