بين التصوف والسلفية في بلاد شنقيط – الحلقة الأولى

.

توطئة

  • ليس من اليسير كتابة تاريخ التصوف في موريتا وأسباب ذلك عدة في تقديري من أهمها:
  • – أن أهل التصوف أصلا يرون أن هذا العلم من خصائصه أنه ذوقي، ينقل بالتربية والحال والمعايشة، ولا يدوَّن كما تدوَّن العلوم الأخرى.
  • – أن حركة التأليف في البلد قديما وحديثا لم تتوسع في كتابة تاريخ التصوف وأحوال أهله.
  • – أن المناهج التعليمية المعاصرة لم تتناول الموضوع.
  • – أن جل ما كتب عن التصوف إما بعض الرقائق، أو ما يذكر في ثنايا تراجم الأعلام.
  • – أن معظم ما كتب عن التصوف لما يجد فرصة للنشر.
  • – أن كتابة تاريخ التصوف لا تخلو من بعض الحساسيات الاجتماعية بحكم التركيبة التاريخية للمجتمع.
  • ولكن أصعب شيء أن يكتب في الموضوع غير متخصص فيه، مثلي. وأدعو بهذه المناسبة المفكرين والكتاب والمهتمين بالتراث لنفض الغبار عن تراثنا الصوفي، ودراسة مخطوطاته وكتابة تاريخه بلغة العصر، فما أحوجنا اليوم إلى استحضار هذا التاريخ الحافل للاستفادة منه منهجا وأسلوبا تربية ومدرسة اجتماعية لمواجهة الفتن الفكرية العاصفة.
  • ولا يفوتني أن اشكر إخوة أفاضل زودوني بمعلومات أو أفكار وأشكر شكرا خاصا أخي الدكتور أحمد ولد نافع على ما تفضل به من معلومات مفيدة..
  • وفي هذه السطور سأتناول -بإذن الله- صفحات مختصرة من تاريخ التصوف وتاريخ “السلفية ” في موريتانيا، ولعل تلك المقارنة أدعى لفهم جزء من خلفية الصراع القديم الجديد بين الفريقين، مع محاولة تلمُّس نقاط التقاء بين المدرستين.
  • وقد قسمت المقال إلى خمس حلقات :
  • – (الحلقة الأولى): مفهوم التصوف ونشأته ومنهجه في بلاد شنقيط
  • – (الحلقة الثانية):السلفية في موريتانيا
  • – (الحلقة الثالثة): السلفية في عهد المرابطين
  • – (الحلقة الرابعة):التصوف علم وبناء وجهاد
  • – (الحلقة الخامسة) تشويه تاريخ التصوف في بلاد شنقيط
  • (الحلقة الأولى): مفهوم التصوف ونشأته ومنهجه في بلاد شنقيط

مفهوم التصوف

  • التصوف مدرسة سلوكية تهتم بتزكية النفس، وإحياء القلوب، ومداره على الالتزام بالكتاب والسنة، فما خالفهما فمردود، وما وافق فهو منهج القوم، أما ما حدث من انحرافات و تجاوزات في العصور المتأخرة، أو المتقدمة، فلا يلزم إلا من أحدثه، وليس حجة على التصوف، كما أن التجاوز الذي حدث في الشريعة الإسلامية، والانحراف الذي أحدثه بعض العلماء لا يلزم الإسلام، فالتصوف، كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه، “حجة على الصوفي وليس الصوفي حجة على التصوف”، كما أن الإسلام حجة على المسلم، وليس المسلم حجة على الإسلام، وكذلك المذاهب والنِّحل والملل، هي أبدا غير من يؤمن بها، وكذلك المثال وتطبيقه، ليسا متلازمين، إلا عند الأنبياء -عليهم السلام-، فهم أكمل الخلق، وهم بعد ذلك معصومون، فكل ما يفعلون يمثِّل الشرع الذي بُعثوا به، فمن ثم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “صلوا كما رأيتموني أصلي”؛ لأن فعله مطابق لما أُمر بتبليغه، أما سائر البشر فيقتربون ويبتعدون من تمثُّل الشرع، بقدر صلاحهم وتوفيقهم.
  • وأهل التصوف يسعون إلى الجمع بين صحة أعمال الجوارح الظاهرة، وتصحيح أعمال القلوب الخفية التي تحتاج إلى علاج أمراض النفس، وتحقيق الإخلاص في العمل. وبذلك فإن أهل التصوف تهمهم الثمرة والنتيجة أكثر من الاسم. يقول الشيخ عبد الله بن بيه: “فلنقل مع أبي حامد الغزالي: إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر، وعلم باطن، فعلم الظاهر هو أعمال الجوارح، وعلم الباطن هو أعمال القلوب، والوارد على القلوب- التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت- إما محمود أو مذموم ، فالتصوف هو النظر لأحوال القلوب، كما أن النظر لأحوال أعمال الجوارح سمي فقها إذ الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية. ولا ينبغي التوقف عند الاسم والعنوان فلا مشاحة في الاصطلاح، والأسماء إنما تعتبر بحسب محتواها وفحواها عند أهلها، فإذا كان هذا المحتوى حسنا كانت الأسماء حسنة، والعكس صحيح. ولعل ذلك مندرج في قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها)”، “أما ما يقع من الدعاوى فهو مردود على أهله، ومحاكَم بأصله، وقد أنكره القوم أشد إنكار. فعالم الغيب بالأصالة هو الباري جلت قدرته، ولكنه يعلّمه لمن يشاء من عباده من نبي مرسل، وملَك، وولي. والكرامات لا تخالف مأثورا، ولا تعارض مشهورا، وكل ما يخالف فهو مردود، وعن حياض العارفين مطرود، قال ابن عطاء الله : “ما من حال يتحققه ذو الحال إلا ويدعيه ذو المحال؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة”. فالصوفية ليست دينا خاصا، وإنما هي نوع من التخصص الوظيفي (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) لمعالجة باطن الإثم وأحوال القلوب طبقا للكتاب والسنة واجتهاد الأئمة واستحسانات الشيوخ، …”(1).
  • والتصوف مرْكَب صعب، ليس لكلٍّ أن يدعيه، أحرى أن يتصدر لإرشاد الخلق ونشر منهج القوم، فعن الجنيد -رضي الله عنه- قال: “لا يستحق الرجل أن يكون شيخا حتى يأخذ حظا من كل علم شرعي، وأن يتورع عن جميع المحارم، وأن يزهد في الدنيا، وألا يشرع في مداواة غيره إلا بعد فراغه من مداواة نفسه…”؛ لذلك ، كان مشايخ التصوف يحرصون على تحديد شروط الشيخ التي يجب أن يتصف بها حتى لا يَضلَّ أو يُضلَّ. فأئمة الطريقة التيجانية مثلا يحرضون أصحابهم على حفظ رائية سيدي أحمد الشريشي، التي يقول فيها متحدثا عن شروط الشيخ:

وللشيخ آيات إذا لم تكن له — فما هو إلا في ليالي الهوى يسري
إذا لم يكن علم لديه بظاهر — ولا باطن فاضرب به لجج البحر
وإن كان إلا أنه غير جامع — لوصفيهما جمعا على أكمل الأمر
فأقرب أحوال العليل إلى الردى — إذا لم يكن منها الطبيب على خُبْر
وآياته ألا يميل إلى هوى — فدنياه في طي وأخراه في نشر..(2)

التصوف في بلاد شنقيط: النشأة والمنهج

  • يرى معظم المؤرخين أن التصوف دخل موريتانيا في حدود القرن العاشر الهجري، ولعلهم يعنون بذلك التصوف ممثلا في الطرق الصوفية، وإلا فقد دخل التصوف موريتانية قبل ذلك بمدة طويلة، فإن التصوف من حيث هو تربية وسلوك دخل مع عبد الله بن ياسين، فهو من أقدم من عني في هذه البلاد بالتزكية والتربية الإحسانية التي قامت عليها دولة المرابطين، التي صاغت الثقافة والنفسية الموريتانية، وطبعت المجتمع بطباعها، إلى اليوم. وكان التصوف عند الشناقطة مدرسة سلوك ووسيلة لتهذيب النفوس وتطهير القلوب، حتى أصبح الأمر عادة اجتماعية، تدخل ضمن مكونات الحياة الفكرية للشناقطة ولا سيما الزوايا، يقول المؤرخ المختار بن حامدن: “كان الزوايا فيما قبل هذا القرن، إذا فات أحدهم شرة الشباب ، وربما في عصر الشباب ، يصحب أحد مشائخ الطرق الصوفية يأخذ عنه أذكارا ونصائح، ويربيه الشيخ بخدمة أو برياضة أو خلوة، حتى إذا رأى أنه تهذب ، أصدره وعممه وأصبح يلقب شيخا”. (3) والتحم التصوف بالعلم في رحاب المحظرة وكانت الزوايا الصوفية في البلاد سندا للمحاظر في تدريس علوم القرآن والحديث والفقه المالكي أصولا وقواعد وفروعا، والعقائد الأشعرية والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي وعلوم اللغة العربية”(4). وكان التصوف عند الموريتانيين على طريقة الجنيد، ومعتمدهم فيه كتب الغزالي، والسهروردي، والشعراني، والشيخ زروق، وابن عطاء الله السكندري وغيرهم. وقد اهتم الشناقطة بدراسة كتب التصوف التي وصلت إليهم فنظموها وشرحوها، فنظموا حِكَم ابن عطاء الله السكندري، وأبوابا من إحياء علوم الدين، كما وضعوا أنظاما في أصول طريق التصوف كـ”مَطْهَرة القلوب من قَتَر الرجس والذنوب”، و”مذيبة القلوب البديعة الأسلوب”. أما غير النظم فلهم تآليف في التصوف كـ”جذوة الأنوار في الذب عن أولياء الله الأخيار”، و”الجرعة الصافية والنصيحة الكافية”، و”إرشاد السالك في التصوف”، و”الفرق السديد والتتميم المفيد”، و”منتخب التصوف وشرحه مبصر المتشوف”.

الطرق الصوفية في موريتانيا

  • عرفت موريتانيا عدة طرق صوفية، أهمها: القادرية، والشاذلية، والتيجانية.
  • 1-القادرية: وقد أدخلها إلى موريتانيا الشيخ سيدي أعمر بن الشيخ سيد أحمد البكاي الكنتي (ت959هـ). وقد انقسمت إلى شعبتين: البكائية الكنتية، والفاضلية.
  • أ-البكائية: أسسها الشيخ سيدي أعمر في القرن العاشر الهجري، وبلغت أوجها مع الشيخ سيدي المختار الكنتي، وينتسب لها الشيخ سيديا الكبير، الذي تلمذ للشيخ سيد المختار الكنتي، ثم ابنه الشيخ سيدي محمد، وأخذ عنه عدد من أعلام البلاد، منهم الشيخ أحمد بن سليمان، والشيخ أحمد بن حبيب الرحمن. وأخذ عن الشيخ سيدي المختار أيضا الشيخ القاضي، والشيخ المصطفى بن العربي. وإلى نفس الفرع ينتسب الشيخ محمد المامي، والمرابط بن عبد الفتاح التركزي ، والشيخ سيدي محمد بن امني، في منطقة تكانت.
  • ب-الفاضلية: أسسها الشيخ محمد فاضل بن مامين القلقمي (1281هـ)، وأرسل ابنه الشيخ سعد بوه إلى منطقة الترارزة لنشر الطريقة، أما ابنه الشيخ ماء العينين فأرسله إلى آدرار والصحراء. وأخذ عن الشيخ ماء العينين الشيخ المجتبى البوصادي. وأخذ عن الشيخ سعد بوه الشيخ التراد الذي أخذ عنه محمد عبد الله بن آده البوصادي. ومن أبرز مشايخها في إفريقيا الشيخ أحمد بن حبيب الله البكي (أحمد بمب). وقد اعتقله الفرنسيون تسع سنين، في جهات شتى من إفريقيا، ثم أخرجوه إلى موريتانيا سنة 1321هـ حيث أخذ عليه عدد من الموريتانيين، ثم رجع إلى السنغال، وتوفي بها سنة 1340هـ، وتسمى طريقته المريدية(6).
  • 2-الشاذلية: أخذ عدد من الشناقطة الطريقة الشاذلية عن محمد بن ناصر الدرعي (ت1036هـ)، منهم سيدي محمد بن سيدي عثمان المحجوبي، وسيدي عبد الله التنواجيوي، ونختيرو بن المصطفى. ويمكن أن تكون الشاذلية قد دخلت موريتانيا قبل القادرية أو تزامن دخولهما، كما يرى بعض المؤرخين. ومن أبرز العلماء المنتسبين لها سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، وكان لا يلقن أذكارها إلا لمن درس أحكام الشرع. وعنه تلقاها تلميذه الطالب أحمد بن طوير الجنة. ومن أعيانها أيضا محمد فال بن متالي، ويحظيه بن عبد الودود، وعبد الجليل بن الحاج، والد حرمة بن عبد الجليل .
  • 3-التيجانية: وهي أحدث الطرق السائدة في موريتانيا، وأبرز مشايخها الشيخ محمد الحافظ بن المختار بن حبيب، الذي أخذ الطريقة من الشيخ أحمد التيجاني، وعاد إلى بلاد شنقيط سنة 1220هـ، ونشر الطريقة فيها، ونشرها أتباعه في إفريقيا. ومن أبرز مشايخها بعده سيدي مولود فال، ومحمد الصغير التيشيتي، صاحب الجيش الكبير، وبدي بن سيدينا، وأحمد بدي، ومحمد فال بن باب. وفي شرق البلاد ظهر الشيخ حماه الله شيخ الطريقة الحموية التيجانية، الذي دخل في مواجهة مع الفرنسيين، ونفوه في عدة مناطق داخل البلاد وخارجها. ومن أبرز مشايخها في إفريقيا الغربية الحاج عمر الفوتي، والحاج مالك سي، والشيخ إبراهيم نياس، الذي يعد أبرز دعاة إفريقيا الغربية في القرن العشرين.
  • 4-الغظفية: وهي مزيج من الطريقتين القادرية والشاذلية، وتنسب إلى الشيخ محمد الأغظف الداودي. وازدهرت في عهد الشيخ سيدي المختار بن الطالب أعمر بن نوح البصادي، وخلفائه، كالشيخ محمد محمود الخلف، والشيخ الغزواني، والشيخ المحفوظ بن بيه. وهي طريقة محكمة التنظيم وقد شغلت الفرنسيين، وكتبوا عنها عدة أبحاث وكتب، ويرى الشيخ الخليل النحوي أن ذلك الاهتمام قد يكون بسبب تميزها بثلاث سمات:
  • – أنها شنقيطية المنشأ.
  • – أن الشريف مولاي الزين قاتِل كبولاني ينتسب إليها.
  • – أنها نظمت هجرة جماعية إبان دخول الفرنسيين، فقد نظموا هجرة خمسين أسرة إلى الحج سنة 1904 م، وفي الطريق حملهم الأتراك إلى أسطنبول حيث استقبلهم السلطان عبد الحميد واستقروا بعد الحج في الأناضول.
  • وهناك طريقتان أخريان هما الصديقية والخضرية.(7).

    المصدر : المنارة والرباط

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى