المهام الأصلية للجيش والمخابرات في خبر كان!

الجيش مؤسسة أمنية ودفاعية يفترض أن تكون ذات طابع جمهوري يحرص على أمن الدولة وحماية حوزتها الترابية من كل معتد أثيم، بعيدا عن المهام الحالية والسابقة، التي انحرفت إليها بعض جيوش العالم، وبوجه خاص في منطقتنا العربية والإفريقية، حيث حكم أصحاب القبعات وأزاحوا كل مدني عن دفة الحكم، وأضحت بعض الدول العربية مثل اليمن وسوريا وموريتانيا من أكبر بؤر الانقلابات والحكم الانقلابي العسكري المزمن، الذي اخرج المؤسسة العسكرية من دورها الأصلي الصحيح، لتصبح عندنا مثلا وصية على الشعب والوطن بدل أن تكون خادمة لديهما.
وقد تخمرت المعاناة والآفات والأزمات في كل وكر ومجال وميدان، في ظل الحكم العسكري الانقلابي في موريتانيا بوجه خاص، وأدمن “اصنادره” عندنا وبكل وقاحة ووحشية وشراهة على لبس بزاتهم العسكرية ودخول المكاتب من أوسع أبوابها للحصول على المنافع الواسعة والأغراض الضيقة المتنوعة، على حساب الجميع، ومنذ 1978 وإلى اليوم لم يستحوا عن الاستمرار في غصب هذا الوطن معنويا وماديا، وتشكلت الدولة العميقة إن صح الاطلاق على الولاء لهم والخوف من جنابهم وتسخير كل المعطيات لصالحهم قبل أن يتذوقها غيرهم.
وما خرج بعضهم من الدنيا أو ساحة النفوذ إلا بعد أن اثرى نفسه وغيره بمستويات مثيرة وأساليب قذرة.
فأصبحنا نسمع أن فلانا توفي وفي ذمته مائة منزل ذي بال، وفلانا لم يخرج من الدنيا حتى دخل ساحة البنوك والعقيد الآخر لم يعد قادرا على إحصاء عقاراته، والوكالة السفرية لفلان بن فلان، بل وصل الأمر بالشيخ ولد بايه إثر ترأسه سنوات لمندوبية الصيد في نواذيبو على التبجح بالمليارات والإدعاء بأنها حلالا زلالا!.
وبعد ذلك تفرغ لبلدية ازويرات وأذواق ولد عبد العزيز في المأكل والمشرب والملبس تحت خيمة تقليدية منمقة في قلب صحراء تيرس الجميلة الجذابة، دون أن يسحب منه ملف الصيد، فهو في هذا الميدان رغم التقاعد الآمر الأول والناهي وصاحب الحسم والقرار الأخير.
اللهم إن هؤلاء قد عاثوا في أرضنا وعرضنا اللهم خلصنا منهم بما شئت وكيف شئت، بعد أن سئم الجميع الحرمان والإذلال وشتى صنوفهما.
وعبر تاريخهم الطويل في الحكم، ومن حين لآخر، وبحجج مختلفة، تتم الاغتيالات والتصفيات الجسدية والرمي في السجن بطريقة أو بأخرى، واستغلال الأنتربول لأول مرة في تاريخ الدول العربية ضد صحفي، بتدبير من الحكومة الانقلابية، على يد مرشحها وعميلها المؤقت سيدى ولد الشيخ عبد الله، حيث حرك ملفي في هذا الصدد أيام حكمه وبعد تنصيبه في سنة 2007، رغم أن ما نفذ بعد ذلك من تسليم كان بعد أقل من ثلاثة أشهر من تولي ولد عبد العزيز للحكم المباشر، وإن كان هو القائد الفعلي للبلاد منذ الأربعاء الأسود 03 أغسطس 2005، إبان الإطاحة بالعسكري المتغلب معاوية ولد الطايع، بعد أكثر من عشرين سنة من الحكم، واليوم يناهز عزيز اثنى عشر أخرى.
فأين كل هذا في ظل المؤسسة العسكرية الانقلابية الموريتانية من المهام الأصلية النظيفة المرسومة في الدساتير والقوانين الموريتانية وعند الشعوب والكيانات المختلفة عبر العالم.
لقد كبرت “الكروش” ولعبت القروش بالعقول، وابتعد “اصنادره” عندنا عن ما رسم لهم من مهام شريفة دفاعية وأمنية ووطنية رائدة، ليفضلوا بدل ذلك الجلوس في مكاتب السلطة والنفوذ وإدارة مؤسسات مختلفة، ذات طابع مالي واسترزاقي، بعيدا بعيدا عن الثكنة والمهمة العسكرية الأصلية.
حتى اضحينا عمليا بلا جيش في المستوى اللائق المفترض، ولا يكاد ضابط أو ضابط صف عندنا إلا وهو مشغول بحلم انقلاب أو مطمح ثروة حرام، وقلت الأمانة ونسي الجميع تقريبا المهمة الأصلية، ومثل هذه الوضعية الراهنة المزرية، التي ورطت الجيش الموريتاني في أوحال وأوهام السلطة والسياسة ومطامح وشهوات المال والثروة، أصبح من المستحيل تقريبا ارجاع الجيش الموريتاني لمهمته الدستورية الجمهورية الأصلية، لأن نخبة هذا الجيش من الجنرالات والعقداء والضباط الكبار تعتقد أن فصله وفكه عن السياسة والسلطة حرمان له من المنافع ومصادرة لدور أحسنه وأتقنه، هو إدارة البلاد، رغم أنهم يعرفون أن هذا مضر بهيبة البلاد وأمنها، أي اشتغال الجيش بالسياسة وتوريطه في أتونها، مع أن هذا لا يعني عدم وجود أقلية من ضباط الجيش واعية لخطورة التسيس على كل مشتغل بالجيش والأمن.
هذا من وجه فيما يتعلق بموضوع الجيش، ومن الوجه المخابراتي والأمني، ارتبط اسم الأجهزة الأمنية والمخابراتية بتكريس مصالح الأنظمة وشخوصها بدل حماية الدول بالمعنى الواسع وحرماتها ومقدراتها المتنوعة.
المخابرات ينبغي أن تكون مخابرات الدولة والسهر على حماية المجتمع وأمنه ومصالحه المتنوعة، لكن المشتغلين بالمخابرات وفرق التجسس أو التحسس المتنوعة اعتقدوا أن العمل في هذا القطاع يرتكز على الكذب والاستهداف الظالم وحماية رأس النظام ورموزه بالدرجة الأولى, أما السهر على مصالح الدولة والمجتمع والأمن، إلى الحوزة الترابية المقدسة، وإلى قبل ذلك كله الهوية الحضارية المبنية على الاسلام واللغة وغيرها، إلى التعليم والصحة والاقتصاد، إلى استشراف المخاطر وحسن توقعها في الوقت المناسب قبل استفحالها، كل هذه المعاني المخابراتية بالمعني السليم الأولوي، أصبحت فعلا في خبر كان.
لأن المخبر عندنا، المفترض أن يخدم الدولة والمجتمع قبل النظام بالمفهوم المافيوي الضيق، هذا المخبر مهما كانت رتبته، لا يقيم غالبا الوزن اللائق، لمثل هذه المعاني الإيجابية السامية للمخابرات، وفضلت الأنظمة الإفريقية وغيرها، أن تكون المخابرات بدل خدمة الدولة والمجتمع بدقة وتجرد وعمق ومسؤولية وأمانة وحذر شديد، خادمة لهذه الأنظمة بالدرجة الأولى، مبالغة في متابعة مناوئيها والتضييق عليهم في الداخل والخارج، ظلما وعدوانا، ودون الرجوع للقيم والأخلاق والقانون، فمجرد صدور اسم شخص معين أو مجموعة ما في برنامج المخابرات، مستهدفا، فهو وقتها بائح اضراره وإلقامه شتى صنوف الحجارة، رميا وتنكيلا، على مختلف الصنوف والأشكال.
ولهذا فضل أغلب المواطنين في مثل هذه الدول المعكوسة المفاهيم الابتعاد عن “اصنادره” والمخابرات، ولو تمسكت الجيوش والمخابرات بمهامها الأصلية الصحيحة لأصبحت خدمتها واجبة مشرفة إيجابية، أما والوضع على ما نعرف سابقا ولا حقا، فلا تكاد أي معلومة صحيحة تصلهم إلا وأهملوها في الغالب ووظفوها في غير اتجاهها، و لا يعني هذا عدم وجود أدوار مخابراتية محلية متوازنة ناجعة نافعة، لكننا نقصد في هذا المقام التقييمي الحالة الغالبة الأعم، عسى أن تتحول الأقلية المخابراتية الصالحة إلى مركز القوة والإقتداء، فلا قيمة لدولة بلا مخابرات عادلة واعية، تقفز على الخطر المحلي والإقليمي وغيره، فتحدده بأمانة وتحتاط له في الوقت الملائم، قبل الاستفحال وفوات فرصة التخلص والمعالجة.
وباختصار ابتعد الجيش عن مهمته الأصلية وانكبت المخابرات على التجسس بالمعنى السلبي وخدمة المصالح الخاصة للأنظمة العابرة، وفي الزوايا الضيقة المعتمة، ولم يعد من اهتمام بالمهام الأصلية للجيش والمخابرات، فهي بإيجاز في خبر كان.
إن الدولة عندنا بحاجة لإعادة التأسيس على الأسس الصحيحة الإسلامية المبدئية الأخلاقية المشرفة، ومجانبة الظلم، وبوجه خاص ظلم من انتقد الرئيس أو الطبقة الحاكمة.
فهو بالأسلوب الملائم معرض لذلك النقد المطلوب شرعا، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه “رحم الله من أهدى إلي عيوبي”.
ولهذا شرعت المنابر الجديدة في الدولة المعاصرة لمجرد النقد الحاد الجاد، البعيد عن التجريح والتحامل، لتحسين الخدمة العمومية والخصوصية, فالمسؤولية عموما تكليف قبل أن تكون تشريفا.
فالصحافة والبرلمان والقضاء المستقل والجمعية غير الحكومية والمنابر المسجدية والدعوية وحرية المواطن، كلها فرص لإيصال النصيحة، ولتجنيب الدولة التفجير تحت الضغط، والاستعاضة عن ذلك بكلمة حق عند سلطان جائر.
وليصبر وليتبع ولينفذ، وأما من أراد السلامة الكلية من النقد وحرج الرأي الآخر فليجلس في بيته، بعيدا عن صخب الشأن العام.
ونأسف هنا لتحول الجيوش والمخابرات عن مهامها الأصلية الأخلاقية المبدئية وتحولها طيلة عقود من الزمن العربي الرديء إلى ساحة الجوسسة المفبركة وملاحقة المعارضين بتهم كاذبة، وخلق من الحبة قبة، وتحويل الأمر إلى سجال من التعذيب والحرمان والقتل أحيانا.
فليستغفر هؤلاء، من الحكام والجواسيس وغيرهم، ربهم قبل فوات الأوان، “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”.
ولنحذر دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى