كما حامت على النار الفراشة

بدأ الضوء الساطع يخرج الدبابير من جحورها ويدفعها للبحث في محاضر مختومة من طرف الجلادين وجلاوزة الأنظمة باعتبارها ” وثائق” تنشر لأول مرة وهي إن صحت نسبة القول لها وصح “الإسناد” ” وثائق” بائسة وشاهد زور صدئ علاه الغبار وعلا وجوه اصحابه الأصليين والحالين العار وغدت بالإجماع الجزء المظلم والأكثر قتامة من ذاكرة البلد الكئيبة وسنوات رصاصه الحزينة، التي ليس فيها من الآثار إلا أقدام المناضلين الشرفاء العارية أو أختام المخبرين والمحققين والقتلة والجلادين.

لقد خف من احترف الأذى والشتم والنيل من أعراض الناس نحو هذه “الآثار” وإن كان الاحتمال الأقرب للعقل يفيد بأن له ماض تليد معها ومع ومطابخها الفائرة بعذابات الآدميين، خف إليها دون إدراك منه بأن محاضر الشرطة رغم تحريفها وعدم مصداقيتها المعروفين للكافة، فيها من أوسمة الشرف والرفعة لمن أراد الإساءة إليهم من المناضلين الشرفاء ما لا يدرك مطلقا “للمناضلين” المزيفين من ذوي الأمجاد السياسية الكرتونية وبالوناتها وأباطرتها الراحلين حبوا إلى الشهرة والمجد السياسي على مانشيتات الإعلام الورقي الرخيص وأعمدة المواقع المسيرة بالمال الوفير المشبوه المصادر والمتعدد الجهات، التي أثمرت ركاما من الكتبة فاقدي الموهبة والحياء، ممن توهموا أنه يكفي في ظروف موريتانيا الحالية أن يملك المرء طبلا وموقعا وإذاعة لتسير الناس حوله منصاعة.

فهلا حدثنا مؤرخ المحاضر بما اباحت له به وتناجت معك فيه محاضره من تفاصيل السنين العجاف لحكم ولد هيدالة حليف جماعته السياسي، وبعده سنوات ولد الطائع المتطاولة، و ما قرأ فيها أو كتب بنفسه أو نقل من أخبار عن مجتمع “المخبرين” حول جلسات التحقيق واستخدام آخر ما ابتكرته التكنولوجيا من وسائل التعذيب البشرية والاعتقالات ضد البعثيين الذين طالتهم بالمئات وشملت حتى النساء الحوامل في سنوات 1982 و 1983 ؟ وما صدر عن محاكماتها العسكرية من أحكام قاسية وصلت 12 سنة مع الأعمال الشاقة؟ وهلا أخبرتنا بما كتبت أو أخبرتك به المحاضر حول ما دار في معتقلات “أجيردة” و”جيني ميليتير” و”مدرسة الشرطة” وفي شوارع وأزقة نواكشوط ومفوضيات أطار ولعيون وكيفة … لمواجهة انتفاضة نيسان ابريل الخالدة 1984، وهلا أخبرتنا أنت او من تعاون معك في نبش المحاضر العارف بذلك التاريخ ودقائقه عن ظروف وفاة شهداء العزة والكرامة من الحركة الناصرية الذين أعلموا التاريخ السياسي الحديث لبلادنا وطرزوا غرة جبينه بقصة استشهادهما الزكية حين خاضوا يوم اليمامة بلا سيف، بلا خيل، بلا درق… وكان كل واحد منهما فارسا للبلقاء في مواجهة جيش طليحة ومسيلمة وسجاح… أن تلك الاحداث جسيمة ومعروفة وقدم فيها مناضلو الحركة القومية من التضحيات ما لا سبيل إلى نكرانه او المرور عليه بشكل عابر لأنه هو جوهر تلك المحاضر وتفاصيله هي التي سودت تلك الصفحات مثلما سودت وجوه فاعليه والمشرفين عليه وما زالت مستمرة في تسويدها إلى اليوم، ونكراته او نكران بعضه هو نكران لجزء مشع من ذاكرة موريتانيا الحديثة ومن يحوم عليه على نحو ما فعلت للنيل من أصحابه الشرفاء هو كما تحوم على النار الفراشة. فلا تغتر بالعناوين التجارية وأسلوب ” الماركيتينك” من قبيل ” اعترافات تنشر لأول مرة” لتعود بالقارئ إلى محاضر شرطة الأنظمة العسكرية ما هو صحيح النسبة إلىها موشوم بدم المناضلين الشرفاء وجلادتهم وصمودهم البطولي تحت سياط التعذيب في أيام كان السجن السياسي ” الداخل فيه مفقود و الخارج منه مولود” وليس إقامات تقام حولها الولائم ويسهل التسلل والهروب منها وفي أيام كان مجرد الحديث عن أصحابه يدخل المرء في زمرتهم و في أيام ومحطات كانت سارية النضال خفاقة بيد القوميين وحدهم يشدون عليها بقبضاتهم وفي ايام كانت مواجهة الجلادين حكرا عليهم.

مع أن سياق الحديث حول ” المحاضر” وسهولة خلاصاته وضعف مقدماته لا يوحي بأن ما كتب ونسب إليها إلا محض إنشاء ووضع ومظهر للعجز في الحديث حول ما يتاح للعامة الوقوف عليه واللواذ بما هو سري ودفين ملفات المخبرين عملا بالقول الشعبي المأثور ” إل يبغ يكذب إبعد أشهود”

وعلى ذكر محمد يحظيه ولد ابريد الليل وممد ولد احمد الذين استطردت “اعترافاتهم” و” جبنهم” و”تعلقهم بالمال” وغير ذلك من تهمك أو تهم محاضرك ” إن وجدت حقا” فالمنصف والمهتم الجدي بالتاريخ السياسي الموريتاني يعرف ذينك الرجلين ويدرك على نحو متفق عليه ومن أصبح من مسلمات الحقائق السياسية أنهما كانا وظلا من أكثر السياسيين الموريتانيين شجاعة وجلادة ومطاولة ومصداقية فيما يتعلق بالثبات على الموقف والتضحية من أجله، فلم يمكث سياسي موريتاني في السجون قدر مكوثهما فيها، هما ورفاقهما ولم يتعرض للتعذيب والتنكيل قدر تعرضهما له ومع ذلك بقيا ملتفين بمبادئهما وقيمهما السياسية النبيلة وفي مقدمتها النزاهة الفكرية والجهر بما يؤمنان به وعفة اللسان وطهر النفس وسلامة اليد والذمة، فالأول دخل الوظائف السامية منذ السبعينيات واصبح عضوا في الحكومة في وقت مبكر وعين على أكبر مؤسسات البلاد لكنه بقي مناضلا يكتب رأيه صريحا نزيها في الصحف والمجلات دون إذاية لجهة أو شخص مهما اختلف معه، وهو اليوم يسكن في شقة متواضعة من ثلاث بيوت يؤجرها قرب سوق العاصمة لا يرضى بها صغار الموظفين المبتدئين في الإدارة الموريتانية! أحرى أصحاب السوابق في التعيينات العليا ومن تطاولوا في البنيان في غفلة من الناس ودون مبرر في الجهد أو التحصيل..

أما رفيقه في درب الكفاح القاسي ممد ولد احمد فقد ولج الوظيفة معه في الفترة نفسها وعين في العديد من الوظائف السامية آخرها مفوضية الأمن الغذائي ووزير التنمية الريفية على التوالي وها هو اليوم يسكن في حي قصي من أحياء العاصمة ” كارفور” بين الكادحين وبسطاء الناس في بيت تناوش جدرانه التشققات والثقوب…أيها المخبر بما في المحاضر أظن أنك أحسنت إلى من نسبت إليهم هذين العلمين من حيث أردت أن تسيئ إليهم، وأنك سلكت نهجا في الوقاحة السياسية ستجلب به من الضر إلى من أردت الإحسان إليهم أو توهمت أنك تريده ما لم يدر بخلدك أو يخطر لك على بال، وأنك مثل كثيرين غيرك من الطرفين أخرجتم سجالكم السياسي من حدود اللياقة الدنيا إلى حدود العهر السياسي وصحافة الرصيف الرخيصة،.

فليعلم كل من يسيئ إلى رمز من رموز جماعة سياسية أو فكرية معينة أنه بفعله ذلك يسارع الخطوات بلحم رموزه الكثيف إلى وضم الآخرين إن كان له في الواقع رموز، وأن نسبة كلام إلى فرد أو مجموعة سياسية إذا لم تكن موثقة فهي تحامل وافتراء كما فعلت إلى حد الآن عندما أسست حكما كاملا على عقيدة مجموعة سياسية من خلال محاضر شرطة، في حين أن من نسب له الكلام في المحاضرعرف بوضوح رؤيته وقلمه السياسي والفكري السيال في أشد الظروف حرجا وحساسية.

وما دمت في تطوافك القاتل على نار الفتنة تورد كلام الأفراد وتصريحاتهم فالناس لديها كلام كبار رموز الجماعة التي تتوهم أنك تدافع عنها في تسفيه عقائد طوائف المسلمين الكثيرة في هذا البلد وهي فتاوى تراجعوا عنها في مواقف أخرى ومواقفهم وفتاواهم المتناقضة مسجلة بأقلام وأصوات أصحابها . وهي غير مسجلة في محاضر الشرطة أو تحت الإكراه وإنما في اشرطة جيدة الصنع وعلى ورق صقيل. وخارج موريتانيا لدينا كلام أمام ومحج معروف هو حسن الترابي ينكر فيه على نحو صريح وواضح ما علم من الدين بالضرورة من قبيل: إنكار وجود سدرة المنتهى وإمامة المرأة ووجود المسيح… وغير ذلك من الموبيقات التي لم نسمع منكم تهميشا عليها لحد الآن. و يقينا أن هناك احتملات عديدة تعززها القرائن لو أتيح لنا أو لغيرنا الوصول إلى محاضر الشرطة كما أتيح لكم لأننا رأينا ما رآه العامة من اعترافات.

ولتعلم ويعلم غيرك من الطائفتين أن السجال السياسي والفكري لا ضير فيه ما لم يخرج عن حواف أصول الكتابة الأخلاقية وحواف أدب الاختلاف، وإن انفلت عقاله من ذلك النحو اصبح مثل الشر: أول شاب اجميله وأعكاب كهله بازوره.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى