إحياء ذكري أب الدبلوماسية الموريتانية / محمود ولد ازوين

09-236.jpgكان خطاب السيد الرئيس في قمة داكار، روعة في المضمون و في الشكل، و كذالك في التقديم، بلسان فصيح بدون مضغ ولا لدغ في الحروف، كما تميز هذا الخطاب بجرأة في الطرح أيضا حين و ضع مناظرة بين نجاع الاستراتجيات الأمريكية و الفرنسية في محاربة الإرهاب في الساحل، و صرح بتفضيله للأولي علي الثانية، و كان أكثر جرأة حين تطرق إلي ضرورة إعادة هيكلة قوة الأمم المتحدة. ولا يقل روعة و ضرب في الصميم، خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. فالدبلوماسية الموريتانية بدأت رويدا رويدا تأخذ شكلها وتتجسد.

وإحياء سُنة بناء السفارات الموريتانية، من خلال وضع الحجر الأساسي لمقر البعثة الدبلوماسية في نيامي، عاصمة النيجر، يبعث للاطمئنان علي تمدد هيبة الدولة ومضيها قدما في حماية مواطنها، ونرفع قبعتنا للسيد الرئيس إجلالا و تبجيلا، فكان هناك من يسعي لبيع سفارات، شيدت منذ عقود لتشهد بحضور موريتانيا في العالم، مقابل مبلغ زهيد لا يسمن الدولة ولا يغنيها من جوع، ووجد من يبرر له ذالك تحت قبعة البرلمان، فمن بيع مبني سفارة موريتانية، فهو يبيع جزء من التراب الوطني الذي يفترض دستوريا، أن يحميه، ولا يستبعد أن يبيع جزءا من الحوزة الترابية إذا وجد من يدفع له الثمن، فالرجل لا يفقه من مسؤولياته إلا اسمها. فنهج السيد الرئيس، محمد ولد الشيخ الغزواني، يذكر بزمن مضي علي موريتانيا، حين كان لها رأي يعلل في المحافل الدولية، له صداه في جميع أصقاع المعمورة، ويجلب الضيوف الكرام من كل صوب وحدب، إلي ارض شنقيط الرملية التي جعل منها، رجال مؤمنون، قبلة وقطعة من تراث البشرية.

ولا يفوتني أن استحضر هنا رجل يعد مهندس هذه الحقبة من تاريخ الدبلوماسية الموريتانية، التقيت به لأول مرة، من باب الصدفة، في مطار باريس، سنة 1993، انه السيد حمدي ولد مكناس، وفي ذكرى وفاته العشرين، نطلب له من الله رحمة واسعة وإدخاله فسيح جنانه مع الصديقين والأولياء والصالحين.

لمعت الرجل، فترجلت إليه، وأخذت أدفع بالعربة التي تحمل أمتعته اتجاه مكتب التسجيل، وأنا أتبادل معه التحيات، وبعد اكتمال الإجراءات، وضع حقيبة كانت بيده علي الطاولة وسحب منها مفكرة (calepin) وقلم، ثم طلب مني، بكل أدب وتواضع، إن اكتب له أسمي الكامل ورقم التلفون. فلم يكون لي إلا أن عرفته علي نفسي، فأغلق الحقيبة وأمرني، بنبرة، أن احملها قائلا أن ما فعلته ليس شيئا يذكر في حق الوالدين (ذ كاع ما هو شي اف حق الوالدين، ارفد، يعني الفاليزه)،ثم توجهنا معا صوب قاعة الانتظار وكان يسألني عن مساري وسبب حضوري في باريس وأشياء أخري، فأجبه وأتمعن، فالرجل ابهرني بحداثته وحديثه، تناسقا وجودة تركيب، في لغة فرنسية طليقة، مع تعلقه الشديد باحترام العادات والتقاليد.

وفي سنة 1996، رافقت المدير العام للخطوط الجوية الموريتانية، في زيارة عمل للإمارات العربية المتحدة، وبالضبط في إمارة الشارقة، حيث كان في استقبالنا الشخصية البارزة، السيد عبد الرحمن الجروان، الذي أصبح، فيما بلغني من خبره، رئيس جائزة الدكتور الأمير محمد بن سلطان، للأعمال الإدارية، ومستشاره الدبلوماسي. وخلال تبادل أطراف الحديث، قال أنني اذكره، بصديقه الموريتاني حمدي ولد مكناس، فسألته أنا عن طبيعة علاقاتهما،

ورد علي انه بعد استقلال الإمارات، أطلقت الدولة الجديدة نداءا للأطر، للمشاركة في عملية البناء، وانه كان آنذاك طالبا في لندن، فعاد إلي البلد وعين وكيلا لوزارة الخارجية، في حين كانت الدولة تسعي إلي الاعتراف والعضوية في المنظمات الدولية، لكنه لم تكون لديه خبرة تذكر فيما كُلف به.وفي احدي مناسبات انعقاد مؤتمر المنظمة الإسلامية، كُلِفَ وزير خارجية الإمارات بالتوجه إلي ذالك المؤتمر لفعل ما يُلْزِمُ للانضمام، إلا انه في اللحظة الأخيرة طرأت عليه مهمة ملحة في نيويورك، تتعلق بالأمم المتحدة، فكان السيد عبد الرحمن الجروان، بحكم موقعه، مكلفا بالتوجه إلي القمة الإسلامية وكانت أول خرج له في المحافل الدولية.حطّ الرحال، هو والوفد المرافق له، حجزوا الفندق وكانوا في انتظار انطلاق المؤتمر ليروا ما هم فاعلون. وبينما هو في غرفته، دق عليه احد، ففتح الباب، وإذا برجل يقول له، بعد السلام : “أنا السيد حمدي ولد مكناس، وزير خارجية موريتانيا، سمعت أن هنا وفد من دولة الإمارات العربية المتحدة، قدم لطلب الانضمام إلي المنظمة، وجئت لأضع تحت تصرفكم ما ليدينا من خبرة وعلاقات لتحقيق ما انتم جئتم من اجله”. فرتب هذا الرجل كل شيء، من لقاءات واتصالات مع الوفود المشاركة، وفحوي الخطاب وبقي مع لجنة تحرير المحضر في غرفتها، حتى صياغة قرار الانضمام. فكان السيد حمدي ولد مكناس، حقيقة وحكما، يقول السيد الجروان، هو وزير شؤون خارجية الإمارات خلال أيام المؤتمر ويرجع له الفضل في كل ما تحقق،فكان ما كان لهذا التصرف من رجل الغيث، رجل العناية الإلهية، من توفيق فيما جنته موريتانيا من إعجاب و احترام في القلوب الإماراتية، والخليجية بصفة عامة، كما قَلِبَ بفعله هذا، في طرفة عينٍ، رأسا علي عقب، كل ما زُرِعَ، سِنينَ عديدة، من تَفيهٍ للكيان الموريتاني وتشويهِ صورتهِ في أذهانهم وأذهان العرب إبان الاستقلال.فنجم الرجل سطع علياء في كل سماء، عربيا وإفريقيا، وحتى عالميا، والمَقامُ في عهده، الذي حظيت به موريتانيا في محافل الأمم، برهان علي نجاع دبلوماسيته.فالمرحوم كان وعاء رجل دولة بكل المعاير، كان شامخا ببنيته القوية، رزينا بأخلاقه الراسخة، صارما بأفعاله وأقواله، قنوعا بحاله ومتعففا عن المال، لا يقبل هدية، حسب من خبروه، خشية شبهة الرشوة أو شراء الذمة، ولا أدل علي ذالك التعفف، من دفعه شيكا في الخزينة، بقمة عشرة ملايين دولار بعد الانقلاب.

فأبو العاص ابن الربيع، رضي الله عنه، رفض مقايضة إسلامه مقابل تمليك أموال تجار قريش التي احتجزت عنده في الأسر، خوف رميه بالخيانة، فسير العير إلي مكة وكان أكثر من 160 جملا وحمولتها، وبعد إعطاء كل ذي حق حقه، أعلن علي رؤوس الأشهاد، في سوق مكة إسلامه ويمم وجهه شطر مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم.

وبعد الانقلاب أيضا، كان رجلا شجاعا حين عاد من الخرطوم وأصحابه يرمون في السجون ، وذالك دليل آخر علي أن هذا الرجل كان شهما ونظيفا، ناصعا لا يخشي ما يخدش شرفه، مقبلا علي السجن باسم التضامن في السراء والضراء مع زملائه، مدبرا قصور المغرب والخليج، وفلآهات ابد جان، ليبر فيل وداكار، أو فنادق باريس.

وبعد الانقلاب أيضا، كان الطَّائر النادر الذي يصطاده جميع الزعماء، أفارقة وعرب، و كانت علاقاته بهم تطبعها الصداقة أكثر من الاستشارة، والسر في ذالك انه يضع دائما مُحاوِرَهُ في أقصي درجات الطمأنينة، حتى يكاد يتخيلها أُلْفَةً. وهنا، استشهد بكلام العلامة حمدا ولد التاه، حفظه الله، الذي قال في مقابلة تلفزيونيه، أن المرحوم حمدي ولد مكناس، الذي عمل معه، كان حريصا، علي تحضير ورقة تعريفية للدولة التي ينوي زيارتها، فمعرفة العادات والطبخ والمعالم والمحطات التاريخية، معينة علي تمييل القلوب.

ويضاف إلي بُعْدِ الخبير المتمرس، الْبُعْدُ الإنساني والأخلاقي للرجل، فجعل منه هذا وذاك، صديقا لكل من يلقاه، فمثلا عمار بونقو، هوفوت ابوانيي، معمر القذافي، الشيخ زايد وآخرون كثر، كانوا يرون فيه قيمة إضافية في جهودهم الدبلوماسية ومرجعية للدفع بملفاتهم إلي الأمام، وأصابوا فيما ذهبوا إليه، فهو مهندس التقارب والتنسيق العربي- الإفريقي في كثير من القضايا، وكانت له مداخله الشخصية في أروقة القرار، وله علاقات وطيدة في عالم السياسة والسلطة الرابعة، ولهذا كله، كان الفاتح المغوار في الاتجاهين، مهاب ومسموع الرأي.

ففي عهده، اخترعت الدبلوماسية الموريتانية مصطلح “نقطة وصل بين إفريقيا والعالم العربي”، وكانت فكرة عبقرية سوقها المرحوم، بحرفية، في أذهان العالم، حتى أصبحت الدولة الموريتانية، عند العجم، أكثر افريقية (africanité) بين الأفارقة، وأصبحت، عند العرب، بلاد المليون شاعر، وارض الرباط والمنارة عند العالم الإسلامي، وهنا استشهد، مرة أخري، بالعلامة حمدا ولد التاه الذي قال في نفس المقابلة، انه حول هو، محضر القمة العربية في تونس إلي شعر قرئ في قاعة الاجتماعات، فرحلت تصفيقا منقطع النظير، وكان يوم انتصار الدبلوماسية بالشعر، أظنه الفريد من نوعه في العالم كله. فالمرحوم، من حسن توفيقه، شدّ الله أزره بمثل هذا الرجل الصالح الذي قال في نفس المقابلة “أن العربي ما حسدو”، بل كرمه وأعطي الحدث كل الزخم الذي يليق به داخليا وخارجيا.وبهذا المصطلح، اخترقت صفوف الغرب، شرقا و غربا، وحركات التحرر في جميع أنحاء العالم، فكانوا مناضلي PAIGC ،ANC ،FRELIMO وOLP يحملون جوازات سفر موريتانيا، وزرعت في نفوس هؤلاء المناضلين الذين أصبحوا اليوم زعماء بلدانهم، حب من آواهم في زمن الضيق والمطاردة، فعقيدة أهل المبادئ الثورية هي: “اثنين لا أنساهما، من عانني و من عان علي”. وتوالت، تتويجا لتلك الجهود الدبلوماسية، الزيارات من عمالقة رجال زمنهم، فحط الرحال بين ظهرانينا، جمال عبد الناصر، هرم القومية العربية، والملك فيصل ابن عبد العزيز، صاحب الانهيار المالي العالمي أثناء حرب أكتوبر وقاطع النفط عن الغرب، والرئيس هواري بومدين، صاحب مؤثر عدم الانحياز وفكرة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وليوبولد سيدار سنقور، شاعر الزنوجة (la négritude) وفيلسوفها، والشيخ زايد آل انهيان، والصباح جابر آل الصباح، والملك الحسن الثاني واللائحة تطول. وعلي ذكر هذا الأخير، يمكننا القول أن المرحوم حمدي ولد مكناس ألهمه، من خلال اجتماع نظمه في مقر الأمم المتحد لوزراء الدول الإسلامية، للنظر في محرقة القدس في سنة 1969، ألهمه فكرة لجنة القدس وترأسها، واحتضان القمة التأسيسية لمنظمة المؤتمر الإسلامي في 1972، فمبادرة المرحوم وفكرته في الاجتماع المذكور كان نواة انطلاق تأسيس هذه المنظمة. وفي الاتجاه الآخر، أُستقبل الرئيس المختار ولد داداه، بفضل دبلوماسيته، استقبال الأبطال، من طرف تيتو، ثالث مؤسسي حركة عدم الانحياز، والملك سيهانوك رمز كامبودجيا وموحدها بعد الخمير الحمر، وكيم ايل سونق، رمز الصمود في وجه القوي الامبريالية، واشوين لآي، قادة مسيرة، والأمثلة لا يمكن حصرها.لكن موريتانيا، رغم توجهها هذا إلي قوي التقدم ومدها يد المساعدة لحركات التحرر، كانت تحظي بنفس الاحترام والتقدير لدي العالم الغربي، فدبلوماسيتها كانت متزنة وتحسب كل عواقب خطاها في كل اتجاه وعكسه، تماما مثل وزيرها، المرحوم حمدي ولد مكناس، جزاه الله خيرا عن عمل اسند إليه فأتقنه، فرحمة واسعة لنبراس الدبلوماسية الموريتانية.

انواكشوط، 18 ديسمبر 2019

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى