الدولة الديمقراطية في موريتانيا عوائق النشأة والمسار / د.باب ولد أحمد ولد الشيخ سيديا

09-46.jpg يبدو الاشكال اشكالا فلسفيا بالدرجة الأولى، حول العلائق التى طالما شكلت ثنائية لكثير القول والتحليل في الوسائل والتقديرات وضرورات الحتمية التاريخية التى تفرض نوعا من المغايرة والانقياد أو الفعل المتزن في إطار المقاربات المعاصرة.

ولما كان هذا الفعل في جزئياته، هو منتج قيمي وأخلاقي بالأساس، ينتج أدوات التغيير وسلمية البقاء والتداول بين المجتمعات في آليات بشرية موضوعة من قبل أهل الرأي والفكر عموما، ممن يحددون المفاهيم ويعطونها الألق والتميز أو المعنى المراد وضعه أو تبيينه، ليبقى المفهوم هنا نتيجة لاتفاق ضمنى مؤداه الحركة الجماهيرية الواسعة بمفهومها العام وتهيئتها وصناعة رغبتها في خلق القوانين والمؤسسات المدنية الضرورية لبقاء العناصر قادرة على أداء مهماتها المناطة بها في جو من العدالة والانضباط والاستمرار في عطائها ودورها في ترسيخ القيم والثوابت المرجعية والأخلاقية بصورة مجملة.

لكن هذا القول رغم وجاهته التاريخية، لا ينفى تقنين وتبيئة المفاهيم في منطقة تختلف من حيث الخصوصية عن عوالم مشابهة تقلدت هذا النموذج وأثبت جدارته في ترتيب الأولويات وتسيير الخلافات بمنطق أقرب إلى المقاصدية الشرعية في لملمة الخلافات وإعطاء الحقوق وتقديم الضمانات اللازمة لتسيير المجتمع وفق مفهوم الأغلبية الواعية جدا بالآخر وضروراته المختلفة، لذا فالنموذج المفاهيمي يقترب من المثالية في تعاطى الثنائتين دون تعارض ولا اشكال في نظام حكم معقلن ومسير وضابط لمنطق الخلاف مهما كان نوعه أو طبيعته. ولو كانت التجارب الصلبة في تاريخية الممارسة أثبتت على الأقل نظريا تقدما كبيرا ومدهشا في التعاطى وترتيب البيت الداخلى وفق نظام مؤسساتى لاق الرواج وتحقيق المراد في البلدان المعنية.

والحق أن هذا المنتج المتحدث عنه، لم يكن نتيجة منطقية وتاريخية في مبتدئه لسلسلة الأحداث التى مرت بها المنطقة، ولا هو أمر أفرزته التحولات الجينية التى عرفتها المجتمعات العربية والإفريقية في البحث عن الأدوات التى تضمن آليات التغيير وسلميته،

مما يستدعى النظر والبحث عن النجاعة المطلوبة، والتى لن تتأتى بأخذ المسار بغضه وغضيضه دونما النظر إلى مآلات الأمور و أحوال السياق المجالي وخصوصياته التى تتطلب مقاربات غير تقليدية في ترتيب الأولويات ومسايرة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، بقدر من الانصاف وإعطاء الحقوق والعمل على معالجة المظالم التاريخية بمراجعات للسياسات المنتجة في هذا المجال.

لقد كان بحق هذا المنتج الغربي واجدا المرادف النظري على الأقل في الممارسة الفعلية في المجتمعات المصاقبة أو العامة في البحث عن العدالة والحرية والقيم المشتركة فى انسجام البشر وبحثه عن الحريات العامة في مكتسب طبيعي أنتج مع تواجد الكائن البشري عموما، وإن قننه وكيفه وفق أحواله وسياق مجاله.

وهو أمر بحث كثيرا في الكتب السلطانية الاسلامية في عناوين من قبيل: ” سياسة الرعية” و”الامام الأعظم” و” الاجماع الأهلى” إلى غيرها من المصطلحات العميقة الأثر في المنظومة الاسلامية، لكنها ظلت في واقع الأمر تجربة نظرية ثرية جدا في المجال الثقافي، حول ما للإمام من أدوار وما عليه اتجاه أمته من أعمال ووظائف دنيوية وأخروية،بل كان دورها كثيفا وهاما في إيجاد الشرعية المجتمعية المفقودة.

لكن هذه التجربة في سياسية الرعية، تظل قولا عاما وتأسيسا نظريا ما لم تتداعى مختلف العقول نحو رصد الاختلافات والاختلالات فى مجتمعها، دونما اقصاء لأي وجهة نظر مهما كانت بل يتطلب الأمر قدرا من التفاعل المجتمعي لمرحلة تاريخية هامة يمر بها المجال الموريتاني، وان استأنست بتواريخها العامة في مجال التسيير وبناء الدولة المعاصرة و الاقتباس من جميع مراحلها فى بناء هذا المشروع الوليد.

ولعل من المهم التذكير هنا بأن المفهوم فى شكله لم يتغير كثيرا ، فقد اعتمد القوم حال تشكل الدولة المعاصرة نمطا معينا لا يختلف عن سابقيه وهو ما قلل من التفاعل مع اللحظة النشاز لتشكل سياقا بوحدها يأخذ عاطفة وغلبة وحين القول بسلبية المجال أو أشياء من هذا القبيل، لتبرز الذات مدافعة ومنافحة حينا بحق أو بعدمه, على أن المقصد هنا هو أن لحظة التأسيس وبعدها بفترات من عمر الدولة المعاصرة لم يحصل فيه طارئ كبير رغم التغيرات الحاصلة في بلغة العيش وفى التحول من نمط اقتصادي معين إلى آخر فرضه الزمن والجفاف ونضوب البلاد، على أن ثمة عاملان حسب نظرنا يحددان بشكل كبير فهم الدولة والمقاصد منها وهما يتفقان كثيرا مع ماض البلاد فى ظل غياب السلطان:

الولاء الجغرافي والقبلي النابع من مصالح الفرد فى إطار المجموع لأبناء محيطه ممن جمعهم الولاء والعصبة، ذبا لمصالحهم ودفاعا عنها أمام النوائب والمستجدات، لذا ظل الدعم أو السند القبلي واجدا الأرضية الملائمة لتحركه ودعمه من قبل جماعة الحل والعقد ممن انطوى تحت لوائها الفقهاء و أهل الرأي.

التأسيس الشرعي المنبثق من رؤية مفادها البحث عن المصالح والضرورات، وهو ما يفسره واقع البلاد وأحوالها التى انتجت معايير قبل الدولة الوطنية تعايش القوم معها، وحصل التفاعل وفقها تسييرا وإنتاجا، ليتم الانصهار بين المجموعات و الاثنيات في إطار من التفاهم والتوافق والاجتماع الأهلي، وبقاء أواصر القربي ودعمها بالمقدرات والجاه الرمزي والمادي ، وهو أمر يستدعى منا النظر إلى معوقات ظلت من المشكلات البنيوية في تأريخ هذا المجتمع، وقللت من فرص نجاح أي مشروع لبناء الدولة المعاصرة المتسامحة مع أعراقها والمتصالحة مع تواريخها، والناظرة إلى مستقبلها بكثير من الأريحية والتفاؤل.

وقد ظلت ثمة عوائق كبيرة لصيقة جدا بالتطور التاريخيى المؤسساتى في هذا المجال مقللة من فرص نجاحه وواضعة العراقيل الجسام في تطوره رغم صدقية التوجه أحيانا في رسم معالم الدولة وتجاوز مشكلاتها البنيوية في التأسيس وفي العمل على اشباع الرغبات والضرورات التى يفرضها التغيير المجتمعي الحاصل من المفهوم القبلي والاتحادات القبيلة إلى الدولة العامة التى تسع الجميع بمختلف نحله ومذاهبه وطوائفه. ولعل هذه العوائق البنيوية تتمثل في الأمور التالية اختصارا للقول، ومخافة التطويل:

التوازن القبلي في موازاة الدولة وهو أمر قلل كثيرا من فعالية المراسيم التى أنتجت في محاربة هذه الظاهرة في شقها المادي والرمزي ، وما يترتب عليها من منافع وسلطة معنوية توازي الكيان الموجود ذاته.

والحق أن هذا الفاعل ظل مرتكزا آمنا لأبناء القبيلة ممن يركنون إليه حين البحث عن المصالح، بل هو في مقصد من مقاصده يجد الشرعية التاريخية في الالتحام والانصهار و تقنين الخلاف و الاستئناس بالتجارب الماضوية في هذا المجال الذي لم يعرف السلطة السياسية الجامعة لأبنائه.

عدم حسم الهوية الثقافية وهو أمر ظل من المتجاوز في السياسات الحكومية وإن حسم في كليات عامة لا تختص بالمجال المعني وحده. ليظل الخلاف حتى أيام الناس هذه حول المسار الذي يجب أن تتبناه الدولة وأن تسير وفقه وهو أمر ظل أقرب إلى التحيين والاستدعاء الانتخابي وفق نظام عاطفي يدغدغ المشاعر العامة حين الحاجة إليه.

ضعف المؤسسات الحزبية: لم تستطع هذه الأحزاب رغم نشوئها مع الدولة أن تستقطب الجماهير والبنى القبيلة في نظام جديد، وإن انبنت في معطياتها العامة حول مفاهيم مستحدثة من قبيل الشعب والأمة الواحدة، لكن هذا القول ظل يقترب إلى التنظير العام لا إلى الواقع المعاش، وهو أمر ألقى بظلاله على كل تصور مستحدث في بناء الديمقراطية الحقة في هذا المجال المعني. على أن ثمة عوائق أخرى يجب الانتباه إليها في أي تصالح مع الذات مهما كان نوعه مما يتمثل في الآتى:

محاربة الفساد: في ظل اختلاس الأموال العامة، فإن الفساد يؤدي إلى إضعاف الإجراءات المتخذة من قِبل الشركاء والفاعلين الخارجيين في مكافحة التطرف، كما أنه يعمق الفجوة في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وقد قامت الدول الموريتانية بسن التشريعات والقوانين الضرورية من أجل وأد هذه الظاهرة. لكنها بالمقابل ظلت عقبة كأداء في أي تصور جدي في بناء العدالة الاجتماعية وهو مطلب تكثر دواعيه وتتكرر لكن إجابته تبقى في الحل اللحظي وليس النظر العميق والاستئناس بالتجارب المختلفة في هذا المجال.

ضعف وازع الانتماء إلى الدولة ومؤسساتها وعقدها الاجتماعي الذي انبت عليه.

عدم فعالية المؤسسات الديمقراطية: ونعنى به ضرورة أن دور هذه المؤسسات أفرغ من محتواه الطبيعي الآسر والمحقق الكثير من الأمنيات والأحلام، والمطالب الجمعوية. لتظل هذه الممارسة في قالب التكيف مع الأحوال والضرورات المفروضة عالميا وإقليميا.

ارتفاع نسب الأمية في مقابل تعليم نخبوي: بعد تجربة الكثير من النماذج التعليمية قديمها وحديثها، لابد من الوقوف بحزم في معالجة الخلل العميق البادي في المؤسسات التعليمية، وإعطاء الحلول الطويلة المدى والفعالة جدا في تخطى المشاكل والعثرات وعدم الحاجة و انخفاض المستويات في جميع المراحل التعليمية.

دور الدولة اتجاه المواطن بحاجة إلى التفعيل والعمل على خلق الضمانات الأساسية في أن يتحول العقل الجمعي المنتمي إلى فضائه القبلى حين الجوائح والعوارض إلى عقل يستجيب للمؤسساتية، ويجد فيها الوجاهة والقيمة المطلوبة في قيامها.

تطوير العقليات المجتمعية وخلق الفرص الكفيلة بذلك.

وعموما فإن وضع سياسة عمومية لترسيخ المفهوم الديمقراطي والتناوب السلطوي لابد أن يمر ضرورة ببناء مشروع منسجم مع الثوابت المرجعية ومتصالح مع الذات العامة التى تستدعى التقويم ورصد الاختلالات العميقة التى انتجتها المظالم التاريخية من جهة والتراكمات الطويلة في عدم معالجتها أو النظر إليها بقدر من التعاطى الايجابي والتصالح مع الذات دون سياسة لا تتفهم الواقع أو الصيرورة التاريخية أو الاستئناس بالتجارب العامة في هذا المجال من جهة ثانية.

والحق هنا أننا بحاجة إلى بناء دولة مدنية حقة تتجاوز الأيام العصيبة والتكتلات الفئوية إلى فضاء أرحب يتساوى فيه الجميع أمام القانون وتوجد فيه الذات دونما خوف ولا طمع مهما كان نوعه أوطبيعته، لكننا بحاجة أكثر إلى نقاش فكري عام حول أدوات التغيير والتحول والوسائل الأنسب في مواجهة الأخطار والآفات دونما اقصاء ولا مواربة، وهو ما نرجو أن يتحقق قريبا في فتح نقاش جدي حول مسار الدولة وعوائق الديمقراطية في هذا المجال المعني.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى