تقول العرب ((حديث ذو شجون أى يجر بعضه إلى بعض ))
ففي وقت سابق وقبل عدة أسابيع كتبت مقالا بعنوان (( ولي قصة مع مكناس )) عرضت فيه لبعض الذكريات في فترة دراستي الاولى خلال لمرحلة المتوسطة فتحدثت – من بين أمور اخرى – عن بعض المواد التي درستها إبان تلك المرحلة ولكنني لم أتحدث عن مادة التاريخ القديم الذي كنا ندرسه طيلة تلك السنوات الثلاث ويتعلق الامر بحضارات كل من السومريين والبابليين والكلدانيين والاكاديين والاشوريين والعموريين والفينيقيين والكنعانيين على ما أذكر ولكن أكثر ما استوقفني ولفت نظري من خلال دراستي الاولية لتلك الحضارات كان الملك حمورابي
فمن هو حمورابي ؟
هو ملك بابلي ولد على الاشهر حوالي 1810 ق . م في مدينة بابل في العراق واستمر حكمه ما بين 1792 – 1750 (تقويم ما قبل الميلاد تنازلي )
يعتبر السادس بين الملوك الذين سبقوه
وكانت البلاد قبله دويلات منقسمة تتنازع السلطة فوحدها مشكلا امبراطورية عظمى ضمت كل العراق والمدن القريبة حتى سواحل البحر المتوسط وبلادا اخرى
وكان حمورابي شخصية عسكرية لها قدرة ادارية فذة
من قوانين حمورابى :
1 ـ إذا كسر الرجل عظما لآخر فجزاؤه أن يكسر عظمه بالمقابل
2 ـ إذا قبض على ابن وأمه وهما يرتكبان جريمة الزنا فإنهما يحرقان حتى الموت
3 ـ إذا تآمر زوجان على قتل شريكيهما ليخلوا لبعضهما فيكون جزاؤهما القتل
4 ـ إذا ضرب ابن أباه يكون جزاء الابن قطع يده
5 ـ الحكم بالموت على الذى يقبض عليه متلبسا بالسرقة
6 ـ تخلع ست الرجل إذا تسبب بخلع سن رجل آخر ( السن بالسن )
7 ـ تفقأ عين الرجل إذا تسبب فى فقء عين رجل آخر ( العين بالعين )
من أقواله :
“سوف اترك الناس ينعمون بالسلام و يرغدون بسعة حكمتي التي لا قرار لها لن أدع القوي يطهد الضعيف وسوف أعيد للارملة و اليتيم حقوقهما حتى يسود العدل في بابل ”
لقد تحدثت في المقال السابق عن مادة الادب وذكرت أننا درسنا قصيدة لابي القاسم الشابي خلال السنة الاولى بعنوان :”أغاني الرعاة” ولأن الحديث ذو شجون ولأن الشيء بالشيء يذكر كما يقال فقد أعجبتني أيضا ـ خلال تلك الفترة ـ قصيدة له يقول فيها :
اسكني يا جراح واسكتي يا شجون
مات عهد النواح وزمان الجنون
و أطل الصباح من وراء القرون
في فجاج الردى قد دفنت الالم
وذرفت الدموع لرياح العدم
واتخذت الحياة معزفا للنظم
أتغنى عليه في رحاب الزمان
وأذبت الاسى في جمال الوجود
ودحوت الفؤاد واحة للنشيد
والضبا والظلال والشذى والورود
والهوى والشباب والمنى والحنان
اسكني ياجراح واسكتي يا شجون
مات عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراء القرون
في فؤادى الرحيب معبد للجمال
شيدته الحياة بالرؤى و الخيال
فتلوت الصلاة في خشوع الظلال
وحرقت البخور وأضات الشموع
إن سحر الحياة خالد لا يزول
فعلام الشكاة من ظلام يحول
ثم ياتى الصباح وتمر الفصول
سوف ياتى ربيع إن تقضى ربيع
فاسكنى يا جراح واسكتى يا شجون
مات عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراء القرون
قد دعانى الصباح وربيع الحياة
يا له من دعاء هز قلبى صداه
لم يعد لى بقاء فوق هذى البقاع
الوداع ! الوداع ! يا جبال الهموم
يا هضاب الاسى يا فجاج الهموم
قد جرى زوقى فى الخضم العظيم
ونشرت القلاع فالوداع الوداع
ولأننى تطرقت الى أننا درسنا بعض قصائد المتنبئ فقد ارتأيت أن أورد نماذج مختارة من شعره ضمن هذه السانحة للفائدة من جهة ولأن الشيء بالشيء و الحديث ذو شجون
يقول المتنبئ :
ـ إنى لتطربنى الخلال كريمة طرب الغريب بأوبة وتلاق
ويهزنى ذكر المروءة والندى بين الشمائل هزة المشتاق
فإذا رزقت خليقة محمودة فقد اصطفاك مقسم الارزاق
والناس هذا حظه مال وذا علم وذاك مكارم الاخلاق
والمال إن لم تدخره محصنا بالعلم كان نهاية الاملاق
ـ إذا غامرت فى شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت فى أمر حقير كطعم الموت فى أمر عظيم
……………………… ………………………
يرى الجبناء العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة فى المرء تغنى ولا مثل الشجاعة فى الحكيم
وكم من عاتب قولا صحيحا وآفته فى الفهم السقيم
ولكن تاخذ الآذان منه على قدر القريحة والفهوم
ـ وما قتل الاحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذى يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت الكيم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى فى موضع السيف بالفتى مضر كوضع السيف فى موضع الندى
ـ وبتنا نقبل أسيافنا ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أنى الفتى
وأنى وفيت وأنى أبيت وأنى عتوت على من عتى
وما كل من قال قولا وفى وما كل من سيم خسفا أبى (1 )
ومن يك قلب كقلبى له يشق إلى العز قلب النوى
ولا بد للقلب من آلة ورأي يصدع صم الصفا
وكل طريق أتاه الفتى على قدر الرجل فيه الخطى
وما ذا بمصر من المضحات ولكنه ضحك كالبكا
…………………………. …………………
وشعر مدحت به الكركد ن بين القريض وبين الرحى
فما كان ذلك مدحا له ولكنه كان هجو الورى
………………….. ……………………….
ومن جهلت نقسه قدره رأى غيره فيه ما لا يرى
ـ نصيبك فى حياتك من حبيب نصيبك فى منامك من خيال
رمانى الدهر بالارزاء حتى فؤادي فى غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتنى سهام تكسرت النصال على النصال
وهان فما أبالى بالرزايا لأنى ما انتفعت بأن أبالى
ـ لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والاقدام قتال
وإنما يدرك الانسان طاقته ما كل ماشية بالرحل شملال
ـ إنا لفى زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان وإجمال
ـ ومن يجد الطريق الى المعالى فلا يترك المطي بلا سنام
ـ فما حاولت فى أرض مقاما ولا أزمعت عن ارض زوالا
على قلق كأن الريح تحتى أوجهها يمينا أو شمالا
ـ عديم من الخلان فى كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المصاحب (2 )
ـ يقولون ما أنت فى كل بلدة وما تبتغى ؟ ما أبتغى جل أن يسمى
ـ وما شيء إذا فكرت فيه بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذى لا خير فيه وأبعد بالبهاء من الرجال
ـ وأذا كانت النفوس كبارا تعبت فى مرادها الاجسام
ـ وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فكن طالبا فى الناس أعلى المراتب
ـ إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمر به الوحول
ـ ولم أر فى عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
ـ لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال
ـ ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ما قاته وفضول العيش أشغال
ـ تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى منها وما يتوقع
ـ ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم
ـ من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الاسباب والموت واحد
ومن ينفق الساعات فى جمع ماله مخافة فقر فالذى فعل الفقر
ـ وإذا أتتك مذمتى من ناقص فهي الشهادة لى بأنى كامل
ـ لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
ـ ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
ـ يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول
ـ وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
ـ من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بيت إيلام
ـ وأظلم أهل الظل من بات حاسدا لمن بات فى نعمائه يتقلب
ـ وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
وما الجمع بين الماء والنا ر فى يدى بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
ـ بذا قضت الايام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد
هذه نماذج متباينة من أوجه مختلفة
الاول : يرمز للملك والاراة والعدل
أما الثانى فيرمز لحب التغيير مع التفاؤل :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بدلليل أن ينجلى ولا بد للقيد أن ينكسر
ويقول :
ألا انهض وسر فى سبيل الحياة فمن نام لم تنتظره الحياة
وأما الثالث فيرمز للطموح والحكمة والاعتداد بالذات حتى أنه يشرك نفسه مع ممدوحه فى مدحه :
أنا الذى نظر الاعمى الى أدبى وأسمعت كلماتى من به صمم
أنام ملء جفونى عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
ولقائل أن يقول : لقد أكثرت من الشعر أما أنا فأجيب : يا هذا ، إنها نماذج منتقاة من شعر المتنبئ بعضها أمثال سائرة وبعضها شواهد معتبرة . إنه أبو الطيب المتنبئ الذى ملأ الدنيا وشغل الناس
ولقائل أن يقول : أما آن لقصتك أن تنتهى ؟
أما أنا فأقول : إن الحديث شجون وللقصة بقية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه : يعجبنى الرجل إذا سيم خطة ضيم قال لا بملء فيه
2ـ يقال إن المتنبئ لما سئل عن معجزته أجاب : إنها تكمن فى هذا البيت ، وفيما يتعلق بنبوءته فقد اطلعت على بعض الدراسات التى اختزلتها فى مرحلة الشباب فى بادية السماوة ، ويتعلق الامر ب ” صدح المطر ”