من هو الشنقيطي؟

عندما سُئل أمير سعودي كان حاكما للمدينة، عن رأيه في الشناقطة، قال: لا مخدرات ولا قتل، ناس مسالمون طيبون، “بس عندهم شوية تزوير”.!

لخص الأمير طبيعة أولئك المجاورين الوادعة، وميلهم للسلم والهدوء، بينما نبّه على عيب ملازم لهم. وهو كلام معناه أنهم لم يستطيعوا التخلص من تمرد البدو، على طريقتهم “الوادعة”، فهم ينفرون من تعقيد المدنية ويتكاسلون عن أداء حقوقها ولذلك لا يرون بأسا في التلاعب بالأوراق الثبوتية لتسهيل التنقل أو لتفادي الترحيل إلى بلادهم.

شناقطة اليوم يجوبون العالم، مطارات وموانئ، يتجرون كما كان آباؤهم يتجرون، لكنهم يبحثون عن الربح بأية وسيلة، لم يعد متجرهم ومكيلتهم بلاد السودان بحثا عن الذهب والحبوب، حاملين الملح والصمغ، بل صار همهم الربح وبأية وسيلة في بيع وشراء بضائع الاستهلاك الشخصي من ملبوس وطعام ودواء، آل بهم ذلك إلى “بعض التزوير” في المصنوعات، جيدها ورديئها، وجانب من خلف الوعد وتضييع الأمانات، لكنهم يتهيبون الدخول في لعبة أكبر منهم قد تفضي إلى سجن مؤبد أو إعدام.

وهم اليوم، في الجزيرة، الحجاز والإمارات، طائفة معروفة، تعيش من تراث “سلفها الصالح”، وتفيد من صورة “المسالمة” و “الخشية” من العنف.

كان الحج نافذة الشناقطة على العالم، وأهم دولة عرفتها الصحراء، وهي دولة المرابطين، كانت نتيجة مباشرة لأول رحلة حج “رسمية” من الصحراء، وهي رحلة حج الأمير الصنهاجي يحي بن إبراهيم الگدالي (أو اللمتوني على الأرجح)، وكان مرّ مقْفله من حجّه، بفقيه القيروان الشيخ أبو عمران الفاسي وهيئ له الصلة بتلاميذه في التخوم الجنوبية للصحراء، فوجد الصنهاجي بغيته في شاب داعية صبور هو عبد الله بن ياسين بن بُگ ّالجزولي، ت451هـ، وكان تلميذ ؤگاگ بن زلو اللمطي الذي تخرج على يدي الفاسي قديما، فاتجه الجزولي إلى الصحراء وأسس بدعوته قيام دولة في العصبية اللمتونية. وبذلك كان هذا الحدث التاريخي الصحراوي منطلقا من الحج ومتصلا بشبكة العلماء المالكيين السنيين في المشرق والمغرب: وهي أركان التاريخ الديني والثقافي للبلاد الشنقيطية من الأمس إلى اليوم حيث الحج والصلات بالعلماء منبع المعارف ومرجع التدين!

كانت صورة الشناقطة لدى أهل الأمصار، أنهم قوم تغلب عليهم سذاجة العيش وبساطة المظهر، يحفظون المتون وينشدون الأشعار ويقنعون بالقليل.

هل هي سخرية مبطنة مظهرها الإعجاب بهذه الندرة البدوية، الماثلة في مظهر رث ولسان فصيح وحافظة واعية، وكأنه جمع بين الضب والنون؟

لم يعد أحد يعرف موريتانيا بالدرجة التي عُرفت بها شنقيط، وهي حال غلبت على بلاد العرب منذ انتصاف القرن الماضي، وجعلت المختار بن حامدُ، وكان حينها تاجرا صغيرا متنقلا، ينتفض غضبا من السخرية التي بسطها كاتب لبناني عن موريتانيا ممثلة في رسم ساخر لامرأة هي زينب النفزاوية زوج أميريْ المرابطين وتحتها كتب كلام منه هذه هي المرأة في موريتانيا!

دفعت الرجل الحمية للأهل والوطن فطفق يقمّش ويشذّب ويجمع ويرتّب ما علق بالذاكرة في البوادي والقرى من أيام القبائل وأخبار العلماء إنقاذا لبقية التراث الشنقيطي. وقد توفي ولم ير بعينيه ثمار عمله، لكنه بذل جهدا حميدا لم يكدّر صفوه إلا التحريف أو المراجعة المريبة التي حصلت لأوراقه. ولم تلق الدولة بالا لكتابة التاريخ العام فصار مجالا للتلاعب حتى بكتيّبات مثل الأدوية المغشوشة براقة المظهر سيئة المخبر، وإن بدأت تكتمل أعمال شاملة وكاملة من قبل المختصين.

كان ذلك في عاصمة مستعمرة فرنسا في أفريقيا الغربية وفي دكان تاجر لبناني، وتشاء الأقدار أن تكون بوابة المستعمر الفرنسي “نافذة” على العرب والعروبة!

الصورة القادحة، ماثلة لدى الكتاب المنتقدين في بداوة الشناقطة وبعد بلادهم من أمصار الإسلام، وجل الناس بهم وبأرضهم.

كتب مصري مقالة عنيفة عنوانها: رسالة إلى ابن بطوطة الرحالة، دفاعا عن زيارة السادات لإسرائيل ونقدا لموقف موريتانيا الرافض لتلك الزيارة، قائلا: وصلت أرض المطار المكسوة بالتراب والغبار… مملكة يحكمها ولد السالك مشهورة بين الممالك… وطفق يسب ويلعن ويسخر من ضعف البنية الأساسية وقساوة والمناخ بفعل ريح السموم، ومن أشياء كثيرة..

تلك صورة موريتانيا المستقلة بلاد مغبرة تكسوها الرمال وأرض مجهولة لا تذكر إلا مع الشقيقتين جيبوتي والصومال..

وعندما انتقد ابن التلاميد خصومه البرزنجييين وشكك في نسبتهم الشريفة، رد أحمد البرزنجي برسالة عنوانها (فتْكة البرّاض بالشنقيطي المعترض على القاضي عياض)، صدرها بالقول: قوم شماطيط تجمعهم عند المشارقة كلمة شنقيط.. وشكك في أهليتهم لصناعة المنطق وحذق المعارف العقلية الأخرى.

والموريتانيون سريعو الحساسية إزاء النقد لبلادهم لكنهم لا يعيرونها اهتماما وهم بين ظهرانيها.

فعندما تحدث السيد هيكل عن لعنة الجغرافية، رددوا جميعا كل بطريقته، أن الكاتب المصري نسي لعنة التاريخ تلك التي تجعل بلدا كبيرا، كل شيئ فيه ضخم: الناس والأشياء والأهرام وحتى حبات الفول، يخرج من التاريخ في عقود قليلة لأنه اختار فتات الموائد الغربية على العروبة والكرامة… حسب قولهم.

لا يشعر الموريتانيون، أحفاد شنقيط، بعقدة النقص، لا إزاء الحضارة ولا المدنية ولا حتى القوة والمال.

إنه الغرور الصحراوي والشعور بالمركزية الثقافية البدوية: أو في الحقيقة، بشكل أكثر تواضعا، هو غرور مزعج ولذيذ في آن معا. وكان سمح لهم بذلك الصيت الكبير، الوهمي أو النصف حقيقي، بين عرب المشرق، وقد رأوهم بعيون “أندلسية” مشفقة، مشدوهة من قوة ملكة الحفظ لدى هؤلاء البدو رثي الثياب، وفي الأغلب فقراء، لكنهم شديدو الفخر بأنفسهم، والاعتزاز ببني جلدتهم في عصور امرئ القيس وعهود الرشيد، وهي ذكريات مريحة، تعطي إحساسا بالتميز، وحتى بالتفوق.. لكنها قطعا مانعة للنقد الذاتي ولمحاسبة النفس ومراجعة المواقف والنظر بعين فاحصة للمستقبل.

وهو أيضا جانب من تأثير النزعة المتوسطية: وقد تحدث عنها المؤرخ الفرنسي فرنان ابروديل في كتابه عن “عالم المتوسط” ووصفه بـ “اقتصاد ـ عالم”، أي وحدة تاريخية لها نسق اعتمادها المتبادل وتلاقحها الحضاري، بغض النظر عن الاختلاف الديني أو العرقي. وتعطي أطروحته حظا للشناقطة “أهل الصحراء” في استنشاق نسيم المتوسط، ولو رمزيا. لأن الصحراء الكبرى ـ حسب ابروديل ـ جزء من اقتصاد ـ عالم المتوسط، وهي كذلك خزان بشري بالأقوام الذين جددوا دماء الكيان الشمال إفريقي وأنقذوا دوله مرات عديدة، كما هو شأن المرابطين، وهم من غرب الصحراء، ومتوسطيون أيضا! ويعتقدون أنه يحق لهم اليوم، مع تطور وسائل الاتصال، وامتداد الطرق العابرة للصحراء شمالا، أن يفكروا في تعزيز النزعة المتوسطية، ذلك الحنين إلى الشواطئ اللازوردية والمرافئ العتيقة، بحسبانها مياههم الدفيئة، أو على الأقل، إن لم يكونوا توسعيين كروسيا القيصرية، فهم حالمون بالخروج من أسر الصحراء والتخلص من الرهانات المزعجة لمنطقة “الساحل”.

ولذلك ظلت بلادهم حاضنة لحركات سياسيةـ دينية، يمدها خزان من رجال الصحراء الصبورين، ثم يتجهون نحو الشمال، تماما كما تهاجر الطيور بعيدا. وهي ظاهرة تاريخية غريبة، تجعل الصحراء منبتا للثورات والحركات لكنها تعجز عن إقامة السلطان، فهل هو العجز عن توطين رسوم الملك؟ والفشل في التعاطي مع طبائع العمران الحضري، في العرف الخلدوني!

وبذلك ظلت صحراء شنقيط حاضنة لقوى بشرية لكنها تعجز عن الاحتفاظ بها فتجد مآلها في بلاد أخرى، تصير مركزا ومقاما.

هو الحنين للشمال، وهي محطة على طريق الشرق، منبع النور، ومركز القداسة، ومنطلق الأجداد، هناك حيث الأصل النبيل الأول!

يعتقد بعض “الحداثيين” الموريتانيين، أن الصلة بالعالم العربي، مبالغ فيها، بل إن بوصلة التاريخ الموريتاني كانت، دواما، تتجه جنوبا، نحو النهر، وتخوم الغابة، من أجل التجارة، والتموين بالحبوب، والإفادة من ريع “البركة الدينية” بين السكان الأفارقة.

وبالطبع كانت تركة الاستعمار الفرنسي ماثلة في الإدارة والسلوك وجهاز الحكم، وظل ذلك عائقا تجاه تقوية العلاقة مع العرب مشارقة ومغاربة.

يذهب بعض “المتعصبين” من ذوي التوجه “الفرنسي” إلى أبعد من ذلك، حيث يرون العروبة، والتعريب، والعلاقة مع العرب، مجرد شعارات للحركات القومية القادمة من المشرق العربي، أيضا!

يُنسب لرواد مدرسة “التراجمة” التي حكمت البلاد لأول مرة، اختراع نظرية “همزة الوصل” تفسيرا لعجز البلاد عن ملئ الفرغ القائم بين المغرب وإفريقيا، بين المتوسط والغابة!

ولذلك لم يجد رمزها المختار بن داداه، من “حل” إلا مزيدا من ربط البلاد، كما كانت في عهد الاستعمار، بغرب إفريقيا الفرنسيةـ الزنجية. وكرد فعل متوالي، ظلت القوى الوطنية المسلحة والمدنية تصارع لفصل شنقيط المعاصرة عن رهانات النهر والغابة وتوجيهها نحو الشمال القريب اتصالا بعالم العرب الواسع الممتد.

ورغم حرص أهل البلاد على التواصل مع بلاد العرب، ولو رمزيا، إن تقطعت الأسباب، ولم يبالوا بأية دعوة تاريخية أو ثقافية تشكك في عروبتهم رغم “أصولهم” المختلفة.

تشكل مجتمع الشناقطة من جذمين كبيرين: صنهاجة الصحراء وعرب الهجرة الهلالية من بني حسّان، مع أسر قليلة عربية وتركية وجرمانية وبقايا الجرمنت الأقدمين وفئام من نسل الفنيقيين والفرس وغيرهم، وانصهر الكل في بوتقة صحراوية شديدة القسوة، أعطتهم لسانا عربيا هيمن على تفكيرهم ومزاجهم وسلوكهم، سودا وحمرا و”بيضا”.

اكتملت هوية البيضان (عرب الصحراء الكبرى) في القرنين الثامن والتاسع (14-15م) وتم ميلادها “الرسمي” نهائيا بين الحادي عشر والثاني عشر (17-18م)، بعد أن وصل العرب واللمتونيون إلى “إجماع” صحراوي متوازن، وتواشجت بينهم الأرحام واعترفوا ببعضهم، وانتفت بينهم عقد النقص والدونية والريبة!

انحسر اللثام تدريجيا عن وجه الإنسان الصحراوي، تبعا لاختلاطه بالعرب الحسّانييّن، خضوعا أو مصاهرة، وكان التفاهم قد تم ليتجلى في الزي والسحنة ونحلة العيش: صار لأهل الصحراء الشنقيطية رحل جمل خاص، صنع أولا في بلاد تكنة، يكاد يستحيل كرسيا قائما، لا يشبهه أي رحل في صحارى العالم، وأصبح لهم تقليد الحماية (نحر الجمل علامة لعقد الحلف والأمان)، وانتشرت لهجتهم العربية بظلالها الصنهاجية في نطاق يشمل غرب الصحراء كاملا (موريتانيا وتندوف والساقية إلى گلميم وما حوله) وتميزوا حين انتشر شرب الشاي بينهم، بكؤوسهم الثلاث المترعة، وبطريقة وطقوس لا توجد لدى غيرهم من مستعملي تلك الشجيرة الأسيوية.

وهم رغم فئويتهم الشديدة، وتفاخر في الأنساب والأرحام، نسيج قائم بذاته، مودة وقرابة ومؤانسة ومآكلة ومشاربة، أيا تكن رتبة الفرد اجتماعيا، ولذلك كانت حضارة البيضان صناعة مركبة فيها إسهام الجميع من الحرفيين (الصنّاع)، والحراطين (العتقاء) والفنانين (الموسيقيين)، و الزوايا (رجال الدين) وحسّان (المحاربون أهل الشوكة). وبالطبع ليست هناك أية دلالة عرقية لأي من تلك الفئات.

وكان القرن الحادي عشر عصر بني حسان الفعلي، حيث سقطت تنبكتو مع انهيار دولة سنغاي الإسلامية وانفرط ركب حجها التكروري، وصعدت في الشمال دولة العلويين أصهار وظهير المغافرة، جرت بين الفريقين حرب طويلة ضارية ومريرة هي حرب (شرُّ ـ بُبّا الكبرى) التي دارت رحاها في شمال وشمال غرب بلاد شنقيط بين القرن الثامن وانتصاف القرن التاسع تقريبا (14-15م) بين عرب بني حسّان بقيادة أولاد الناصر ضد صنهاجة الصحراء بقيادة دولة لمتونة (ابدّوكّلْ= الأصدقاء + الرفقاء) وانتهت بانتصار أولاد الناصر وبني عمومتهم على صنهاجة ودولة لمتونة، فتفكك الحلف اللمتوني وانهار نفسيا وبشريا وخضع للعرب الحسّانيين الذين فرضوا على المهزومين لغتهم العربية وتقاليدهم الحربية وحولوا أغلبهم إلى أتباع محتقرين، لكنهم اختصوا المجموعات المسالمة المختصة بالإمامة والقضاء والتجارة، بمعاملة مميزة فيها كثير من الاحترام والحماية، بينما استطاعت قلة من قادة المحاربين المهزومين أن تختفي من المطاردة لتمهد لنهضة لمتونية جديدة قادمة.

أعطى صنهاجة تراثهم المالكي، وتديّنَهم الصحراوي، وقدّم عرب بني حسّان لسانهم المضري “المستعجم”، وانصهر القوم في بيئة شديدة القسوة فرضت عليهم عزلة الدهر.

قدم صنهاجة خبرتهم في استنباط المياه، واختراق الصحراء، وأعطى الحسّانيّون تراث الفروسية وذاكرة عرب الجزيرة بحلوها ومرها.

لقد كان التّبَيْضُنْ (التحول إلى نحْلة البيضان وطريقتهم وسلوكهم) نتاج الهيمنة العربية الحسّانية، بعد شرُّ بُبّا الكبرى، لكن اكتماله كعملية تاريخية تطلب قرونا متطاولة من تغير نحل العيش والسلوك والتفكير والتدين والمزاج.

جرت عملية تمازج قوية عبر المصاهرات، والمعاملة، فتخلى الصنهاجيون عن نسب الأم، واختاروا الانتماء للآباء والفخر بهم، على الطريقة العربية، وهي بالطبع مبدأ شرعي، ما يدل على أن حرب شرُّببُّه الكبرى كان فيها شيئ من قتال نزعات غير إسلامية رائجة قبل الهجرة الحسانية، فكانت تلك الحرب هي الفتح العربي الثاني الحساني بعد الفتح الإسلامي وهو الفتح العربي الأول.

لقد صار البيضان شعبا واحدا منذ القرن الحادي عشر (17م) وازداد وعيهم بتميزهم عن إخوانهم من عجم السودان جنوبا وبربر التوارق شرقا، وسكان المغرب شمالا، كلما اتصلوا بالمشرق عبر الحج والرحلات.

ثم لم يلبثوا حينا من الدهر، حتى عرفت نخبتهم بالشناقطة، فانتشرت التسمية وعرفوا بها في الخافقين.

لقد كان ظهور اسم شنقيط والشناقطة مشرقيا، ترجمة وتعبيرا، في الآن نفسه، عن ظهور ملامح مجتمع البيضان محليا.

وكانت نزعة الحفظ لدى الشناقطة مكتسبا حسانيا، حيث كان الحسانيون يحفظون، ولم يكونوا يكتبون، قبل أن يتحولوا إلى حرفة التدين والزوايا.

سلك أولاد الزناگية من المغافرة مسلك أخوالهم من صنهاجة، فتصنهجوا نسبيا، رغم أصلهم العربي، بينما نهج بنوا عمومتهم من أولاد العربية نهج عرب الصعيد فنشروا في الأقاليم الشرقية من بلاد شنقيط نفسا عربيا محسوسا، في لحن اللهجة الحسانية وشعرها وموسيقاها، وكان ذلك ظاهرا في تقليد النخب العلمية في المدن الشرقية التي كانت صاحبة العلاقة مع المشرق والمغرب.

لقد حذق علماء ولاتة و تيشيت ركوب الإبل فكانوا سادة القوافل التجارية والحجية، والآخذين بزمام السير بها إلى المشرق عبر طرق مهولة ، بعد أن كان أسلافهم من أهل تنبكتو عاجزين عن ركوب الجمال، حتى أنهم بعد غزو مدينتهم بجيش الطاغية سن علي ملك سنغاي الشهير لم يستطيعوا ركوب الإبل إلا بصعوبة حين فرض عليهم الجلاء عن المدن الساحلية إلى ولاتة هربا من بطش الملك السوداني، وبأمر من أميرهم الصحراوي التارقي الآميونكال.

ومن الفتوة الصحراوية، ازدراء لنقود، جعل الشيخ سيديا الكبير وهو يتجول في سوق الكتب، لا يكلف نفسه عناء المماكسة ولا يلتفت لما بقي من الثمن ليأخذه البائع، مذهولا وساخرا، ربما، من لا مبالاة شنقيطية، يمدها كرم سلطاني بلا حدود!

يحبذ أحفاد الشناقطة اليوم، ذكر الخوارق والكرامات والغرائب، التي ينسبونها لأسلافهم من العلماء الحجاج والرحالين، ولايهمهم ما كابدوه من تعب ونصب في الدرس وما بينوه من غوامض ومن اتصل بهم من الأعيان والدارسين وانبهر بهم وبالغ في الاهتبال بعلمهم وفضلهم.

ولذلك يتفننون في ذكر خوارق المجيدري، وكيف أطفأ قناديل القاهرة في حي الأزهر، أما انبهار الأزهريين بحفظه وجلده على تصحيح تاج العروس للزبيدي، فلا يهم أحفاده إلا قليلا!

فتنوا بمختصر في الفقه ألفه خليل بن إسحاق المالكي الجندي، ت776هـ، تلخيصا لما به الفتوى على مذهب مالك مختصرا من أشهر مدونات علماء المالكية. وكانوا من قبل يعتمدون الرسالة لابن أبي زيد القيرواني فقيه المالكية بها، المتوفى 386هـ، وفيها طائفة صالحة من العقيدة السلفية ظلت قوتا لقلوب الصحراويين من أيام المرابطين، وأسهمت في التخفيف من غلواء الجمود لدى الفقهاء في أخريات أيام تلك الدولة وما تلاها.

تخلوا عن الرسالة، بل عن المدونة، واهتبلوا بالمختصر، فلاقى عندهم قبولا عجيبا، حتى أنساهم ما قبله، وبالغوا في تقديره واعتماده حتى قال التنبكتي “نحن قوم خليليون فإن ضل ضللنا”، وصرح المامي قائلا في بيت مشهور معناه: إن ألفاظ المختصر جامعة لما في الكتاب والسنة! وهي مبالغة مزعجة لم يخفف منها قول بعضهم: وما درى أن الحق ليس منحصرا في المختصر!

ولم يكتف أولئك بتلك العاطفة المشبوبة تجاه المختصر، بل اعتبروه، من الوجهة العلمية المحضة، في نظرهم، “معجزة” و “أعجوبة” يحسدهم عليها أرباب المذاهب الأخرى، تعطيهم متعة فك ألغازه والتعب في تحصيله وحفظه عن ظهر قلب، لذة يطيب بها عيش المسغبة في طلاب العلم، وسورا يحيط حرفتهم (حرفة الفقهاء) بسياج منيع يحميها المتطفلين ممن ليسوا بأهل لنيل شرف التفقه بالمختصر وتعليمه الناسَ.

وبحفظ المختصر يحفظون ما يتصل به من طرر وحواشي، وأنظام وتقاييد ونبذ وشروح وما إليها من أدوات الربط والإلصاق والفهم والتلقي والمراجعة.

ولعل ذلك هو مبعث “تقديسهم” لكل ما هو مكتوب، لأن الندرة تعطي ذلك السحر والسلطان على العقول والقلوب معا. وهو مغمز في ثقافة القوم لم يخلصوا منه إلا قليلا.

إنه الحفظ مرة أخرى أو إن شئنا الميل للراحة والخمول والدعة في ظلال الذاكرة من تعب النقل والتدوين ومن حر الصحراء أيضا أو منهما معا.

وتوراثت أجيال الشّناقِطة أساطير عن حفظ هذا المتن الصعب الشيق وعن معجزات وخوارق منعت من أراد تبسيطه وإرجاعه إلى عناصره الأولى سهلة واضحة.

ومنع المختصر ضياع المذهب ومكّن لسلطة الفقهاء وأحاطها بسور من الحرمة والمكانة لا يجاوزه العامة والشداة إلا قليلا، لكنه ألهاهم عن أصول المذهب وتأسيسها على القواعد الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة وكانا مركونين في صناديق الصحراء لا يخرجان إلا للقراءة تهجدا في جوف الليل أو سردا لصحيح البخاري غدوة أو عشية للتبرك والسكينة.

وظلوا ينفرون من التفسير وينظرون شزرا إلى من يشرح الحديث ويشدّدون النّكير على من يريد الفتوى بأدلتها مباشرة من القرءان أو من الحديث الشريف.

ميل عجيب إلى الجمود والتمسك بالفروع في نسخة متأخرة أعطاهم ما أرادوا في الأمصار العربية، حيث نفقت سوق المختصرات والمطولات والشروح والتعاليق والنبذ والحواشي، في اتصال بتقاليد ما سمي عصور الانحطاط والانكفاء.

وهو ما طبع طريقتهم في التأليف والتصنيف، حيث الأولى حشد النقول وبسط الأسماء وزيادة عدد الأوراق، وهي طريقة لم يتخلص منها أحفادهم من ذوي “الدراية الجامعية”، بله المهتمين بالتأليف وهم ليسوا له بأهل.

فهم لا يُولون أية عناية للنقد والتمحيص لكنهم يجمعون ويمدحون بألقاب رنانة من قبيل العلامة الفهامة الجليل ولا نظير له… وهناك من يسرد الأسماء والشواهد ويخلط بين الناس والصلات والأزمنة والأمكنة ويتزيّد في عرضها لكنه لا يعطي أية عناية لبناء هذا الكم للجواب عن سؤالات تؤرق أولي البصائر من شناقطة اليوم عن سر السمعة الحسنة رغم أن بضاعة القوم مزجاة من معارف الأصلين .

إنه أنموذج الفتوة الزاوية، مرة أخرى، الذي بهروا به المشارقة والمغاربة لكنه كان موضة تذهب بذهاب صاحبها، أو بتغير أحواله.

وهو أنموذج يحكم، إلى اليوم، طريقة التفكير والتأليف وحتى المحاورة، حيث الباحث الحق، أي الأكثر فتوة، هو الأعلى صوتا وصياحا، والأكثر محفوظا وسرا وليس، بالضرورة، الأكثر دقة في العزو للمظان والتحكم في المناهج، بل قد يتكلم عن المنهجية والمنهجي وإذا سئل عن ذلك لم يجد جوابا لأن المهم هو أن يؤلف وأن يكتب أما أن يكون وقافا عند حدود علمه وتكوينه، إن حصل، فذلك شأن الضعفاء والعجزة عن اقتناص فرص الظهور والبروز.. إنها الفتوة لا أكثر ولا أقل.

ميزات أنتجتها البداوة وغذتها العزلة وأمدتها القناعة، لكن أصحابها كانوا غرباء في عواصم السياسة وبلاطات الملوك، ولذلك لم يفيدوا من ذلك إلا قليلا.

عندما وقف ابن التلاميد بشجاعة وقوة أمام سلطان بني عثمان، كان قطعا صادقا في الثقة بالنفس، وهي شجاعة جلبها من بيئته، لكنه قطعا كان لا يدري خطر الموقف ودقة الخطاب، لأنهما غير مؤلفين لديه، ولذلك لم يعط كل ذلك أية أهمية، فكان أن ضاع جهده في الرحلة السلطانية لجمع الكتب العربية من خزائن أوروبا الغربية، فلم يرجع بطائل، لأنه لم يحسن عرض طلْبته، بل قدم مطلبه وكأنه يريد شيئا من أمير بدوي بين رجال عشيرته يخشون غائلة التشهير من ضيف يقول شعرا بين القبائل.

سرد ابن التلاميد قصيدة طنانة وعريضة طويلة وبلغة لم يفهمها السلطان أو حتى الصدر الأعظم أو أحد من أهل البلاط، فقال عبد الحميد: ماذا يقول هذا البدوي؟ كانت تلك طريقة الشّناقِطة في القراءة السريعة المختلطة على طريقة الحدْر عند القراء، المهم السرعة والجهد وليس البيان والدقة والترتيب والوضوح. والغريب أنها طريقة ما تزال قائمة حتى اليوم: أوضح المساجلين حجة هو أرفعهم صوتا وليس أوضحهم محجة..

يجمع أرشيف مشرقي كثيرا من غسيل الشّناقِطة: نزاعات أسرية، زيجات سرية، خلافات عائلية، صراع على مرتب من الأوقاف، وشاية أو ما يشبهها… وكأنه نقل لحياة التنافس والصراع بين بني العمومة في الصحراء إلى أحياء المدن الكبرى.

المزاج الصحراوي الحاد لم يكن لازم أهل جهة واحدة من البلاد، بل كان يطّوّفُ بالكثير من أهل الجهات الأخرى لاسيما من غرب البلاد: عالم شهير من أقاصي الغرب، يحل ببغداد مدرسا ومفتيا، ثم يرحل مغاضبا، وبسرعة مع سيل من السباب واللعن، لأن أسرة بغدادية غررت به فزوجته عانسا جاوزت الخمسين، بينما انتظر فتاة كاعبا كان خطبها وانتظر إتمام الأمر. قصة طريفة ومؤسفة ظل أهل دار السلام يتسامرون بها ردحا من الزمن، ولعل فيها شيئا من مكر أهل المدن بسكان البوادي، أو سخرية المشارقة بسكان الأطراف؟ لست أدريّ؟

الجرأة على السلطان، معها اللا مبلاة بالخصم وقوته ولو من العلماء، ها هو أمين الريحاني يذكر في كتابه ملوك العرب مجلسا جمعه بحاكم تهامة في جمع من العلماء فيهم شنقيطيان علت أصواتهما أمام علماء نجد، يقول الريحاني: خفت والله على هؤلاء الشناقطة من هؤلاء الوهابيين، لكنهم لم يبالوا!

هل هي الجرأة في قول الحق؟ أم مزاج بدوي حاد؟ أم هو الجهل بطبائع العمران ومنها مطالب المجالس الأميرية والخشية من زلات اللسان أمام علماء المذهب في عقر دارهم!

ونجد الفارس البركني المغفري اعلي بن امحيمد يُستقبل في بلاط السلطان العلوي مولاي اسماعيل ، فيمازحه الملك: انتم أصهاري لكنكم لستم بني عمومتي، محيلا إلى جدل المؤرخين بشأن جعفرية المعقل، فيرد البركني على البديهة وكأنه يخاطب نظيرا له: وانتم العلويون يقال فيكم كذا وكذا… يتأزم الحال ويشتعل غضب السلطان ولم ينجي الشنْقِيطي منه إلا طرفة حكتها من وراء الستار بنت عمه زوج السلطان الأميرة الصحراوية خناثة بنت بكار المغفرية وبسرعة البديهة شغلت الملك عن الواقعة وكانت أمرت بعض الحاشية بصرف ابن العم إلى خارج حدود السلطنة قبل أن يفتك به الملك. إنها مرة أخرى أدواء البداوة والجهل بطبائع العمران ومنه مراسم الملك والدولة.

ما يزال علماء شنْقِيط في مقدمة علماء العالم الإسلامي حفظا للمتون واستحضارا للمظان وفهما للنصوص لكنهم ليسو على صلة بمباحث التجديد وسجالات الفكر الإسلامي المعاصر، وقطعا لم يوطنوا في مدارسهم تقاليد التأليف والنشر إلى حد الساعة.

لم يتراجع جلد الشناقطة على الحفظ والتعلم، لكن هممهم ضعفت عن الرحلة لطلب العلم، وعنايتهم قلت بالأدب والشعر.

ما الذي يجعل سلاطين المغرب وملوك الجزيرة وأعيان الأمصار يقربون هؤلاء البدو بينما قدمت بلدانهم أعلاما مؤلفين لا يحوز الشّناقِطة معشار ما أنتجوه؟

هل الإعجاب بالحفظ والفصاحة، أم بالغرابة والندرة؟ أم مزيج من هذا وذاك، حسب الزمان والمكان.

منهج الحفظ كان نتاج نحلة العيش البدوية القائمة على الترحال، فكان النظم والشعر لكنهما قعدا بهم عن التأليف فأغلب الأقاليم التي تشتهر بالشعر والأدب أهلها لا يكادون يؤلفون إلا قليلا والفرق شاسع والبون واسع بين جزالة شعرهم وركاكة نثرهم. أما الأقاليم التي يحذق أهلها حرفة الكتابة والترسل ويتوسعون في التأليف، فعجزهم عن الشعر الجزل بيّن وقادح، ولذلك لم يصل كثير من شعراء شنقيط إلى المشرق، لسبب ظاهر هو كثرة الوافدين من الأقاليم الشرقية من العلماء والفقهاء.

افتنان بالعروبة والعروبة أولا ودائما لأنها تعني الإسلام والفتوح والرحم للنبي، أما العجمة فهي الكفر والهزيمة، فهاهو الشاعر ابن الطلبة يكفيه عند مترجمه أن يكون جاهليا أخره الله، وهاهو الفقيه محمد يحي الولاتي يمدحه مترجمه بقوله : كأنه عربي من تهامة، وذلك أقصى ما يُمدح به الشناقطة!

ومن هنا تعلق الشناقطة بالعروبة وطفقوا يدبجون ويكتبون لتوكيد الصلة بها، ولذلك تبدلت الأسماء وتغيرت الأنساب، لكن الغريب أنهم لم يهتموا بتدوين أصولهم العربية، حقا أو باطلا، إلا بعد أن دخلوا في امتحان غريب، إذ كان عليهم أن يختاروا بين التكرور والمغرب؟ فلما فعلوا لم يقبل أي من الفريقين انتسابهم إليه! حال عجيب لم يسأم منه أول باحث عن هوية شنقيط: عبد الرشيد الدليمي، جامع شهادات المشارقة والمغاربة علماء وسلاطين على مغربية شنقيط، كونها من بلاد المغرب الإسلامي وليست من بلاد تكرور! لكن جهده ذهب باطلا لأن مفتي المدينة العثماني، لم يقبل ما في تلك الصكوك. وتوفي ذلك العربي الحساني وفي نفسه مرارة من ضياع هوية عربية لا شك فيها.

هل قبول هؤلاء هو نتاج علمهم أم أنه كان سخرية واحتفاء بالغريب والنادر حتى لو كان بائسا فقيرا أم هو شعور بالقبول لمزاج صحراوي متقلب ومعارف تصلح للسمر أكثر منها للعلم والفكر والتعقل، أم هو نتاج الخلط والجمع بين المتعارض في الفكر والعلم والمعارف وآداب أشبه بالكدية وتماه مع الجميع: تشيع وتسنن وتأبض وتدين وشعوذة وبركة ولامبالاة وجرأة طريفة وفجة…

الشِّنْقيطي إذا قيلت في المشرق انصرفت الأذهان إلى رجلين لا ثالث لهما: أولهما محمد محمود بن التلاميد التركزي بجدله وحدته في الحق وحروبه مع الأدباء والعلماء والملوك وحفظه لأشعار العرب ولغتهم، فشغل الناس وأتعبهم.

وثانيهما: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني (آبّهْ بن اخطورهْ = شهرة) الذي انتقل بذكاء وعلم ولباقة من معارف المحضرة الفروعية إلى دعوة السلفية الوهابية، ونهل من معارف الأصلين من دون تردد ولا خشية، فاشتهر بتفسيره أضواء البيان وبتأصيله لعقيدة السلف، فحاز قبولا واسعا بين علماء نجد والحجاز ، لم يلقه أحد من أهل بلاده.

لقد كان الجكني أول اختراق شنقيطي لمدرسة السلفية النجدية وأبرز مظهر للقطيعة مع التقليد الفروعي الصحراوي القديم.

وهو سبيل سلكه اليوم الشيخ محمد الحسن بن الدّدَو، فصار واحدا من أبرز عشرة علماء في العالم الإسلامي، سلفي العقيدة، يحوز ملكة الفقهاء وحفظ العلماء، ورأي المعاصرين. فلعله “الشنقيطي الأخير”!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ هي الحرب الكبرى الحقيقية وقد سميت عليها حرب شرببه الصغرى التي جرت في أقصى جنوب غرب البلاد بين 1671-1677. وسيأتي ذكر حرب شرببا الكبرى في الفصل الموالي لدورها الحاسم في تكوين هوية البلاد. كما تمكن مراجعة: د.حماه الله السالم: تاريخ موريتانيا، العناصر الاساسية، الرباط، الزمان، 2005

*- من مقدمة كتاب قيد الصدور عن تراجم الشناقطة وجالياتهم في المشرق والمغرب وتركيا.


المصدر : أقلام حرة

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى