الشيخُ محنضْ بابَ بنُ امَّينْ: تكوينُه الفكريُّ ومنهجُه الإِصلاحِيُّ*

مُحمدْ نافعْ بنِ ابَّينْ بنِ بَبانَ الملقب بمحب السَّـبتي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين..
أيها السادة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،
فإن الله تعالى كتب لهذا الدين الخلود والبقاء، وشرف بحمل أمانته وحفظ شريعته العلماء، وجعلهم في ذلك خلفاء الرسل وورثة الأنبياء، فكانوا حراسه على مرالأعصار، وحفظته في سائر الجهات والأمصار:
فَفي كلِّ قُطرٍ كلُّ أروعَ وارثٍ لآباءِ صِدقٍ قبلهُ فَتحوا القُطرا
وَكم عالمٍ منهُم بدَت شمسُ علمهِ وَآخرَ في أُفْقِ الوغى طالعٌ بدرا
وَأَنوارُهم في كلّ شرقٍ ومغربٍ على كلِّ خلقِ اللَّه قد سفَرت سفرا
ولم يكن هذا القطر الذي شطت داره ونأى مزاره مستثنى من هذا العموم، فقد نبغ فيه رجال حفظوا علوم الشرع ونشروها وتركوا فيها آثارا باقية، وكان من هؤلاء الرجال فقيهُ زمانه الشيخُ محنض باب بن اعبيد الديماني، الذي نحتفي اليوم بصدور طبعة جديدة من كتابه “ميسر الجليل على مختصر خليل”، عن دار الرضوان..
وقد شاء الله تعالى أن يتصل سند العلم في عقبه، ويستمر إشعاعه في أسرته إلى يومنا هذا، فكان من أحفاده البارزين في العلم والإصلاح والزهد والورع الشيخُ محنض باب بنُ امين، الذي هو امتداد لتاريخ هذه الأسرة العلمي، وإثراء لرصيدها المعرفي، وهو من جهة أخرى نعمة من نعم الله على هذا القطر، ومظهر من مظاهر فضله وكرمه في هذا العصر، وقد أكرمني الله تعالى بمعرفته ومعايشته سنين متوالية، فعرفت فيه العلم الواسع والأفق الرحب والدين المتين والربانية الصافية والزهد الصادق .
إن الواقف أمام شخصية الشيخ يحار من أين يبدأ، ففضائله المتنوعة تعسر الإحاطة بها والإلمام، ويتعذر عرضها في مثل هذا المقام، وهذه عجالة تسلط الضوء على جانب من تكوينه الفكري ومنهجه التعليمي، وطرف من نتائج تحقيقاته وأنظاره وتحليلٌ لبعض آرائه وأفكاره. .
لقد تلقى الشيخ مبادئ العلم الأولى في بيئته، وقرأ متونا في النحو والفقه والمنطق على من أدرك من أعيان أسرته، لكن الحقيقةَ أن دراسته لم تكن جارية عـــــلى النمط المعتاد ولا مكتفية بالعلوم المحظرية السائدة، بل سمت همته إلى التبصر والتحقيق، فوقف على مبادئ العلوم وغاياتها، ودرس موسوعات الفقه والحديث والتفسير والأصلين والمنطق والعربية فضلا عن التـصوف، وقرأ المخـتـصـرات والشروح والحواشي، وقرأ للمتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، وقرأ للموافقين والمخالفين من أهل الملة، بل قرأ لغير المسلمين من الدهريين واللادينيين وأضرابهم، واطلع على فلسفات أوروبا وعلومها وفكرتها عن الكون ونظرتها للحياة، واطلع كذلك على واقع المسلمين وما آلت إليه أحوالهم في العصر الحاضر، وكانت روح البحث عن الحق مهيمنة على عقله وضميره في رحلته المعرفية هذه، وقد تحرر فكره الديني من أغلاط غلبت وانطبعت بطابعها بيئات ومناهجُ ومؤلفات، ففكره الديني كما يتجلى في مؤلفاته فكر علمي يعتمد التحقيق، فقد أخذ من المناطقة ترتيبَ أجزاء الدليل، وبناءَ النتائج على مقدماتها، وتقديمَ التصور على الحكم، والحذرَ مما يُخِلُّ بالدليل من أغلاط اللفظ وأغلاط المعنى، واعتمادَ البرهان حجة، والتمييزَ بينه وبين غيره من الحجج الظنية والوهمية والخيالية، وأخذ من المتكلمين نَبْذَ التقليد والعنايةَ بالنظر وبناءَ الدين على القناعة الذاتية، وأخذ من المحدثين روحَ النقد ومعرفةَ الرجال ونَخْلَ المنقولات، والتثبتَ في قبول المرويات، وأخذ من الفقهاء والأصوليين حسنَ تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية، وملكةَ التمييز بين ما تتفقُ صورتُه ويختلفُ حكمُه، والفطنةَ للعوارض المغيرة للأحكام، وأخذ من أهل التصوف صلاحَ قلوبهم ولطفَ أرواحهم وسموَّ هممهم وتجردَهم من أسباب الدنيا وتفرغَهم للمطالب العليا، فجاء بعد هذا كله فكرُه ومنهجُه جامعا متكاملا، لا يطغى فيه جانب على جانب، ولا يجور فيه طرف على طرف.
وقد وصل إلى نتائج مهمة، واكتشف حقائق واقعية كانت غائبة عنه وعن غيره، واقتنع بوجود نقص في الأسلوب العلمي والديني السائد، فشق طريقا جديدا ومنهجا مختلفا في التعليم، مزج فيه بين العلم والدين وأعاد الصلة الحميمة بينهما، وأجرى تغييرا جوهريا في الأسلوب المنتشر، فأصبح البدءُ بتصحيح العقيدة الإسلامية أهم المهمات عنده، وأضحى شغلُه الشاغلُ بناءَ الإيمان الدافع المؤثر وجَعْلَه أساسا لحياة المسلم، واعتبارَ الغايةِ من طلب العلم تصحيحَ الدين، والوصولَ إلى الكمال والسمو في معانيه وأعماله، بعدما رأى أن العلم أصبح في كثير من الأحيان وسيلة للتظرف والتزين في المجالس وتولي المناصب، والصالحُ لذلك من فنون العلم علومُ الذهن وعلومُ اللسان، أما العلم الذي يستفاد به الإيمان الصحيح القلبي، والعلم الذي تعرف به صور الأعمال التعبدية، والعلم الذي يفطم القلب عن فضول الحظوظ ويحميه من سيطرة الشيطان، ويربطه بالمقاصد العالية والسعادة الباقية، فليست من وسائل تلك الحظوظ المتقدمة.
أيها الساده: هناك فرق كبير بين الحقيقة والصورة؛ قد وقف عنده الشيخ طويلا، ورأى أن انتقاد الذات ومراقبتها من الداخل، وعرضها على الميزان الديني العادل، يرينا المسافة الشاسعة بين الصورة والحقيقة، إن الصورة مهما بلغت من الجمال والبهاء، ومهما أسرت القلوب وسحرت الألباب، ومهما أوحت إلى خيالنا الشعري، لا تحمل أي خاصية من خصائص الحقيقة، ولا تعطي ثمرة من ثمارها، إن صورة الماء المتدفق والنهر الجاري لا تُروي الظمآن، وصورة الدواء لا تشفي السقيم، وصورة الطعام لا تشبع الجائع..
وهكذا، فالصورة الدينية مهما انطوت جوانحنا على حبها واحترامها، ومهما فرحنا بظهورها واشتهارها، فإنها لا تعطينا ما تعطيه الحقيقة الدينية، إن هناك وعودا ربانية نحن نراها مفقودة مع وجود الصورة الدينية، فهل نتهم أنفسنا وواقعنا، أم نتهم الوعد الرباني والخبر النبوي؟
ليس هذا أيها السادة حكما على أحد ولا سوء ظن بأحد، ولكنه نتيجة ضرورية لكل نظر يستهدف الوصول إلى التشخيص الدقيق لحال المسلمين، في هدوء وحكمة وفي إخلاص وبصيرة، إن الحاجة اليوم ماسة إلى أسلوب جديد في التعليم والتربية، وتقديم الدين إلى الصغار والكبار، والرجال والنساء، وإلى أسلوب أفضل وأكمل في ممارسة الدين ذاته.
إننا كثيرا ما يشتبه علينا ما هو واقع بما يجب أن يقع، ونسوي بين حصول الاتصاف وحصول الشعور، فإذا فهم أحدنا معنى من المعاني الدينية التي تحتاج إلى جد واجتهاد في الاتصاف بها، خُيِّـلَ إليه أنه صار من أهلها، واشتبه عليه العلم والفهم بالتحلي والاتصاف، والسببُ هو حسن الظن بالنفس وعدم اتهامها.
إن محل العلم منا مخالف لمحل الحال، فمحل العلم هو الذهن ومحل الحال هو القلب، والمطلوب في الإيمان ليس مجرد العلم، بل المطلوب هو تحول هذا العلم إلى صفة للقلب، إلى حال مؤثرة تحمل على العمل، لماذا تفشل جهودنا في تغيير بيوتنا، وفي جعل السلوك الإسلامي ماثلا في أرجاء حياتنا، لماذا لا يختفي التبرج مثلا رغم كثرة المواعظ والنصائح، هل ينكرأحد أنه حرام، وقُلْ مثل ذلك في بقية المخالفات التي تزخر بها حياة المسلمين ولا ينكر أحد حرمتها.
إذن فالعلم حاصل، لكن الجسر الذي يعبر منه العلم إلى الحياة؛ هو تأثر القلب بهذا العلم تأثرا يجعل الجوارح تنقاد له ولا تستطيع الخروج عن سلطانه.. من منا لا يعرف حنان الأم، أليس حالا من أحوال القلب، هل تستطيع الأم أن تترك ولدها المريض دون رعاية؟ هل تستطيع أن تراه يواجه الخطر ثم لا تدفع عنه الخطر؟ هل العلم بكونه ولدها هو الذي دفعها؟ أم حال الحنان الفائض من قلبها عليه؟
فالإيمان هو الكيفية القلبية الناشئة عن التأثر بالعلم والاتصاف به، والإيمان المطلوب من جملة الأحوال لا من جملة العلوم، وإن كان العلم شرطا لصحته، والعبادات شرعت للمحافظة على هذا الإيمان؛ بدوام التذكير بمعانيه الأساسية، وتكرير هذا التذكير..
إن التنبه لهذا الفرق بين العلم والحال، وبين الواقع بالفعل وما يجب أن يقع، يحمينا من أغلاط كثيرة في العلم والدين، كما أن حسن الفهم للطريقة الصحيحة، التي نتعلم بها الدين ونتصف به، ونطبقه في حياتنا؛ هي أساس الصلاح والإصلاح، وأي خطإ في تشخيص أحوالنا أفرادا ومجتمعات يؤثر على المنهج كله، وينسحب حكمه على كل خطوة تالية، فلهذا كان العملُ الأولُ إصلاحَ التفكير وتهيئةَ العقول للنظر الصافي والفكر القادر على التحرر من قيود الهوى والعادة والرأي العام، الفكرُ الذي ينشد الحق أين كان هذا الحق، ويدري أن هذا الحق هو أثمن الأشياء وأعز الأشياء..
إن تقديم الدين للعقل الراسف تحت قيود الهوى وضغوط المجتمعات؛ كتقديم الطعام الهنيء للمريض المصاب بفقد الشهية، فأول ما يقدم للمريض هو الدواء، وهذا الدواء هو تنبيه فطرة العقل المسبوت ليصلح لتوجيه الخطاب إليه، فهذه الفطرة موجودة كاللؤلؤة الصافية، ولكن ركاما من الأهواء والعادات غطاها فغابت تحت وطأته الثقيلة، فالخطوة الأولى هي إخراجها وإزالة هذا الركام عنها، فإذا زال هذا الركام أمكن الاتصال بها وتوجيه الخطاب إليها، فتوجيه الخطاب إليها قبل إزالة الركام عنها أشبه شيء بمخاطبة النائم، فأيقظ النائم حتى يكون لخطابك له معنى، لقد تعقدت الحياة في العصر الحاضر، وتشعبت طرقها بالناس، وصار هناك انفتاح عالمي على الثقافات والشعوب والأفكار الجديدة، وأصبحت وسائل الاتصال تنقل العقائدَ والسلوكياتِ والعاداتِ من الشعوب العالمية إلينا في أسرعَ من لمح البصر، وصار للتِّقْنيات الجديدة دور فعال في غرس المعاني في النفوس، وتكوين الاتجاهات، ورسم الطريق للشباب والنشء الجديد، فالعقيدة اليوم يجب أن تبنى بناء صلبا قويا، بناء مركزا نوعيا، وأن يراعى فيها مايراعى في البناء على الماء أو في التربة المِلْحِيةِ، إن له مقدمات ليست للبناء التقليدي، فالواقع اليوم أشد استعصاء على بناء الدين والأخلاق من التربة المائية أو الملحية المتآكلة على بناء المساكن والبيوت، وإن الأبنية الدينية التي لا تراعى فيها أحوال الواقع المعاصر، ولا يقتنع أهلها بضرورة تقوية أساساتها، والتأكد من استجماعها لشروط الاستمرار والبقاء، هذه الأبنية تتعرض لما تتعرض له الأبنية المادية المقامة على الأرض المائية أو الملحية، تتعرض للتآكل والسقوط.
من أجل هذا أيها السادة كان كل هذا التركيز على أساس الدين في فكر الشيخ ومنهجه، وفي أحاديثه ودروسه، وفي منظوماته ومؤلفاته، فكأنها هي قضيته التي وهب حياته لها، وإن قليلا في مثل هذه الخدمة الجليلة للإسلام في هذا العصر، أن تقوم مؤسسات كبيرة عليها، وأن يوجه تيار النبوغ والتفوق في شباب الأمة إليها، وأن تحظى بالقسط الأوفر من جهود الإصلاح والتربية والدعوة والتعليم، ومع ذلك فالشيخ الذي سلطنا الضوء على جانب من تكوينه الفكري ومنهجه التعليمي، يوثر التدين الفردي على التدين الجماعي، والاحتفاط بالسلامة على اكتساب الغنيمة، فليس من أهل الدعوة والارشاد، أوالاستتباع والاستقطاب، أو التضليل والتكفير، وإن كان يُبَـيِّـنُ لأصدقائه مايرى الحكم الشرعي يوجب تبيينَه، ويومن بأن الدعوة والإرشاد مطلوبان إن رُجِيَ نفعُهما.
وفي الختام؛ أشكر القائمين على هذا الحفل على إتاحة فرصة مخاطبتكم والحديث إليكم، والسلام عليكم.
* ألقيت هذه الكلمة في ندوة “محنض باب ولد اعبيد: حياته وآثاره”، التي انعقدت في فندق الخاطر، في 20 دجمبر 2016.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى